الثلاثاء، أكتوبر 28، 2014

الذهنية المحافظة وخلق أسطورة بنت الفاميليا


تتسم المجتمعات المسلمة عموما بذهنية محافظة، ذات بنية ثقافية أبوية تمجد قيم العائلة وما يتصل بها من قيم فرعية تكون علاقة الرجل والمرأة مجالا لبروزها واشتغالها بشكل يخدم التصور الأبوي لطبيعة تلك العلاقة التي تموضع المرأة في وضع حرج يحملها مسؤولية حمل شرف العائلة، بشكل يجعل حريتها مرهونة بتلك المسؤولية التي لا تتدخل المرأة في تحديد تبعاتها، إنما يفعل المجتمع الذكوري ذلك.
غير أن التحديث المتسارع الذي مس البنى التقلدية في المجتمعات المسلمة خلال القرن الأخير قد ساهم في تهشيم الكثير من القواعد الناظمة لعلاقة الرجال بالنساء، حيث إقتحام النساء المتزايد لمجال التعليم والعمل وحصول الكثير من النساء على استقلال اقتصادي مكنهن من تخفيف الضغط العائلي عليهن، قد خلق أزمة قيم، وهي أزمة تصور لا يلتقي بسلوكه في الواقع، حيث لا يزال الوعي الذكوري يستبطن تصورات ماضوية عن المرأة؛ تصورات تصادر حريتها في التصرف في جسدها، وتنمطها في صور نموذجية: الأم، الأخت، الزوجة ... أي تصورات تجعلها كائنا ملحقا بالذكر بالضرورة وتابعا له بشكل كامل. وهذا التصور لا يصمد أمام تغيرات الواقع التي تخبر عن تحرر متزايد للمرأة وعن افتكاكها لمساحات تصرف لم تكن متاحة أمامها في الماضي القريب. هذا الاستقلال الأنثوي انعكس على شعور المرأة بحرية اتجاه ذاتها وجسدها الذي صارت ترى أن من حقها التصرف فيه وفق ما تحب وترغب لا وفق ما يقره المجتمع من طرق ووسائل التشارك الجسدي بين الرجال والنساء، إنما وفق ما يتيحه لها واقعها الجديد من حرية.
هذا واقع زعزع الكثير من المفاهيم القديمة المتصلة بالمرأة كمفهوم بنت الفاميلية الذي تسعى الذهنية المحافظة لململته وأسطرته على المستوى الخطابي واللفظي على الأقل، بعد أن انفلت من التأطير واقعيا بامتلاك النساء تدريجيتا لجرأة اقامة علاقات عميقة ومتعددة خارج مؤسسة الزواج مستغلين ما يوفره الطب من أمكانية استعادة العذرية، بشكل وضع التصور الرجالي عن بنت الفاميلية في مأزق بين مثال مرتجى وواقع لا يجود بذلك المثال إلا نادرا، فالرجل مأزوم الرجولة يبحث عن بنت الفاميلية بحسب ما يتصورها إثباتا لرجولته المأزومة والمهزوزة، وهو إن لم يجد هذه البنت فاميليا اختلقها أو اقنع نفسه بأن من اختارها هي كذلك، رغم أننا كرجال نعلم أننا نغض الطرف إكراما لأمانينا وإرضاء لغرورنا، مع أننا، في الحالات السوية غير مطالبين بغض الطرف عما نعتبره خروج عن النموذج والمثال المرتجى من طرف الذات لا من طرف المجتمع، فالاصل ان نتقبل الحرية الشخصية لنا ولشريكاتنا سواء كن حبيبات أو صديقات أو زوجات.
فالرجل يريد ويتمنى امرأة يكون هو رجلها الأولى ويدرك بينه وبين نفسه أن ذلك مستحيل في الوقت الحاضر، لكن المراة ( الأم، الأخت، الحبيبة، الزوجة ...) تدفعه للتمسك بذلك الوهم، لأنها تهينه وتنظر إليه بارتياب اذا ما هو صارحها بأنه غير مهتم بالماضي الجنسي لمن تكون شريكة حياته باعتباره ماضيها لوحدها، والحياة المشتركة تبدأ من لحظة بداية علاقتهما، فهي تدفعه ليتوجها بنت فاميليا بداية من الكذبة الاسطورية التي ترد بها كل النساء حين يسألن السؤال التاريخي: هل عرفت رجلا من قبل، فترد بلا وفي الغالب نعم ولكن معرفة سطحية او هاتف او اعجاب لا غير، أي انها تبدأ علاقتها بكذبة يعلم هو انها لكاذبة وتعلم هي أنه غير مصدق لما تقول لكنهما يدخلان في حالة توطؤ غير معلن على الكذب اكراما للنموذج المرتجى وهو بنت الفاميليا، فهي تريد ان تكون كذلك حتى وان لم تكن فعلا تتصف بالصفات المطلوبة في بنت الفاميليا. فالمرأة مهما بلغ تمردها أو تحررها الاجتماعي الذي يرفقه بالضرورة تحرر من نمط العلاقات المحافظة والتقليدية وبالتالي شعور بحرية امتلاك الجسد وحرية التصرف فيه ومشاركته مع من ترغب وتحب، لا تزال تريد ان تكون " بنت فاميلية " لأن هذه الصفة هي رأس مال رمزي توظفه في صراعها ضد الاخرين: عائلته، خليلاته المحتملات، وحتى عائلتها بشكل من الاشكال، أي انها صفة ونتيجة هيمنة الذهنيات المحافظة على المجتمع ككل، تموضها في وضع أكثر اريحية وثبات في بيت الزوجية، والرجل، الذي كلما تقدم في العمر كلما ازداد ميلا نحو تبني القيم المحافظة خاصة ما يتعلق منها بقيم العائلة التي على رأسها الشرف والإلتزام يهمه أن تتصف زوجته بهذه الصفة كرأس مال رمزي أيضا لأن زوجته هي شرفه، وسمعتها هي تاج فوق رأسه أو أشواك يسير عليها، فيجتهد في خلق الصورة النمطية لزوجته المستقبلية منذ اللحظة التي يقرر أنها ستكون زوجته، فيعاملها باحترام ويتحدث عنها بحشمة ووقار، رغم أنه قد كان يتحدث عنها وهي حبيبته او صديقته بعبارات ماجنة وبفخر بما فعل معها، لكنه حين يقررأنها ستكون له زوجة يغير ملفوظاته عنها، مجتهدا قدر استطاعته في تسويق صورة بنت الفاميليا عنها، وهذه الصورة الموثثة تفاصيلها بعناية تكاد تضاهي في دقتها وتفاصيلها واستراتجياتها طريقة صناعة النجوم والشخصيات السياسية المرشحة للعب أدوار مهمة وشغل مناصب رفيعة، وتسويق تلك الصورة يبدأ في محيطه العائلي أولا ومحيط المعارف والجيران، أي في المحيط الجغرافي الذي يشمل كل من يمكن ان تشكل ألسنة السوء لديهم تعكيرا لصوف حياته وخدشا لكرامته في حالة ما اذا كانت زوجته غير متصفة بصفات بنت الفاميليا.
إن بنت الفاميليا هي أسطورة مطلوبة من الرجل والمرأة وهي أسطورة يخلقها الرجل أكثر مما تخلقها المرأة نفسها.

السبت، أكتوبر 18، 2014

عن البطولة والبطل الروائي وبطالة السرد



تقوم فلسفة ما بعد الحداثة والتي أثرت بشكل كبير في الرواية، بالغرب خاصة، على أطروحة، يبدو أن الزمن يؤكد خطأها، قوامها نهاية السرديات الكبرى: التقدم والتنوير والثورة ... وهذه السرديات هي مجال اشتغال ومبرر وجود البطولة، لأنها تعطي الحجة الانطولوجية لوجود الشخصية البطلة في الرواية التي تبشر أو تحلم بتغيير العالم، وخلق شرط وجودي في ظل واقع اجتماعي لا يعادي إمكانية الرفض والتغيير. كان روبنسون كروزو ودون كيشوت وجوليان سوريل، وإيما بوفاري حالمين كبار في عالم يتيح الحلم وينفتح على المغامرة الممكنة النجاح، فرواية القرن الثامن والتاسع عشر هي رواية شدّاد الآفاق الذين ينجحون في إقامة عالم جديد وإن على أنقاض العالم القديم، كانت رواية الأبطال الفاعلين في التاريخ، فهي وبشكل كبير، رواية التوسع الامبر اطوري للغرب الذي سكنته تلك السرديات الكبرى: التنوير خاصة، والتي صارت رسالة تمثلتها الرواية باقتدار أكثر من أي فن آخر، فرسالة الغرب التنويرية للعالم، كواحدة من السرديات الامبريالية التي أنتجتها المركزية الأوروبية هي التي خلقت أبطال دانييل ديفو وجوزيف كوندراد وكيبلينك وغيرهم كثيرون من الذين يسميهم ادوارد سعيد: روائيو الامبراطورية. 
كانت رواية الشخصية، ومن ثم رواية البطل الذي يسميه لوكاتش، ومن بعده غولدمان إشكالي، قد ازدهرت بداية من دون كيشوت كأول بطل روائي يحلم بعالم لا تلتقي به خطاه إلا عرضا، وعرفت أوجها خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، عصر الحداثة والتنوير وسردياتهما الكبرى، لكن بداية من القرن العشرين وتحديدا منذ الحرب العالمية الأولى، لم يعد البطل يجد له مكانا في الرواية وإن حافظ على وجوده فيها كعنصر أساسي من عناصر العمل الروائي، لكنه حافظ على "وجوده التقني" في عمل يحتاج إلى مواد وعناصر، وفقد وجوده البطولي كفاعل في التاريخ وكحامل رسالة، فالبطل الروائي صار بداية من عشرينيات القرن العشرين يعيش " زمنه الضائع " وتيهه الأبدي، لهذا انتقلت الرواية لتحكي حيوات أبطال لا يملكون من البطولة غير الإسم، لأنها تصدر عن واقع لا بطولة فيه وتكتب التاريخ من الأسفل بعد أن استنفذت روايات الفرسان النبلاء وصانعوا التاريخ مبرر وجودها، فالبطل الشعبي الذي حاولت الفلسفة الوجودية بعثه عن طريق إدراجه في سياق يتسم بالتوتر الوجودي للإنسان مما يمنحه قدرة ما على لعب دور بطولي من خلال التمرد على العالم ورفضه ( ميرسو كامو وزربا كازانتكايس) لم يكن بأي شكل من الأشكال بديلا للبطل الكلاسيكي الذي يحمل رسالة ويتوجه بها إلى العالم معززا بيقين لا يكل ولا يفتر، ولم يسر بالبطولة كفعل في الواقع الاجتماعي لمزيد من التجلي. إن كل ما بلغته بطولة إنسان القرن العشرين كما تجلت في الرواية هو مزيد من الضياع الذي ينتهي بالرقص حول نار الحياة على صوت عويل الذئاب التي تحرم الروح سلامها.
وإذا انتقلنا إلى الرواية العربية فإننا سنجد وضعا أكثر هشاشة للذات الفاعلة في التاريخ (البطل)، نتيجة القمع الشديد الذي يمارسه الواقع الاجتماعي على أي نزوع فرداني، وقدرة الثقافة المجتمعية على قولبة الأفراد وفق نمط أساسي لا يملكون فكاكا من هالته وسحره الذي يصبغه عليه المجتمع. وللأمانة فإن الرواية العربية الحديثة لم تكن بأي شكل من الأشكال رواية بطل بالمعنى الايجابي للبطل الذي يعطيه دور قيادة التغيير الاجتماعي، رغم سعي روائيو اليسار العربي نحو خلق بطل ايجابي قادر على تغيير الواقع لكنه ظل في حدود الأماني الروائية دون أن يتمكن الروائي العربي إلا في حالات نادرة ( مصطفى سعيد الطيب صالح وسعيد مهران نجيب محفوظ ) من خلق بطل واجه مصيرا غير عادي وكان فاعلا فيه بشكل من الأشكال. 
إن الثقافة العربية الراهنة والتي لا زالت تعتاش أسطوريا على سير أبطال خرافيين رسختهم الحكايات والسير الشعبية في المخيال الجمعي للإنسان العربي، هي ثقافة عاجزة عن خلق البطل بعيدا عن نمطية البطل السياسي والعسكري الذي يتحدد بمقدار الانتصارات العسكرية التي يحققها دون غيرها من محددات البطولة، فمنذ غزوات الرسول وبطولات خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب مرورا ببطولات الفتح وانتصارات الخلفاء والأمراء التي تأسطرت لاحقا، إلى حروب محمد علي باشا وبطولة عمر المختار وزعامة جمال عبد الناصر ، لم يخلق بطل شاذ عن هذا النمط من البطولة في المخيال العربي، وهذا ما يجعل وجوده روائيا أمرا غير ممكن سوسيولوجيا، لأنه لا يمتلك القاعدة التي تتأسس عليها بطولاته في زمن لم تعد فيه الحرب مجال بطولة وقد اختطفت التكنولوجيا شديدة الفعالية كل البطولات. إن كل ما تستطيع الرواية العربية تقديمه من نماذج " بطولية " هو الشخصية التي تصارع من أجل افتكاك فردانيتها من تأثير وهيمنة الجماعة، فالفردانية كشرط حداثي يمكن للرواية أن تشتغل عليه لتنقذ نفسها من إسفاف السقوط والتيه الذي أغرقت فيه أبطالها وشخصياتها تأثرا بأوهام ما بعد حداثية، وقفزا على حداثة لم تنجز بعد مشاريعها ووعودها في أرضنا وديارنا.

الاثنين، سبتمبر 22، 2014

عن فلسفة القانون


يتسم القانون بكونه يؤطر الحرية الشخصية في إطار المسموح والمعاقب عليه، وهو أيضا يصادر العنف من الأفراد ويمنح بعض هيئات الدولة الحق في القيام به باسم القانون نفسه، والقانون لا ينبع من توافق كل الذوات التي تخضع له، إنما هو ناتج عن تحقق إرادات فردية لها سلطة صياغة القوانين وتمريرها وجعلها سارية المفعول، والقانون غالبا ما يترجم توازنات معينة داخل المجتمع، وعن طريق القانون تسعى الكثير من الفئات المتنفذة إلى خدمة مصالحها بطريقة قانونية، حتى تتفادى عواقب الخروج عن القانون، وعن طريق القوانين تقوم الدولة، باعتبارها الحارسة لتطبيق تلك القوانين التي صاغتها مؤسساتها المختلفة، بالتحكيم بين الفئات الاجتماعية المتنازعة على السلطة أو المنافع الاجتماعية والمصالح الجهوية، لأن القانون يجرد الأفراد من النقمة الثورية التي يقابلون بها بعض التسويات التي تتم تحت الطاولة، ويجعلهم يرضون بما أقره القانون حتى لو كان ضد مصالحهم، وحتى حين يرفضونه يفعلون ذلك بطرق قانونية، أي بواسطة طرق الرفض التي يقرها القانون.
والقانون الوضعي والمدون على عكس باقي القوانين التي تأخذ من الشرع والعرف مبررا لوجودها دون أن يكون لها سند قانوني يجعل الدولة ترعى تطبيقها ( أو يفترض ذلك)، تطبيقه آني ومباشر وإلزامي في حين باقي القوانين الأخلاقية والعرفية والدينية غالبا ما ترحل العقاب والثواب إلى الآخرة، أو تستثير الضمير من أجل الإحجام والإقدام على الفعل، وهنا مكن الفرق الأساسي بين القانون من جهة ومصادر القانون التي تشكل قانونا خاصا كالعرف والشريعة من جهة أخرى، وتحقيق سيادة القانون الوضعي على حساب باقي "القوانين" والنطاطة والحمالة أوجه، غالبا ما يرتبط بقوة الدولة على المستويين الاقتصادي والسياسي، كما يرتبط بتوفر سلم اجتماعي يجعل الأزمات المجتمعية في حدها الأدنى، أي الطبيعي، وفي حالة العكس، أي غرق المجتمع والدولة في أزمات متتتالية تجعل الأفراد والجماعات لا تثق بقدرة الدولة على الوفاء بتعهداتها اتجاه المواطنين، وبالتالي تلجأ إلى قوانين ذات صبغة أخلاقية تستمد قوتها من عرف اجتماعي يضمن سريانها والتزام الافراد بها في مقابل عدم الانصياع لقوانين الدولة والتهرب من تطبيقها قدر الاستطاعة

عن المكتبة والكتاب الفكري والمقروئية.



إنه واقع محزن يصعب التغلب عليه، ذلك الذي تعيشه المكتبات الخاصة في علاقتها بالكتاب الفكري والأدبي، لأن فتح مكتبة توفر الكتب الفكرية والأدبية والعلمية بشكل دوري أمر يحتاج إلى استثمار ضخم، في المقابل تكون مردوديته خاصة في السنوات الأولى ضعيفة بشكل يجعل منكل من يملك رأس مال يحجم عن فعل ذلك في ظل توفر بدائل كثيرة أكثر ربحية، في حين أن المكتبات الصغيرة التي  لا تتيح امكانياتنا لصاحبها تجميد رأس مال معتبر لمدة طويلة نتيجة بطء دوران الكتاب المعرفي والعلمي مقارنة بباقي الكتب المدرسية وكتب الطبخ والكتب الدينية التي لا يزال لها مواسمها الخاصة، تلك المكتبات لا يمكن التعويل عليها في الانتقال بالمقروئية نحو وضع ينصف الكتاب الفكري والأدبي.
لو نلاحظ في كل الجزائر المكتبات التي لا تزال توفر الكتاب الفكري ولو بنسبة محدودة هي المكتبات العريقة والعتيقة التي اتخذت وضعا اعتباريا ورموزية في منطقتها بشكل جعل لها زبائن دائمون يمتدون على مناطق أوسع من مجالها الجغرافي، وهكذا مكتبات توجد غالبا في المدن الكبرى ( العاصمة، وهران، عنابة، تلمسان، قسنطينة، سطيف )، على اعتبار تلك الولايات تعتبر منطقة عبور من جهة وتتسم بحركية ثقافية أكبر من باقي الولايات مما يجعل المهتمين بالثقافة والمعرفة يقصدونها ويقصدون مكتباتها التي صارت ونتيجة عراقتها معروفة من لدن المهتمين، ويتم التوجيه إليه في حالة وجود باحث عن كتاب، هذه خاصية لا توجد لدينا في الولايات الصغيرة التي تشهد ركودا ثقافيا، ولما أقول ركود ثقافي لا اعني تلك المهراجات والتجمعات والندوات التي ترعاها مؤسسات الدولة (مديرية ودور الثقافة، الجامعة وخاصة كليات الآداب والعلوم الإنسانية، المركز الثقافي الإسلامي، الجمعيات الثقافية ....) فالنشاطات التي ترعاها هذه المؤسسات غالبا ما تكون استعراضية ومعزولة لا تقدم برنامج ثقافي تمتزج فيها المحاضرة بمعرض الكتاب بنقاشات يوفرها مجال التقاء ثقافي ( مقاهي أدبية )، بمقدار ما تقدم مادة أساسية يقصدها المختصون والمدعوون فقط.
لهذا فالكتاب الفكري والأدبي في رأيي يجب أن يخضع لسيرورة في التسويق والتوزيع لا يكون منطق السوق معيارها الرئيسي، لأن معيار السوق والربحية يسقط هذا الكتاب غالبا من مجال المنافسة أمام باقي أنواع الكتب التي تتسم بسرعة دوران جيدة مقارنة به، خاصة في ظل توفره بشكل مجاني عبر المكتبات الجامعية والبلدية التي يزداد عددها وتنفتح أبوابها لفئات أوسع من طالبي هكذا نوع من المعرفة وهم غالبا من الطلبة والباحثين الذي يبحثون عن الكتاب الأدبي والفكري برؤية براغماتية لا تطلب الكتاب لذاته إنما تطلبه كمرجع للتهميش وإثراء قائمة المراجع  في ختام البحث، أي أن الطالب الباحث حتى وإن بحث كثيرا عن كتاب وبشكل جدي فليس لكي يقرأه بمقدار ما يستل منه صفحة أو صفيحات من فصل يأخذ منها ما يريد لبحثه ويرمي الكتاب، وهذا ما يجعل فكرة الشراء، خاصة في حالة كون ثمن الكتاب مرتفع قليلا، فكرة غير واردة، في ظل توفر مكتبة الجامعة وباقي المكتبات العمومية ( مكتبات المدارس والثانويات، المكتبات البلدية، مكتبات المراكز الثقافية، المكتبات المتنقلة التابعة لوزارة الثقافة ...) التي توفر الكتاب الفكري والأدبي بالمجان مما يجعله كبضاعة يعاني الكساد في المكتبات الخاصة.
هنا حين نتحدث عن المقروئية ونأتي بالمعرض الدولي للكتاب كمنوذج ودليل على وجود قاريء مهتم يسعى للكتاب الجيد وينتظر موعد قدومه بفارغ الصبر نكون بصدد تمييع للواقع السوسيولوجي للمقروئية التي قوامها استثمار وسيرورة  وأقطاب/ فاعلون  ( المؤلف، الناشر، الموزع، المكتبي والقارئ ) لأن المعرض الدولي للكتاب يختصر العملية ليجعلها بين الناشر والقارئ، وعلى اعتباره لقاءا مناسباتيا وتمظهريا ( حضور كتاب بيع بالتوقيع، تغطية صحفية، لقاءات ثقافية ) فهو لا يلبي حاجة القاريء فعلا للكتاب إلا في حدود ضيقة ولدى فئة من المهتمين ترى فيه مناسبة لقاء اكثر منه فرصة للبحث عن الجديد، فالقارئ الذي يقصد العاصمة لشراء كتابين أو ثلاثة مقابل تحمل تكاليف التنقل والإقامة لن يفعل ذلك لأجل الكتاب وحده إلا في حالات قليلة ونادرة. ولو أن القائمين على المعرض يجرون دراسة عن طبيعة الزبائن الفعليين للمعرض أي المشترين الحقيقيين سيجدون أنهم وبنسبة كبيرة يتشكلون من مكتبيين صغار وموزعين يجدون في المعرض فرصة ( للتسليع )، وإقبالهم على الشراء بكميات " كبيرة " هو ما يعطي الانطباع للناشرين والمنظمين بوجود مقروئية عالية لان المقروئية هنا تقاس غالبا بعدد الكتب المباعة خلال أيام المعرض، بالإضافة إلى عدد الزوار الذي ارتادوا المعرض خلال أيام إقامته.
اعتقد أننا بحاجة، إذا ما أردنا أو نوفر مادة علمية وأدبية جيدة للقاري المتطلع  والباحث عن زاد فكري وأدبي جدي وعميق، إلى التفكير الجدي في إعادة  بعث تجربة المكتبات التابعة للدولة ولو بصيغة مختلفة تكون تشاركية بين الدولة والمكتبيين، تقوم من خلالها الدولة، عبر وزارة الثقافة، بتقديم دعم حقيقي للمكتبيين كي يستطيعوا الاستمرار في إدارة مشروعاتهم وتنميتها في ظل ظروف أكثر تشجيعا على الإستمرر في نفس النشاط أمام إغراءات قوية توفرها نشطات أخرى أكثر ربحية، في المقابل تستطيع الوزارة من خلال هذه المكتبات توزيع إصداراتها التي تفتك بها الرطوبة في المخازن ويتلف منها ملايين النسخ دون ان تجد سبيلها للقارئ المعني والمهتم بها.

الجمعة، مايو 16، 2014

بين نص الكاتب وصورته

بين نص الكاتب وصورته تزاحم على التموضع في الواجهة، بعد أن كانت الواجهة ومجال التداول وإمكانات التلقي، على امتداد قرون الكتابة الطويلة، منذورة للنص وحده. في خضم السيحان البصري صار للصورة الواجهة وبهاء الحضور وعمق التأثير، وانسحبت الكتابة للخلف محتمية بالهامش الذي يتموضع على أحد جوانب الصورة تاركة للأخيرة جلال المركز وهيلمان الوجود، لتكون مجرد شروح على متن مبهر في بريقه وقدرته على خطف الأبصار. في الزمن الفيسبوكي يتمظهر الكتّاب بصريا من خلال صورهم، أكثر مما ينتشرون نصيا من خلال إبداعاتهم متخلين بذلك، دون وعي، عن دورهم ووظيفتهم؛ أي عن سر انواجدهم ككتّاب وسبب تميزهم، أي عن رأسمالهم الرمزي الأساسي الذي قوامه الكلمة والنص.
يسعى الكتّاب، أو بعضهم على الأقل، للتمظهر نجوميا من خلال بث وتسويق اكبر عدد ممكن من الصور، سواء صورهم الخاصة، او الصور ذات الصلة بهم وبمنتوجهم الفكري، وهم بذلك يسعون لمزاحمة نجوم الفن والرياضة في الماركيتينغ الصَّوري لأنفسهم كمالكين لرأس مال رمزي يعتقدون أنه قادر على جعلهم مركز جذب واهتمام، إن هكذا اشتغال داخل دائرة البريق الإعلامي من طرف الكتّاب والأدباء وسيرهم بالأدب نحو سطحيات الميديا وتموضعهم بداخلها، لا كموضوع للخبر، وهذا طبيعي، ولكن كمادة اشهارية لمنتوج لا طلب جماهيري كبير عليه وهو الأدب. هذا الوضع مسيء للأدب في جوهره، وعامل على إفراغه من عمقه ومن غموضه الواعد والمنتج لتعددية القراءة من خلال تموضع الكاتب بشخصيته المحاطة بالمجهولية من طرف قرائه في خلفية النص الذي تكون له الصدارة والواجهة.

أغنية احمد الفن

هذه اغنية ثورية عن منطقة جيجل، إنها إحدى درر التراث الشعبي المنسي، وربما هي منسية عن قصد لأن فيها ذكر أسماء وشخصيات وقبائل مرفوقة بصفات بعضها سيء وقدحي ، وفيها اتهامات بالخيانة والعمالة للبعض.
إنها أغنية قد وجدت في خضم الثورة وكانت استجابة مباشرة لأحداث معينة عرفتها سيرورة الثورة الجزائرية بمنطقة جيجل، قد استمر تأدية هذه الأغنية في الأعراس إلى غاية السبعينات من القرن الماضي، وكل منطقة وقبيلة كانت تحذف من الاغنية ما يذكرها بسوء، لهذا توجد نسخ مختلفة من هذه الاغنية التي لا يزال يحفظها بعض كبار السن، وما سأورده هنا هو نسخة تجميعية من مجموعة نسخ جمعت من مناطق مختلفة من جيجل.
هذه الاغنية خاصة بسكان جيجل وفيها اسماء مناطق لا يعرفها حتى بعض سكان المنطقة بالإضافة إلى اللهجة المستعملة والتي قد تبدو غريبة وغير مفهومة لمن لا يعرفون اللهجة الجيجلية.

أحمد الفن 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبلادو يَتْفَنَّنْ 
عَدِّينَا علاَ أسَكَّا لْقينا النَّسوين تَتْباكى 
و سَقْسيناهم عرّْجَال قالُو لَبْسو خوبَاتا 
ألا لا يَا لاَ لاَ لاَ 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبلادو يَتْفَنَّنْ 
عَدِينا عَلحَرميَّة لْقينا البِيبان مْوَعِيَّة 
سَقسينا عرجال قالو لبسو حَرْكِية 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبلادو يَتْفَنَّنْ 
عَدينا عزَّعْرُورة لْقينَا خمْسَة الدَّدْكُورَة 
سقسينا عرجال قالُو بَلكَلْ فالتُّورَة 
عَدِّينَا علتَفْلاَلَت لْقِينَا تَمَّ زُوجْ بْنَاتْ 
سْعَدِّينا بولحَيَة مات وهُوَّ ما زَالْ بالحَيَاةْ 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبْلادو يَتْفَنَّنْ 
عدينا علحُوتْرا حَطونَّا سكْسُو نْتاع الدَّارْ 
كولْهَا ومْشِي فَليلْ ونُوض تْجاهد يا مسكين 
عدينا عَلْاْيلاط والكسْرة تَاع أَقرْواطْ 
و البَرْبُوش صْمَاط صْماطْ ومْشِينَا من تم هَارْبِينْ 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبلادو يَتْفَنَّنْ
عَدِّينَا عَجبَلْ الحُوطْ لْقينَا الطَّمِين مَحْطُوطْ 
كُولْ وخمَّلْ فَلْكَبُوطْ ومْشِينَا مَنْ تَمَ زَاهْيِينْ 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبلادو يَتْفَنَّنْ 
عدينا على ولاد صالحْ وحطُّونَا الطَّمِّينْ مَالحْ 
و الجُنُودْ تَمَ قويَّة خَصُّونَا دَمْغَارَف
عدينا عَزَّعْرُورَة حطُّونَا لَفْطاير قالَو كولو وزَرْبو 
لحقو بكوم الطّْياير 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبلادو يَتْفَنَّنْ 
عدِّينَا عَلى شَادِّية وخَرْجُو وْرَانَا الدَريَّة 
حسبونا حركية وحنا جبنا الحرية 
عدينا على ولاد عسكر حطونا سَكسُو بالسَكَّر 
سقسينا عَرَّجَالْ قَالُو هرَبُّو لَلْجَبَلْ 
حْمَد الفَنْ حمَد الفن غير فبلادو يَتْفَنَّنْ 
فرْحُو فَرْحو يَا لَولَادْ 
فَرْحُو فَرْحُو يَا لَوْلَادْ الجَزائِرْ عُرَابية
فَرحو فرحو يا لَولاَدْ نرَدُّوهَا جُمْهُورِّية 
دْرَابُّونَا نَجْمَة وْهْلَالْ نَدِّيوْ لِيه نْسا ورْجال 
وْ الَّا مَكْفانَاشْ الحَال نزِيد لِينا الذُرِّية 
كي جَانَا شْيَّابْ الرَاسْ قلنا لَقَارْ خْلاصْ 
بن بلة وخُويَا عبَّاسْ الجَزائِر جُمْهُورية
يا بُومَعزة يا رْخيسْ نَعَّتْ القازْمَا الدِّفْدِيسْ 
و مَا فِيهَاشْ الجُنْدِيَّة 
يا بومعزة يا القُوَّادْ ونَعَّتْ القَازْمَا الدِّفَلْواد 
و ما فِيهَاشْ الجُندِية 
كي خْبَتْ العَمْرَاني خْبَتْ تحت القندولا 
قالو سَرْكْلي من تَمَّ نَشَبْعُوهْ الشيكولا 
كي خبت بَنْ عَلاَّوة وقَالْنَا نجيب الخَاوَة 
و الكوبتير فالسَّمَا تَتْهَاوَى علَى الربْعة الدَّلَعْشِية 
كي خْبت الفوغَالي وخبَت تحت ستُّوف 
قالو سرْكلي من تَم نْطلعُوه والناس تشوف 
كي خْبت الخَطابي قال نْجيب صْحَابي 
نْدَورهم بجنبي باشْ نطلع في قْرادي 
فرحو فرحُو يا لولاد الجزائر جُمهورية 
دُورناهَا بالدوَّار وسيَّرناها بالسيَّار 
نحينا جميع الغدَّار وبْقات دولَة إسلامية 
فرحو فرحو يا لولاد الجزائر عُرَابية

الأربعاء، مارس 26، 2014

تغيير الإسم ... تغيير الهوية

Photo : ‎تغيير الإسم ... تغيير الهوية

في رواية أرض السواد لعبد الرحمان منيف ينزع أهل بغداد عن القنصل البريطاني ريتش اسمه الحقيقي ويعطونه إسما يرونه يوافقه وهو " الأشيقر ". فالإسم الجديد يجعل ، بحسبهم، الغريب الوافد المجل بالسرد والمهابة فردا محليا مألوف الإسم ومحدد الهوية، مادام الإسم هو هوية الفرد ومنح إسم جديد يعني اجتثاث الفرد من هويته السابقة ومنحه هوية جديدة تنتمي ولو حجزئيا إلى الهوية المحلية المألوفة والمؤطرة مخياليا بمحددات يعرفها المنتمون إلى الجماعة ويتواضعون على تثمينها.
يبدو أن تغيير الإسم في في العرف الشعبي كعملية إلغاء لحضور الآخر الغريب الوافد والمتطير منه، في النحن، هو عرف مرحب به من لدن الجماعات المغلقة وخاصة الجماعات الطائفية والإثنية التي يعتبر الإسم فيها أيقونة ثقافية تعبر عن الإنتماء. ففي الهند مثلا يتم تغيير إسم الفتاة التي تزف لطائفة غير طائفتها حتى يتواءم اسمها الجديد مع المحيط الإجتماعي الذي وفدت عليه والذي يتسم بانسجام ثقافي تحرسه صفات تحددا الأسماء واللباس والعادات والطقوس الدينية والاجتماعية ... يشترك المسلمون في هذه العادة، حيث أن كل داخل جديد للدين الإسلامي قادما إليه من ديانة / ثقافة أخرى ينصح باختيار إسم جديد يكون عربيا يعبر من خلاله عن انتمائه الديني الجديد، ويبدو أن المسيحيين لهم نفس العادة ولو أنها لا ترتبط بشكل آلي ومباشر ما بين اعتناق الديانة وتغيير الإسم كما هو الحال عند المسلمين.
نفس الممارسة نعثر عليها لدى جماعات أخرى غير طائفية ولا تحددها الإثنية العرقية بشكل قوي، نتيجة التداخل الإثني الذي يربطها بجماعات أخرى تشاركها الجوار الجغرافي والإنتماء الديني، لكنها ذات خصوصية ثقافية معينة تعطي مبررا لهكذا ممارسة وتجعلها مطلوبة كما هو الحال عند بعض الأعراش والقبائل الجزائرية كبعض العائلات العريقة التي تسكن جبال تسالة لمطاعي بولاية ميلة مثلا، حيث تعطي هذه العائلات للعروس الوافدة من منطقة مغايرة اسما جديدا بعد اليوم الثالث من الزواج، وكأن عملية إعادة التسمية دليل امتلاك تزهو به عائلة العريس، وهو في الوقت نفسه ولادة جديدة للمرأة التي انتقلت من وضع البنت إلى وضع الزوجة/ الكنة وما يترتب عن ذلك الإنتقال من انتماء لعائلة جديدة يقابله فك ارتباط تدريجي مع عائلتها السابقة.‎


في رواية أرض السواد لعبد الرحمان منيف ينزع أهل بغداد عن القنصل البريطاني ريتش اسمه الحقيقي ويعطونه إسما يرونه يوافقه وهو " الأشيقر ". فالإسم الجديد يجعل ، بحسبهم، الغريب الوافد المجل بالسرد والمهابة فردا محليا مألوف الإسم ومحدد الهوية، مادام الإسم هو هوية الفرد ومنح إسم جديد يعني اجتثاث الفرد من هويته السابقة ومنحه هوية جديدة تنتمي ولو حجزئيا إلى الهوية المحلية المألوفة والمؤطرة مخياليا بمحددات يعرفها المنتمون إلى الجماعة ويتواضعون على تثمينها.
يبدو أن تغيير الإسم في في العرف الشعبي كعملية إلغاء لحضور الآخر الغريب الوافد والمتطير منه، في النحن، هو عرف مرحب به من لدن الجماعات المغلقة وخاصة الجماعات الطائفية والإثنية التي يعتبر الإسم فيها أيقونة ثقافية تعبر عن الإنتماء. ففي الهند مثلا يتم تغيير إسم الفتاة التي تزف لطائفة غير طائفتها حتى يتواءم اسمها الجديد مع المحيط الإجتماعي الذي وفدت عليه والذي يتسم بانسجام ثقافي تحرسه صفات تحددا الأسماء واللباس والعادات والطقوس الدينية والاجتماعية ... يشترك المسلمون في هذه العادة، حيث أن كل داخل جديد للدين الإسلامي قادما إليه من ديانة / ثقافة أخرى ينصح باختيار إسم جديد يكون عربيا يعبر من خلاله عن انتمائه الديني الجديد، ويبدو أن المسيحيين لهم نفس العادة ولو أنها لا ترتبط بشكل آلي ومباشر ما بين اعتناق الديانة وتغيير الإسم كما هو الحال عند المسلمين.
نفس الممارسة نعثر عليها لدى جماعات أخرى غير طائفية ولا تحددها الإثنية العرقية بشكل قوي، نتيجة التداخل الإثني الذي يربطها بجماعات أخرى تشاركها الجوار الجغرافي والإنتماء الديني، لكنها ذات خصوصية ثقافية معينة تعطي مبررا لهكذا ممارسة وتجعلها مطلوبة كما هو الحال عند بعض الأعراش والقبائل الجزائرية كبعض العائلات العريقة التي تسكن جبال تسالة لمطاعي بولاية ميلة مثلا، حيث تعطي هذه العائلات للعروس الوافدة من منطقة مغايرة اسما جديدا بعد اليوم الثالث من الزواج، وكأن عملية إعادة التسمية دليل امتلاك تزهو به عائلة العريس، وهو في الوقت نفسه ولادة جديدة للمرأة التي انتقلت من وضع البنت إلى وضع الزوجة/ الكنة وما يترتب عن ذلك الإنتقال من انتماء لعائلة جديدة يقابله فك ارتباط تدريجي مع عائلتها السابقة.

الجمعة، مارس 21، 2014

خطابات المعارضة والمواطن البسيط

المواطن البسيط لم تفارق مخيلته بعد دموية العشرية السوداء، وهو غير معني كثيرا بمطالب التعددية والديموقراطية وحرية التعبير، وهو غالبا ما يتكفي بالحد الادنى منها، إنه قادر على التعايش مع سلطة لا تمنعه من إقامة شعائره الدينية ولا تقمع رغبته في شرب الخمر وإقامة الحفلات الصاخبة، ويكفيه مع توفر حد أدنى من الحرية حد أعلى من الامان والأمن الذي يلجأ دائما لقياسه مقارنة مع العشرية السوداء، وهو قياس شعبوي وغير سليم، لكن عمق التجربة الدموية التي عاشتها الجزائر خلال السعينيات يجعل استحضارها لدى الأجيال التي عايشتها متكررا وملحاحا، وكأن  في الاستحضار الدائم حذر من تكرارها وتنبيه لفضاعتها.
في حين تركز الطبقة السياسة أو ما بقي منها في جانب المعارضة، وبعض المعارضين الجدد الغير مهيكلين سياسيا، بالإضافة إلى النخب الفكرية والثقافية، على الديموقراطية وعلى سقف أعلى من الحرية، وعلى مطالب لا يفهمها كثيرا المواطن البسيط المعادي بطبعه كجزائري لكل " تفلسف " وادعاء نخبوي، تتعين تلك المطالب بالتعددية السياسية الحقيقية، وحرية التعبير  بشكل يجعل من التعبير عن الرأي والاعتقاد محمي بقوة قانون له فعالية وسلطة. يطالبون أيضا بحرية القضاء وبالتداول السلمي على السلطة وبتمثيل حقيقي للشعب في البرلمان، وبانتخابات نزيهة، تضمن نزاهتها قوانين غير منحازة وإعلام عمومي لا يساهم في التعتيم على أصوات وآراء لصالح صوت ورأي ينتمي للنظام.
هذه مطالب تبدو للمواطن العادي بأنها " من ترف السياسة "، وأنه " ما يفهمش فيها"، فكل ما يعنيه ان يلاحظ تحسنا ماديا يلمسه من خلال الطرق والعمارات والمنشآت التي انجزت خلال السنوات الأخيرة أيضا تحسينا في مستوى المعيشة رافق الزيادات في الأجور وتخفيف حدة البطالة ولو من خلال بطالة مقنعة.
طبعا المواطن العادي الذي يكفيه من الأشياء ظاهرها، لا يهمه كثيرا  أن الجزائر قد صرفت خلال عهدات بوتفليقة الثلاثة ضعفي ما صرفته منذ استقلالها إلى غاية 1999، وان الأموال المنفقة لا تتلاءم تماما وحجم الانجازات المتبجح بها من لدن النظام وشياتيه، أي أن هناك فساد وسوء تسيير وفشل في استثمار الطفرة النفطية وما وفرته من موارد  كانت ستساعد أي بلد على التأسيس لانطلاقة تنموية حقيقية، وليس لمجرد مشاريع مؤقتة المردودية.
في ظل التناقض الحاد والصارخ بين وعي عامة المواطنين بالوضع الراهن الذي يستدعي النضال من أجل تغيير نظام لم ينجح إلا في تغيير قشور الواقع المهتري سياسيا واقتصاديا وثقافيا وتلمعيها بشكل يخطف ابصار من لا ينظرون نحو العمق، ووعي النخبة السياسة والثقافية التي ترى بأن النظام بلغ حدا من الفشل وتكريس الفشل والرداءة والفساد بحيث لم يعد من الممكن السكوت عليه إذا أردنا ان نقدم لأولادنا وطنا يفتخرون بالإنتماء إليه، يبقى التغيير المنشود مرهونا   بوعي زائف ومميع بالواقع تستبطنه الغالبية الصامتة من المواطنين رغم مزيج السخط والرضى التي تستشعره هذه الغالبية إزاء بعض القضايا المهمة ذات الصلة بمستقبل البلاد،  والتي يعول عليها النظام ككتلة يمكن استمالتها بقليل من الوعود والإصلاحات الشكلية والمشاريع ذات المردودية الظاهرة والسريعة ( غالبا ما ترتكز على السكن والعمل )، ومن جهة ثانية بوعي نخبوي حاد بمتطلبات التقدم الذي لن توضع الجزائر على سكته دون انتقال ديموقراطي حقيقي يبدأ بإزالة النظام القائم، دون أن يجد هذا الوعي وما ينتج عنه من خطاب / خطابات تجذرا إجتماعيا وكتلة اجتماعية قادرة على حمله والدفاع عنه والضغط على النظام بتكسير قواعده الاجتماعيه واستمالتها نحو الطرح/ البديل.
 إن عجز النخبة السياسة والثقافية عن خلق كتلة اجتماعية تتبنى أفكارها ناتج حسب ما أرى عن ضبابية تلك الأفكار ولا واقعيتها في نظر غالبية المواطنين، فالنخبة المناضلة ضد النظام متفقة على وجوب تغيير هذا النظام، وبعضها ينادي بتغيير عنيف، لكنها لم تتفق، وبالأحرى لم تقدم طرحا واضحا لطبيعة النظام البديل ولأساليب الحكم المغايرة لما هو موجود حاليا، وكأن الأمر سينتهي بإسقاط النظام، وبعد ذلك نفكر في المرحلة القادمة، وهذه شعبوية لا تختلف عن شعبوية خطاب السلطة، مما يجعل النخبة المعارضة تلتقي مع النظام في نظرتها القاصرة للواقع وعجزها، نتيجة فقر تجربتها السياسية، عن صياغة تصور واقعي يمكنه ان يقنع المواطن العادي الذي لا يهتم بالكلاميات المرسلة التي يتقنها المعارضون والمتثقفون وهم يتحدثون عبر وسائل الإعلام بصوت لا يكف عن التنديد بالنظام الفاشل، لكنهم يدورون ويلفون حول البديل دون ان يهتدوا إليه، وهذا ما يجعل خطابهم غير مقنع، بل ومرفوض من قبل المواطن العادي المتهم من طرفهم بأنه خانع وغير واعي ويمكن استغفاله بسهولة.

يستبطن المواطن العادي ضمن هذه التجاذبات بين النظام ومعارضيه  نوعا من الرضى على الوضع القائم حين تتم مقارنته بوضع سابق لا تزال ذكراه دامية في القلوب، ورغم حدة الإنتقادات التي يوجهها المواطن العادي للنظام، وحدة الاحتجاجات الشعبية التي يكون مطلبها غالبا اجتماعيا ومحددا يمكن تلبيته أو الوعد بتحقيقه في القريب العاجل، فالمواطن البسيط غير مستعد للانسياق وراء بعض المطالب تغازل مشاريع الربيع العربي ساعية لاستنباتها في الجزائر، وهو ينظر نحو بعض التصريحات التي تهدد النظام باللجوء إلى العنف من أجل إحداث التغيير المطلوب بأنها مطالب ليست خالصة لوجه الوطن، لهذا فهي تقابل بارتياب وإنكار مما يعمق أزمة المعارضة السياسية والنخب الثقافية السابحة في فلكها، ويبعدها أكثر عن التجذر الإجتماعي الضروري لأي تغيير فعلي وحقيقي، فالتغيير لن يكون أبدا نخبويا فقط، صحيح أن النخبة تقود وتنتج الرؤى والتصورات حول التغيير المرتجى، لكن المواطنين العاديين كتكلة ضاغطة فعلا هم من يقومون بالتغيير الحقيقي.

الثلاثاء، مارس 18، 2014

الجزائري ورفض النظام



ترى نسبة كبيرة من الجزائريين ، كما رأت ذلك دائما منذ اواخر الثمانينات، وجوب تغيير النظام، دون أن يكون لها تصور واضح حول طبيعة النظام الذي ترغب في تغييره وتعتبره نظاما سيئا يدير البلد وفق آليات وذهنية معرقلة للتقدم الذي يطمح إليه الجزائريون. مع أن غالبية المواطنين يركزون على نقطتين جوهريتين: الفساد الذي يرعاه النظام، وحكام الظل الذين لا نعرفهم على وجه التحديد، أي أولئك المقررين الفعليين في مصير البلاد. طبعا يذهب البعض أبعد من هذا في تصوره لطبيعة التغيير التي يرى أنها يجب أن تكون جذرية قوامها الإنقلاب على كل ما يمت للقديم بصلة من مؤسسات وسلوكات، وهو التصور الذي سعى الفيس لتحقيقه عن طريق حشد جماهيري غير مسبوق ضد النظام، حشد بشر بالنظام البديل الذي قوامه الدولة الإسلامية.
وللحقيقة فغالبية الجزائريين حتى المتعاطفين مع التصور الاسلامي غير مستعدين للذهاب بعيدا في تصور الدولة الإسلامية المطروح من طرف تيارات الإسلام السياسي المختلفة، صحيح أن الجزائري المتدين بطبعه يسعى لتطبيق الشريعة في بعض المناحي الأخلاقية شديدة الصلة بالأسرة وبعض التعاملات الاقتصادية التي يسعى لأن تكون حلالا بشكل إجباري يفرضه القانون. لكن الرؤية السياسية البديلة التي يبشر بها البعض بديلا للنظام القائم المندد به والمرفوض والمطلوب رأسه منذ اكثر من ربع قرن، غير مقنعة لغالبية الجزائريين الذين يتخوفون على حريتهم من نظام كهذا ، بالإضافة إلى أن أصحاب التصور الإسلامي لنظام الحكم لم يتجاوز طرحهم في الغالب شعارات من قبيل الإسلام هو الحل والدولة الإسلامية ودولة الخلافة على منهج السلف الصالح، دون تقديم آليات حكم فعلية يمكن اختبارها ميدانيا. كما أن التصور المناقض للرؤية الإسلامية الذي يسوق له التيار العلماني والذي قوامه الحداثة بكل ما يتفرع عنها من قيم اجتماعية تنشد الحرية والفردانية و قوانين وضعية ناظمة لتعاملات الأفراد فيما بينهم من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة ثانية. هو تصور لا يلقى ترحيبا، ويقابل بريبة مسبقة تستند على تهم نجح الإسلاميون في إلصاقها بخصومهم العلمانيين: وهي التغريب ومعاداة الدين والدعوة للانحلال والتفسخ، والجزائري الذي يكتفي غالبا على المستوى الفكري والمعرفي بالكليشيهات الجاهزة عادة ما لا يتعب نفسه في البحث من أجل تكوين معرفة معمقة حول تصور كل طرف لطبيعة النظام المرتجى أو المطروح بديلا، وهذا ما يجعل التصور العلماني مرفوض بقوة الصورة النمطية المشكلة عن العلمانية ككل في المخيال الجمعي.
إننا كجزائريين نتفق بنسبة كبيرة على وجوب رفض النظام والمطالبة بتغيره، لكننا في المقابل لا نملك تصورا حول طبيعة النظام الذي نرغب في أن يكون بديلا للنظام القائم، صحيح أن الطرحين الإسلامي والعلماني لطبيعة نظام الحكام يلتقيان في طابعمها الإيديولوجي، وانهما لا يقدمان بديلا مقنعا للنظام لأن النظام القائم لا يرفضه الجزائريون بسبب طابعه الإيديولوجي، فإيديولوجيا هو نظام مرضي عنه من طرف الأغلبية، لأنه في الوقت الذي يشكل فيه ضمانة التحديث وسبيلا لتبيئة قيم الحداثة وما تحمله من روح علمانية، هو نظام حامي للتقاليد المسنودة دينيا، كما أنه نظام سعى منذ الإستقلال ليدمج الخطاب الديني ضمن مجال اختصاصه باعتباره راعيا للدين وحاميا له، لكن وفق تصور شعبوي للدين يحصره في الممارسات التعبدية وبعض الاحكام المتعلقة بالأسرة والميراث.
فالنظام وفق هذا التصور غير مرفوض إيديولوجيا، إنه مرفوض كممارسة، وكحكم فاشل في طريقة تسييره، ومرفوض كأشخاص، ومرفوض كمرجعية قوامها الشرعية الثورية، ومرفوض كمؤسسات تسير وفق رؤية غير عقلانية أساسها الولاء والمحسوبية، ومرفوض كرؤية أبوية ترتاب أمام الحرية في شقها السياسي الذي تعبر عنه معارضة حقيقية وصحافة حرة. وهو مرفوض كذلك كقوانين صيغت بشكل يخدم فئات معينة تشكل الكتلة الإجتماعية للنظام ( المجاهدين وذوي الحقوق، إطارات الدولة ذووا التكوين الفرانكوفوني، وبدرجة أقل الفلاحين والنساء ).
إن رفض النظام لجملة تلك الأسباب لا يستدعي الثورة عليه من أجل تغييره، بمقدار ما يستدعي إصلاحه من الداخل وفق نضال واعي وموجه نحو جزئيات معينة كالنضال من أجل ٍرفض أو تعديل قوانين نرى أنها غير فعالة أو غير عادلة. لكن الغريب في رفض الجزائريين للنظام انهم يرفضونه ككل دون الدخول في تفصيلات ما يرفض فيه وما يمكن قبوله وتعديله، دون أن يكون لهم تصور بديل للنظام المرفوض، ولا رؤية واضحة لكيفية تغيير النظام بعد فشل محاولة أكتوبر 88 وما تلاها من محاولة الفيس.
في نضاله ضد النظام يخلص الجزائري لروحه وتكوينه النفسي والفكري الذي يجعله ينظر دوما للظاهر من الأشياء، دون التساؤل عن الجوهر وعن أساسات قيام وتشكل ذلك الظاهر الذي نوجه له سهام النقد والرفض. أذكر أن الصحافة والأحزاب وبعض الشخصيات الوطنية والعامة قد نددت عقب عدة مناسبات انتخابية ( رئاسيات 2004، تشريعيات 2007 ....) بالتزوير التقني الذي سمح به قانون الانتخابات الذي تضمن عدة هفوات، دون أن يناضل أحد، بالشكل الكافي على الأقل، من أجل تغيير القانون. فالجزائريون لا يناضلون ضد القوانين التي صاغها النظام لخدمة مصالحه وتقويته، وهو نضال جزئي يمكن أن يحقق اهدافه بقليل من الصبر والإرادة، إنما ينشغلون فقط بالرفض المطلق للنظام، رفض غير ممفهم وفاقد لآليات تحققه.



الاثنين، مارس 03، 2014

مناهج الغرام للمولعين بالمناهج الحديثة


تبدأ جاذبية التفكيك كمنهج غرام، عند انفكاك الأزرار الأولى لفستان المحبوبة، إنه آلية تفكيك فعالة للحماية التي تفرضها النسوة على ممتلكاتهن الخاصة المحمية بالثوب والحجاب وبتعويذات الحروف المطلسمة، وبالطلسمات المبثوثة في ملامح الوجه واشراقة الشفتين وفي استدارة النهدين وفي نعومة النحر المنكشف تلميحا، هي الطلسمات التي تبوح ولا تصرح، إنها موضوع انشغال واشتغال التفكيك، الذي يمعن فيها هدما وبناء وتعرية دون لملمة البقايا الساقطة من الثوب المهمل عند القدمين. لحظتها، تشتغل السيماء، حيث انجذاب الروح للروح والجسد للجسد في حضرة البياض العاري حين يفيض الضياء ويسيح البياض مع أول انفكاكات أزرار القميص وانبلاج النور من الترائب المصقولة بإمعان. سيماء النور المنساب مع انزياح الثياب، يفرض على العاشق المجسون في سياق الدلالات المتولدة بتجدد مع كل همسة ولمسة مع تعدد مطارحات البوس والضم المحموم، أن يتقن بتفنن أسلوبية الغرام وآليات المقاربة بالضم وفن التأويل حينما تلتقي العينان، وحيثما تهمس الشفتان بغمغة الشوق المبثوث في آهات لا تفهم إلا تأويلا، لكنها ترمي العاشقين المتعانقين في اتحاد إلى نسقية التعدد المنهجي التي تفرضها لحظات الغرام.

كذب الرجال



للرجل كذبات وتلوينات حكايا هي في الأصل حكاية ابتدأت صدقا خالطها زيف الادعاء أو بريق الاضافات وانسلت منها الحكايات ومنها تناسلت الاحاديث التي بعضها لغو وبعضها صنارة صياد يبتغي السلوى حين يظفر بمهجة العيون العسلية التي اجذبتها الكذبات المتناسلة وأساطير الهوى المدوزنة بوعود لن تتحقق كما تبغيها العيون التي لاح فيها بريق عشق في طور التكوين. هو الرجل الكذوب في صدق حكاياه، المدعي في تفاصيل بطولاته وفتوحاته النسائية وهو الواعد دوما بالبدء من صفر جديدة ومن ظفيرة فكفكها بلهفة الغرّ وخفة الخبير، وهو في عيون العاشقات الحالمات بعمر يكتمل على مودة الوصل وشجن الوصال الصادق الصدوق وإن كذب، فالنساء لا يمنحن الصدق والعمق وحلاوة الريق إلا للكاذب الكذوب الذي يدوزن بِسمْتِ الصادق العاشق كل تلك الوعود التي لن تتحقق.


شذرات عن الرواية




شذرات عن الرواية

تكتب الرواية الحديثة عن إنسان دنيوي، قد ينكر استغراقه في متع الحياة الحسية، لكنه يمعن في اقترافها، إنسان معرى من الهالة ومجرد من إدعاءات التعالي التي يتقن تسويقها الرجال الطامحون للتموضع في مقام القدوة والمثال، أولئك الذين يقودهم طموحهم الاجتماعي إلى التسربل بالمثل العليا وإدعاء الأخلاق الرفيعة.
إن الرواية، على عكس التاريخ، يغريها المهمش والشاذ والمبتذل، فهي تكتب عن ذلك الإنسان/ البطل الذي يضيع عمره دون ان يحق شيئا، ويمضي دون ان يترك خلفه لا ذكرا ولا سيرة تروى. إن أبطال الرواية الحديثة المغتربون والإشكاليون هم بتعبير ابن الفارض وبتجاوز معناه:
رجال إذا حضروا لم يعرفوا .... و إذا غابوا لم يذكروا
فبطل الرواية الحديثة هو بتعبير فيصل دراج: " إنسان اكتفى بمأساة مستقلة، مراجعها حضارة تقنية وعقلانية مجزوءة ورهبة الموت التي يواجهها الإنسان وحيدا بلا معين "، إنه إنسان تائه في بحثه المضنى عن القيم التي يؤمن بها ولا يلتقيها في واقعه الاجتماعي وهذا ما يجعله مرتحلا لا يأنس لحضن ولا يستقر به مقام، مع أنه لا يصل بتاتا إلى حيث يريد، إنما، وبتعبير لوكاش: " لا يصل إلا إلى حيث أراد له الطريق أن يصل ".

عن العنوسة التي تزحف على أعمارهن


ارتفاع نسبة العنوسة بهذا الشكل المفرط وفي كل الدول العربية بغض النظر عن المستوى المعيشي للفرد والوضع السياسي، راجع أساسا لطبيعة التغير الاجتماعي غير المدروس وغير الموجه، ولطبيعة التحديث المتبع في هذه الدول منذ حصولها على استقلالها إلى الآن،حيث تم تفتيت النظام الأصلي للمجتمعات العربية والقائم على قيم أساسية كالتكافل والروابط الاسرية الشديدة المتانة والتي كانت توفر من ضمن ما توفره علاقات مصاهرة متبادلة بين العائلات، حيث أن العائلة هي التي تدبر أمور الزواج للفتيات وللأولاد بنسبة أقل، دون أن يكون هناك نظام بديل يحضى بالقبول النسبي من طرف فئات المجتمع المختلفة، حيث أن تغير النظام الاجتماعي، مع بقاء قيمه التقليدية تعاند التغير بنجاح، ادى إلى وجود شرخ حاد بين الواقع المحدثن بقيمه المدينية المنفتحة في الظاهر وبين القيم التي يؤمن بها الفرد في العمق ويعتبرها أصيلة ويجب الدفاع عنها وتنبيها والاحتكام إليها فيما يخص القرارات المصيرية للفرد كالزواج، وطرق اختيار شريك الحياة، فتسرب الكثير من الأفكار حول الفردانية وتحقيق الذات والاستقلال الاقتصادي للأفراد بحياتهم الخاصة لم يرافقه تبني ذهني واخلاقي للقيم الرافدة لتلك الافكارن فالمجتمع الذي يدعو المرأة للتعلم ويشجعها العمل والكسب لا يمنحها الحق في الاستقلال الاقتصادي والمعيشي بشكل انفرادي، كما يمنحه للرجل، إنما يطالبها، وبشكل نكوصي على الأفكار السابقة، بأن تظل مرتبطة بالعائلة وتابعة لها، وفي نفس لوقت الذي الذي يطالبها بالانخراط في الحياة العملية يشنع عليها الاختلاط الذي تفرضه تلك الحياة العملية، ويعتبر تواجدها داخل مجال التواد الرجالي مساسا بالشرف واتهام ضمني، يظهر كلما كانت المراة في موضع اختيار، فعملها وسط الرجال يمكن جعله تهمة عند عائلة الحبيب الرافضة لارتباطه بها، كما ان تواجدها بالجامعة وارتقاءها في التعلم رغم أنه يحدث بمباركة وتشجيع العائلة وبرضى نسبي من طرف المجتمع، إلا ان صورة الطالبة الجامعية في المخيال الجمعي ليست جيدة بالمرة.إن عملية التحديث العرجاء التي تمت خلال النصف قرن الماضي والتي ركزت على الجوانب المادية للمجتمع والتي كانت من نتائجها الإقحام المتزايد للمرأة في المجال العام، قد أوقعت المرأة او بالأحرى صورة المرأة في نظر المجتمع، في وضع مأزقي، حيث أن المجتمع يطالبها بأن تكون عضوا فعالا بالمجتمع من خلال التعلم والعمل، لكنه ينظر بريبة شديدة للنتائج الحتمية لتواجد المرأة في المجال العام، وأعتقد أن التفسيرات البسيطة لظاهرة العنوسة بإرجاعها للظروف المعيشية وغلاء المهور، هي تفسيرات سطحية، إذا لم نربطها بالقيم الاجتماعية السائدة في وقتنا الراهن والتي هي قيم مأزومة نتيجة كونها قيم نكوصية تشدنا لماض لا نلتقي به في واقعنا الحالي. 



عن الجميلات



الجميلات مظهرا وتقاسيم أنوثة،هن المشغولات بالكحل والمرايا وتلاوين أحمر الشفاه وصبغات الأظافر المختلف ألوانها، هن المغموسات في العطر عرفا وتخيلا لا ينال، وهن المتشوقات بفتنة العاشقات لنعومة معطف الكشمير الذي يلف جسدا يستقبل الريح بتفاصيل شتوية مبهمة، يعرف سرها وكنه انحناءاتها الدانتيل الأسود المعشّق بالحرير، وقد انفصل على الجسد فستان سهرة لا ينكشف إلا في القاعات المغلقة او ثوب نوم يفضله الرجال أحمرا بلون الرغبة، وتشهيه النساء أسودا يليق بالبياض الذي تحته، وهن الغارقات حين يلتقين في ثرثرات جامحة عن آخر التصاميم الشتوية لحقائب اليد، وعن لون عدسات العيون الأنسب للثوب الأسود والأحمر، ولمشاوير العمل اليومية.
إنهن فاتنات مؤمنات ماجنات، يبحثن عن حبيب هو الزوج غيرة وإنفاقا، وهو العشيق الطالع من المسلسلات التركية رقة خلق ونبل اخلاق ووسامة شكل نحتته اجتهادات الخيال وآماني العاشقات. يذكرن الصلاة ليلا ؛ جمعا وتقصيرا، ونهارهن عامر بالمشاغل والخرجات ورنات الهاتف المزود بشريحتين، للحبيب واحدة وللصديق اخرى ولابن الجيران ثالثة محتاط بها عند الاخت او تحت المخدة البيضاء المطرزة بخيوط الدانتيل وبالأحلام التي تكبر وتقاس بمقاييس الجمال عندهن، هن الجميلات مظهرا وتقاسيم أنوثة.

عن بنات الريف، مغنيات الأعراس


كان صوتهن على ضربات الدربوكة يعلو بنداء الرجاء: " طول حبيبي ما جاني يا الرايح قولو حبك كواني "، هن بنات الريف الجميلات صانعات الفرح المنسرب في تلابيب الروح ، خالقات البهجة الطروب التي تعم اعراس الدوار حين تلتقي النسوة والأطفال في حوش الدار ويتوسط الرجال الرحبة يسسبحون بحمد الخالق ويمجدون جمال مخلوقاته، وتغني النسوة وتعلو الزغاريد الرافضة حين ينشد الرجال تسابيح الندم : أنا راسي شاب وخايف ملعذاب ..." ترد النسوة من صحن الدار بصوت الغواية والدعوة للمعصية التي تؤمن أن رحمة الله اكبر من أن تخطيء العاشقين فستره يحرس خطوات سعيهما نحو التوحد البهيج:
التُوت وْيا مكحلْ التُوتْ
التوت غرس الدوالي
و اللَّه ما نذوق التوُّت حتى نبوس ولدْ خالي.

عن حاجة الرواية إلى أبطال إشكاليين




يندد البعض بالرواية التي تصور حيوات مأزومة وأبطال إشكاليين، وتنقل رؤية سوداوية عن الواقع ويرون بأن الرواية ما كان يجب لها أن تغرق في سودواية تجعل القاريء لا يجد فيها سوى شخصيات شاذة ومأزومة وعاجزة عن الفعل والتغيير، شخصيات مطرودة من ملكوت الرضا إلى خلاءات لا إسم لها، مستنزفة الروح وذاهلة عن الطرق التي أمامها، لكن، وبقراءة متأنية لما ينشر سنويا من روايات نجد أن الروايات الإشكالية التي تقارب تلك الشخصيات المأزومة والمطحونة تحت وطأة الواقع، روايات قليلة. صحيح أنها قد تكون فارقة وأكثر أهمية، وبالتالي الأكثر صدى، لأنها نصوص روائية مصرة على مقاربة تمزق الشخصية الروائية باعتبارها تعبيرا عن تمزقات اجتماعية وسياسية ومحاولة لفهمها وتقدير تأثيراتها على الفرد الذي غالبا ما ينسحق تحت وطأتها ، والرواية تصور وتكتب ذلك الانسحاق والضياع الذي يعيشه فرد مطرود من رحمة الجماعة.

في مقابل هذه الروايات التي لا يقدر إلا لقلة قليلة من المبدعين الكبار على كتابتها، نجد روايات اخرى كثيرة، وربما هي أكثر مقروئية تخرج عن سوداوية الروايات الإشكالية لتصف واقعا متدرجا في ألوانه، وهي روايات غالبا ما يغمرها النسيان سنوات قليلة بعد إصدارها. فتاريخ الرواية يحفظ لنا روايات الأبطال الإشكاليين المأزومين كنماذج وكعيون أدب ويضرب في الغالب صفحا عن باقي الروايات التي يدرجها مؤرخو الأدب غالبا ضمن الأدب التجاري رغم ما تحققه في وقتها من نجاحات، والسبب في هذه الانحياز نحو الروايات العميقة التي تعالج اوضاعا مـأزومة وإشكالية، يكمن في اعتقادي في طبيعة الجنس الروائي ذاته؛ إن الرواية كجنس لا يتطور إلا في فترات المخاض والتمزق الاجتماعي التي تعبر عنها الرواية، دون بقية الأجناس الأدبية، باقتدار ، نتيجة لما تملكه من حرية وقدرة على الغوص في النفس الانسانية وفي الواقع الاجتماعي وما يحدث بينهما من تبادلية تأثير وتأثر.
إن كل انتقال من شكل روائي سائد إلى شكل جديد، يسعى لكسب مشروعيته، غالبا ما كان يحدث في فترات أزمة مجتمعية حادة، ولنأخذ الروائية الجزائرية كمثال، رواية ما قبل التسعينات ورواية التسعينات وما بعدها، ونبحث عن تأثير الأزمة في الأدب سنجد تغييرا جوهريا قد مس طبيعة الرواية الجزائرية سواء من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون، وقد نناقش لاحقا طبيعة تلك التغيرات التي مست الرواية في شكلها ومضمونها، تلك التغيرات كانت نتيجة لسبب رئيسي هو أزمة العشرية السوداء التي تناولتها الرواية من خلال شخصيات تائهة وفاقدة لليقين وللقدرة على التغيير الذي تطمح له.
إن اولئك الأبطال الشواذ، وتلك الشخصيات الضالة والضائعة هي مطلب للرواية، كجنس، قبل ان تكون اختيارا من طرف الكاتب الذي لا يملك إلا لاستجابة لذلك الشرط الروائي.

conter