الأربعاء، نوفمبر 26، 2008

المثقف والايديولوجيا

هناك مقولة شبه مسلم بها في الخطاب السوسيولوجي حول المثقفين وهي أن هؤلاء الأفراد المتميزون اجتماعيا، الذين يكون عملهم ذهنيا بالأساس، وتنحصر وظيفتهم في توليد الأفكار وتبني قيم الخير والحق والجمال وكل القيم الجوهرية والأساسية في الإنسان التي تسعى الجماعات الأخرى أو بعضها على الأقل إلى طمسها والدوس عليها، هؤلاء المثقفون ما هم في النهاية سوى نتاج للإيديولوجيات السائدة في زمانهم، " والإيديولوجيات هي هذه الخطابات الشاملة حول الإنسان والمجتمع والعالم، والتي تسعى باستنادها مبدئيا إلى العلوم والمعارف الوضعية، تسعى إلى مضاربة حقائق الدين القديمة، بل الحلول مكانها "، وهي بالتالي أي الإيديولوجية تقدم نفسها كمجال خصب قادر على أن يضم تحت جناحه الكثير من التفسيرات والإجابات التي يبحث عنها الإنسان، حيث إنها كأنظمة تفكير دنيوية توظف العلم في إطار بناءها العام ولكنها تتجاوزه أيضا لتجعل منه مجرد رافد من ضمن روافدها الكثيرة، تلك الروافد التي تنصهر في " مزيج حميم بين السياسي والثقافي والتاريخي والطوبي " إنها تكسب مصداقية اكبر عن طريق هذا التوظيف للعلم، المصداقية التي تحتاجها في إبعاد التهمة التي ظلت تلاحقها بأنها مجرد يوتوبيات وأوهام علموية، مما صبغ عليها صفة تحقيرية لدى رجال العلم، ولدى المثقفين النقديين الذي يزعمون قدرتهم على الانفلات من ربقة الإيديولوجيات المهيمنة.
لقد كان ميلاد الانتلجانسيا الأوروبية كقوة اجتماعية فاعلة مرافقا للحملات التي خاضها المثقفون ضد الإيديولوجيات الشمولية التسلطية في ثلاثينيات القرن العشرين، تلك الحملات المناوئة للنازية والفاشية والستالينية، رغم أن الظهور البارز للمثقفين أو ما يسميه البعض بميلاد المثقف الحديث كان مع قضية درايفوس والبيان الشهير الذي أصدره إميل زولا بعنوان إني اتهم والذي وقف فيه ضد الدولة وضد الجموع الغاضبة والمطالبة برأس الضابط الفرنسي الخائن درايفوس الذي اتهم بالعمالة لألمانيا. لقد كانت قضية درايفوس هي البداية القوية والأبرز لتدخل المثقفين في الشأن العام والاهتمام بالتفاصيل والأحداث اليومية ومحاولتهم إعادة صياغة العالم بالشكل الذي يرونه أفضل. غير أن النضال ضد الديكتاتوريات الشمولية والفاشيات التي غزت أوروبا مع صعود النازية والفاشية في ألمانيا والحرب الأهلية الاسبانية وثورة أكتوبر في روسيا، هو الذي جعل المثقفين الأوروبيين في ثلاثينيات القرن العشرين، يعيدون عن طريق الكتابة وعن طريق الممارسة أيضا صياغة مفهوم المثقف ومنحه دورا آخر في المجتمع الذي ينتمي إليه وفي العالم أيضا، من خلال تكتل المثقفين والنضال الذي خاضوه ضد تلك الإيديولوجيات الكليانية التي تهدد الحق والحرية والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية، أي تهدد القيم التي راهن عليها المثقف ووضعته الظروف التاريخية متبنيا لها ومدافعا عنها؛ في تلك الفترة وما شهدته من أحداث جليلة هددت قيم عصر الأنوار ومكتسبات الحداثة الأوروبية انقسم المثقفون الأوروبيون إلى كتلتين متصارعتين، حيث لا مكان للحياد، إما أن تكون مع تلك الفاشيات ومدافعا عنها أو أن تكون في الصف الآخر معارضا، والمعارضة والرفض هو الخيار الذي تبنته الأكثرية من المثقفين الأوروبيين كاختيار وكرهان لا يهدف فقط إلى مجرد التعبير عن الرغبة في إعادة تنظيم المجتمع بشكل جدري جديد، بل إن تلك الأحداث قد أتاحت ولو بشكل غير ظاهر رغبة أولئك المثقفين في السيطرة على العالم من خلال توجيه الاختيارات السياسية والاجتماعية بصفة عامة.

لقد كانت تلك الفترة والفترات الاحقة لها محاولات جريئة من طرف المثقفين للتخلص من الشرط الايديولوجي الضروري والجوهري لوجودهم كفئة متميزة وتتمع ببعض من الاستقلالية اتجاه المؤثرات الخاريجية التي ينصاع لها عامة الناس الذي يتعاملون بنفعية وقصر نظر غالبا ما يجعلهم يتجاوزون فكرة النظر نحو افاق اوسع واعمق في القضايا التي يتناولونها او السلوكات التي يسلكونها، ولكن المثقفين وهم يناضلون ضد ايدلوجيات معينة كانوا في النهاية مجرد ناطقين باسم ايديولوجيات اخرى مناوئة، لقد انتصر المثقفون الاوروبيون للراسمالية ضد الوجه اللانساني الذي ظهرت عليه الستالينية في اول محاولة لتطبيق الاشتراكية والافكار الماركسية، وانتصصروا لافكار عصر الانوار التي تحولت مع مرور الوقت الى ايديولوجيا قائمة بذاتها تنهل من التاريخ اكثر مما تلامس الحاضر، انتصروا لتلك الافكار الحاملة للكثير من القيم التنويرية ضد الفاشية الايطالية والنازية الالمانية التي شكلت تهديدا جديا لتلك القيم التي حملتها العقلانية الاروبية وعصر الانوار.
في النهاية نعود للنقطة الاساسية التي يأخذها الدرس السوسيولوجي باهتمام وهو يقارب موضوع المثقفين، وهي ان هؤلاء المتميزون اجتماعيا و" المستقلون " فكريا، ما هم في النهاية سوى نتاج الايديولوجيات السائدة، رغم أن عملهم الذؤوب من اجل الانفلات من ربقة هذه الايديولوجيات لم يتوقف ولن يتوقف، وهذه الرغبة الجامحة في الاخلاص للعلم او الايمان او هما معا، بعيدا عن اشباح الايديولوجيا الفضفاضة والحاضرة في كل مكان، يشكل عاملا مهما من العوامل التي تؤجج حيوية هذه الفئة الاجتاعية و قدرتها على التجدد دوما وعلى النظر بعين نقدية اتجاه الانسان والعالم وما يستبطنه من قيم وافكار ومعارف.

الثلاثاء، نوفمبر 18، 2008

تكريس الإستبداد باسم الشرعية الثورية

إن أكبر النكبات التي منيت بها المجتمعات العربية الحديثة العهد بالاستقلال، والتي لا تخرج من محنة إلا لتلج محنة اشد ظلامية من سابقتها، تتمثل أساسا في حكامها المتكئين على شرعيات هشة خولتهم التأبد في الحكم، والاستبداد بمقدرات الأمة وتأميم الدولة لفائدة عشيرتهم الأقربين، هو حال كل الدول العربية بلا استثناء، وقد أعطتنا موريتانيا ذلك البلد المنسي والمهمل من الخارطة العربية ومن حسابات ساستنا، أعطتنا درسا قصيرا في الديمقراطية، لم يتسنى له أن يعمر طويلا، لان المبدأ الذي يتكأ عليه كل الحكام العرب من المحيط إلى الخليج هو مبدأ الانقلاب على كل الشرعيات التي يكون مصدرها الشعب.
وهم الشرعية الثوري:
نحن دول يحكمها العسكر، والع
سكر يسير الدولة ويعامل المجتمع بعقلية عزوز الكابران
تلك الشخصية الروائية التي أبدعها مرزاق بقطاش ليعبر من خلالها عن نقده لكل المرجعيات البائدة التي تلجأ إليها الأنظمة السياسية عندنا، والتي لا تقوم بأي عمل فعال إلا حين يتعلق الأمر بتكريس هيمنتها على المجتمع وتسخير الدولة لخدمة فئة معينة على حساب باقي الفئات الأخرى.
في الجزائر، في بلد الحزن العريض والخيبات المتوالية تتم التضحية بأول دستور ديمقراطي عرفته البلاد، بأول دستور كان نتيجة عمل نخبة من المفكرين الجزائريين ولم يكن صنيع المطابخ السياسية التي تنبعث منها رائحة النشادر المقيتة، أول دستور يقول لا للاستبداد بالحكم من طرف شخص واحد مهما كانت مقدراته، أول دستور يقول لنا وللعالم اجمع أن التداول على السلطة فعل حضاري، وأن المجتمع الجزائري الذي مر بتمزقات عميقة وأزمات حادة خرج منها مثقلا بالجراح، صار قادرا ومستعدا للتعامل بطريقة حضارية وبروح ديمقراطية مع السلطة التي تحكمه، وانه صارا مؤهلا لاختيار من يحكمه بكل حرية.
لقد تمت التضحية بدستور 1996 لأجل إرضاء نزعات تسلطية غير خفية أبداها الرئيس بوتفليقة منذ توليه الحكم، وهو الذي برع في القفز على الإرادة الشعبية وعلى البرلمان وعلى قوانين الجمهورية وأولها الدستور. دستور 1996 الذي حدد في المادة 74 منه فترة الرئاسة بعهدتين غير قابلتين للتجديد هو دستور رئيس عسكري ( اليامين زروال )، ودستور 2008 الذي قنن الحكم مدى الحياة هو دستور لرئيس مدني ( وهنا المفارقة ) صرح في عز انتصاره سنة 2004 بأن عهد المشروعية الثورية قد انتهى، وان مصدر السلطة والمشروعية لن يكون غير الشعب، ولكنه بعد أربع سنوات انقلب على دعواه تلك، وكثيرة هي انقلاباته على كل ما يدلي به من تصريحات موجهة للاستهلاك المحلي، للمواطنين البسطاء الذين لم يعودوا يستمعون له أصلا، لهذا فهو لم ير ضرورة أن يمر تعديله الدستوري على استفتاء شعبي، لان الرئيس المدني تصرف بذهنية عزوز الكابران الذي لا يجيد سوى إعطاء الأوامر للكلاب المدربة لترفع أرجلها في البرلمان وتصوت بالأغلبية المطلقة على ما قرره السيد الرئيس.
الرئيس بوتفليقة قد يكون الثوري الأخير الذي يمنحه التاريخ فرصة الدفاع عن مبدأ عزيز على النظام الجزائري وهو مبدأ الشرعية الثورية الذي شكل ومنذ لحظات الاستقلال الأولى متكأ رئيسا للنظام، باسمه يمارس استبداده وباسمه يتم إقصاء كل المنافسين الفعليين والمحتملين، فباسم هذا السند المبهم في معناه، أقصي الراحل محفوظ نحناح من سباق الرئاسيان سنة 1999، لا لشيء سوى لان الدستور ( الدستور مرة أخرى ) يفرض أن يكون الرئيس مجاهدا وثوريا لا غبار عليه. وبعد 46 سنة من الاستقلال لا يزال هناك خزان لا ينضب من المجاهدين والثوار الجالسين على كرسي الانتظار تأهبا لاستدعائهم وقت الضرورة لتبوء السلطة باسم مشروعية ثورية لا تعترف بالجيل الذي ولد بعد الاستقلال وتراه غير مؤهل لحمل أمانة الشهداء ( رفاق المجاهدين ).
من المفارقات التي يجيد التاريخ حبكها ان يتم تعديل الدستور الجزائري لتمكين الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة ( 72 سنة )من الحكم مدى الحياة في نفس الأسبوع الذي يتم فيه انتخاب باراك اوباما رئيسا لأمريكا، بكل ما يعني هذا الاختيار من طرف الشعب الأمريكي من انقلاب رهيب في الذهنية، التي وفي اقل من نصف قرن استطاعت أن تتخلص من ارث قرون طويلة من العنصرية والتمييز ضد السود، باراك اوباما لم يكن يحلم يوما قبل عشر سنوات فقط ( ربما ) بأن يصير رئيسا لأمريكا، وهو المنحدر من أصول افريقية سوداء ومن أب مسلم في مجتمع تتملكه فوبيا الإسلام.
إن أمريكا التي لا نكف عن لعنها صبح مساء قادرة على إعطاءنا نحن العرب دروسا في الديمقراطية ودروسا في التغيير، والأهم من هذا دروسا في الانفلات من ارث الماضي،
الماضي الذي لا يزال يحكمنا ويسير سلوكياتنا وإليه ننسب كل مفاخرنا، ونحوه تتجه أحلامنا المقلوبة وهو الذي يصوغ نوستاليجاتنا التي لا تنتهي، وباسمه ( باسم نفس الماضي ) تحكمنا شلة من الديناصورات المنقرضة وتستبد بنا، وتهيؤ لنا كل الظروف التي تجعلنا نلعنها بنفس المقدار الذي نلعن به أمريكا. إنه عبث التاريخ.
جيل بلا أيديولوجيا
إن جيلنا، جيل 88 البائس، الذي تفتق وعيه بالذات والتاريخ والدولة على وقع انتفاضة أكتوبر 1988 هو جيل
مأزوم، جيل بلا هوية ثابتة، وبلا ايدولوجيا تقود خطاه وتؤثث أحلامه ويوتوبياته التي ينظر من خلالها نحو المستقبل، جيل لا يؤمن بالدولة لأنها حرمته ابسط حقوقه، ولا يعنيه الماضي الثوري المجيد كثرا، لأنه باسم ذلك الماضي عانى طويلا وكثيرا، جيل لا يؤمن بكل الايدلوجيات التي وصلته عبر قنوات السلطة، ويرفض بصمت كل المشروعيات التي يتبجح بها النظام الحاكم، وهو يرفض بالذات تلك الشرعية الثورية التي لم يلتقي بها في واقعه سوى كتبرير إيديولوجي للفشل، وكأيديولوجيا خائبة وغير مقنعة ومع هذا فهي تسمح لرئيس الجمهورية أن يعترف علانية ( دون خجل ) بفشله وفشل فريقه الحكومي في تحقيق الأهداف المسطرة خلال عشرية كاملة، ولكن نفس الشرعية ونفس الإيديولوجية، تتيح لنفس الرئيس الفاشل الذهاب نحو عدة أخرى وعشرية أخرى من الفشل.
لهذا فجيلنا الذي عايش إفلاس كل المرجعيات التي يتكأ عليها النظام، كنس من ذهنه كل تلك الإيديولوجيات ومعها كنس أشياء أخرى جميلة وجوهرية في الذات الجزائرية الممزقة. لان الأنظمة المستبدة تكون قادرة وبفعالية على تشويه كل الأشياء الجميلة لدى شعوبها المغلوبة على أمرها.

السبت، نوفمبر 08، 2008

أزمة المثقف العربي ( 6 )

المثقف العربي بين تعسف الأنظمة العربية وازدواجية الغرب:
كثيرا ما يراهن المثقف العربي وهو يواجه السلطة المستبدة والمعادية للديمقراطية على الغرب كحليف يمكن أن يمد له يد العون في صراعه من اجل تحصيل الحقوق المدنية والسياسية، وكفزاعة لترهيب الأنظمة المستبدة، ولكن الغرب الذي يوجد في قاع الفكر العربي كما يقول العروي، لا ينظر إلى الديمقراطية في البلدان العربية بنفس النظرة التي ينظر بها لنفس الموضوع / القيمة في بلدانه الأصلية، فالديمقراطية التي يمكن أن توصل إسلاميين للسلطة، بما يمثلونه من معارضة تاريخية للغرب ولمناراته العلمية والمعرفية، هي ديمقراطية مشوهة في نظر الغرب يجب محاربتها بدعم الأنظمة التسلطية للوقوف في وجه التيارات السياسية التي لا تخدم مصالح هذا الغرب، وبالتالي فإن الديمقراطية بالنسبة للغرب هي سوق تمكنه من اختيار من يصل للحكم، والأكثر خدمة للغرب وولاء، هو الأكثر ديمقراطية.
لهذا يبدو رهان المثقفين العرب على الغ
رب في صراعهم ضد استبداد الأنظمة الحاكمة في بلداننا العربية هو رهان خاسر، لأن سياسة الكيل بمكيالين التي يتبعها الغرب، وسياسيته البراغماتية التي تنظر لمصالحه قبل أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخرين، تجهض هذا الرهان.
إذن، فالمثقفين العرب وخصوصا الفئات المستنيرة التي آمنت بقيم الغرب العقلانية والداعية للعدالة والمساواة والتنوير وراهنت عليه، تقع بين المطرقة والسندان، مطرقة الغرب المتنكر لقيمه حين تتعارض مع مصالحه السياسية والاقتصادية واستراتيجياته المستقبلية، وسندان الأنظمة الحاكمة التي لا " تعتبر هذه الفئة من المثقفين أعداءها فقط, لأنهم يتبنون قضية الديمقراطية, بل أيضا لأنهم يرفضون كل مواقفها وخياراتها وسياساتها الإقليمية والدولية التي تستجيب في معظمها لمصالح الغرب "(
[1])، ومن هنا فإن المثقفين العرب وخصوصا المشبعين بقيم الثقافة الغربية والمدافعين عن الحداثة كنموذج غربي المنشأ قابل للتوطين محليا، يجدون أنفسهم في وضعية لا يحسدون عليها، على عكس المثقفين الإسلاميين الذين حسموا اختياراتهم اتجاه الغرب منذ البداية والذين يعادونه بشكل حاد وراديكالي ولا يرون فيه سوى جانبه السلبي، ولا يرونه له مزية غير تقدمه التكنولوجي الذي لا يعارضون استيراده مجردا من مرجعياته الثقافية؛ بالإضافة إلى تصالح التيار الإسلامي غير المتشدد مع السلطة وانخراطه في المشروع السياسي للدولة الوطنية وللنظم الحاكمة، التي وظفته ( أي التيار الإسلامي السلفي غير الراديكالي ) في فترات كثيرة لكسر شوكة التيارات الأخرى المعارضة وخصوصا التيار القومي واليساري الذي كان ولفترة معينة (الستينات والسبعينات ) قويا وقادرا على فضح انحرافات السلطة والتنديد بإخفاقاتها المتكررة، لهذا نجد أن المثقف الإسلامي له موقف ثابت من الغرب وهو موقف الرفض وبالتالي عدم الحاجة ( النظرية على الأقل ) لحماية هذا الغرب والاستجارة به من ظلم وتعسف السلطة الحاكمة، فقد " انخرط المثقف الإسلامي السلفي في المشروع السياسي القومي منذ انتصار الناصرية في مصر وحرب التحرير في الجزائر، كما انخرط في استعادة السيادة الوطنية المستلبة من القوى الاستعمارية، إلا أنه، وعلى المستوى الفكري تقوقع وانكمش، وأظهر عدم القدرة على مجارات التطورات العلمية والفكرية والثقافية، وهكذا ظل يعيش – كما هو نموذجه التاريخي – حالة تبريرية للسلطة مع عدم رضاه عنها "([2])، وبالتالي كان خيار هذا المثقف محسوما كما أسلفت الذكر اتجاه الغرب الذي ظل يعادي أنواره وحداثته، في نفس الوقت الذي ظل حريصا على توظيف بعض منجزاته التكنولوجية لإيصال تأثيره للناس أو لتسويق رؤيته الماضوية / السلفية المنفصلة عن هموم المجتمع الحقيقية، وأسئلته الجوهرية التي يبحث لها عن إجابة لا يملكها سوى المثقف الذي يحسن الإنصات لنبض المجتمع في حركيته التاريخية.
أما المثقف العلماني، والمرتبط فكريا بالغرب وانجازاته الحضارية والفكرية، فقد ظل رهين أوهامه هو الآخر: وهم الغرب المستنير منبع العدالة والحرية والديمقراطية، وواقع الغرب الاستعماري والمعارض الشرس لمصالح الأمة، والذي لا يرى في هؤلاء المثقفين سوى مشروع وكلاء ينفذون مشاريعه واستراتجياته في ديارنا، " لقد وجدت هذه الفئة من المثقفين المدافعين عن الديمقراطية نفسها في موقف حرج، فهم يتبنون الديمقراطية ويدافعون عنها باعتبارها المدخل الأساسي لمعالجة مجمل الإشكاليات التي تعانى منها الجماعة ولكنهم لا يقبلون في الوقت نفسه وصاية الغرب على مواقفهم ورؤيتهم واقتناعاتهم المتعلقة بقضايا يرونها جوهرية في مقابل ما قد يقدمه لهم الغرب من حماية عبر مؤسساته ومنظماته "(
[3])، ومن هنا فهذه الفئة من المثقفين التي تنتظر من الغرب أن يمد لها يد العون في نشر قيمه الحضارية ومنجزاته المعرفية التي آمنت بها، تجد نفسها عالقة بين متطلبات المصلحة الوطنية والقضايا الجوهرية للأمة من جهة، واستبداد الأنظمة الحاكمة وتفريطها في تحمل مسؤولياتها اتجاه تطلعات أفراد الجماعة في التقدم والرقي والدفاع عن القضايا المصيرية التي هي محل اتفاق شبه كلي بين مختلف الشعوب العربية، من جهة ثانية، وشروط الغرب المجحفة وبراغماتيته التي لا ترى سوى مصالحه من جهة ثالثة.
هذه الحالة المعقدة والمحرجة التي وجد المثقف العربي العلماني والتنويري نفسه في ظلها تدفعه لتقديم تنازلات عدة سواء للسلطة أم للغرب، أم تدفعه للتنازل عن كونه قيما على مصير الأمة وحاملا لهمومها وتطلعاتها؛ وأي تنازل من هذا النوع هو بكل تأكيد إفراغ لجوهر المثقف من محتواه.
ومن هنا فإن حالة الوعي الشقي التي يجد المثقف العربي التنويري نفسه في ظلها تدفعه للتذبذب في اختياراته، وتدفع فئة من هؤلاء المثقفين للحسم باختيار الغرب، ليس كظهير وسند لهؤلاء المثقفين في مواجهتهم ضد السلطة المستبدة، ولكن كفضاء جغرافي وحضاري يمكنهم من النظر بحرية اكبر في قضايا أمتهم من جهة، وفي علاقتهم بالغرب وعلاقة الغرب بالعالم العربي من جهة ثانية، عن طريق الهجرة أو المنفى التي يراها بعض من هؤلاء المثقفين كحل يمكنهم من الاستفادة من مناخ الحرية، الذي هو عنصر أساسي بالنسبة للمثقف، هذه الحرية التي هي ضرورة للإبداع والتفكير بعيدا عن تلك الضغوطات القاهرة التي تفرضها الأنظمة العربية على المثقفين في أوطانهم، فمثقف عربي مهاجر مثل الطاهر بن جلون يرى " أن المكان الوحيد الذي يسمح للأدباء والمثقفين العرب بالتعبير عن رأيهم بكل حرية هو المنفى، ويقصد به تدقيقا أوروبا وأمريكا الشمالية، ويخص مدينتي باريس ولندن بالذات، لما رآه من كثرة هجرة المثقفين إلى العواصم الأوروبية والاستقرار بها بشكل نهائي والتدريس في جامعاتها، والعمل على إصدار مجلات وجرائد متميزة تعتبر من أحسن وأجود الإصدارات العربي شكلا ومضمونا، خاصة منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان موطن الحرية والديمقراطية قبل 1975"(
[4])، كما أن مثقفا مهاجرا آخر كحليم بركات يرى أن تواجد المثقف العربي في المهجر / المنفى يساعده على تكوين نظرة نقدية بالغة الأهمية اتجاه الثقافة العربية واتجاه الغرب أيضا: " ربّما نتمكّن بفعل تواجدنا كمثقفين عرب في الغرب أن نرى الأمور من زاوية خاصّة. وستكتسب رؤيتنا أهمية بالغة إذا ما تكلمنا من موقع الصراع الثقافي داخل الثقافة العربية وضدّ الثقافة الغربية المهيمنة "([5]).
ولكن ألا تعتبر مثل هذه الدعوات للهجرة الجماعية نحو الفردوس الديمقراطي الغربي، تبخيسا واحتقارا للمثقف العربي الذي فضل البقاء في وطنه رغم قسوة الظروف، وظل ينتج ويعطي ويصوغ مشاريعه الفكرية بحس نضالي نادر، ثم في المقابل ما قيمة العطاء الفكري المنتج في ظل مناخ الحرية الذي قدمه مثقفو المنفى للثقافة العربية يتساءل المفكر والناقد عبد الرزاق عيد، ويضيف بلغة جازمة " بأن مثقفي المنفى لم يقدموا شيئا لصالح الشعوب العربية، بل تحولوا إلى أبواق لبعض الأنظمة العربية "(
[6]).
إن هجرة المثقف العربي للغرب كما دعا إليها الطاهر بن جلون وكما بررها مثقفون آخرون متواجدون بالغرب، هي هجرة من اجل الحرية التي تعتبر بالنسبة لإبداع المثقف كالهواء والماء لا استغناء عنها، هذه الحرية المفتقدة في البلدان العربية التي تعمل أنظمتها جميعا على ضمان البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، سواء تلك التي تبنت الديمقراطية الشعبية أو تلك التي اختارت نهج الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، أم تلاك الأنظمة الملكية، " فلقد اتفقت كلها على قمع المعارضة السياسية بالدرجة الأولى ثم التصدي للمثقفين والكتاب عموما إذا خاضوا في المسائل الممنوعة، فعليهم الاكتفاء بالشعر العاطفي المحلق في الفضاء، أو بالروايات الاجتماعية حول ظاهرتي الزواج والطلاق، والمسرحيات التهريجية وما إلى ذلك من الأدب الترفيهي الذي لا يقلق أحدا "(
[7])، فالهجرة في النهاية لم تكن اختيارات أو مجرد بحث عن مغانم مادية للمثقف العربي، إنما هي بالأساس بحث عن المناخ المناسب الذي يساعده على التفكير والتعبير عن راءه بحرية اكبر مما هي موجودة عليه في الوطن الأم، رغم أن الحرية بمعناها المطلق تظل مجرد حلم سواء في الغرب أو في ديار العرب.
ولكن حين نعود لسؤال مركزي طرحه عبد الرزاق عيد: مالذي قدمه مثقفو المنفى للشعوب العربية؟.
بعبارة أخرى هل سمحت ظروف المنفى والحرية النسبية التي وجدها المثقف العربي في الغرب، هل سمحت له بإنتاج خطابات فكرية قادرة على استبطان المشكلات الحضارية للأمة و
التعبير عنها من جهة، ونقد تلك النظرة السلبية التي يرسمها الغرب عنا من جهة أخرى؟
نستطيع الاطمئنان للإجابة بنعم على هذا السؤال المركزي الذي يلخص جوهر المثقف العربي وعلاقته بالغرب كمجال حضاري، فالنماذج التي نقدمها لنجاح هذا المثقف المهاجر في الإنصات لنبض المجتمع العربي والتعبير عن جوهر الإشكاليات التي يعانيها تعطي إجابة واضحة عن السؤال المطروح أعلاه. ونكتفي هنا بإيراد ثلاث نماذج لمثقفين عرب اختاروا المنفى ومن هناك صاغوا مشاريعهم الفكرية التي صبت في فائدة المجتمع العربي والفكر العربي خصوصا:
- هشام شرابي: لقد فتح هشام شرابي هذا المثقف الفلسطيني وأستاذ التاريخ الأوروبي الحديث بجامعة جورج تاون الأمريكية " الباب لمفاهيم كثيرة أن تدخل السجال: النظام الأبوي، النقد الحضاري، تحرير المرأة (كقضية سياسية تعني المجتمع برمته)، الحركات الاجتماعية الذهنية واللغة. وكل ذلك في إطار تاريخي فلسفي اجتماعي ومفند في هذه المفاهيم المضامين الثقافية والحضارية والاجتماعية"(
[8])، ومشروعه الفكري الموسوم بالنقد الحضاري لقي ترحيبا أكاديميا بالغ الحفاوة في العالم العربي لما يوفره من ثراء معرفي، وما يوظفه من وسائل منهجية لمقاربة أسباب تخلف المجتمع العربي، فدون أن يتخلى عن انتمائه العربي والتزامه بقضايا أمته، ذهب هشام شرابي في مشروعه الفكري إلى نواة العائلة والنسيج الاجتماعي لتفكيك طبيعة النظام الأبوي الذي يرد إليه أسباب تخلف المجتمع العربي، هذا التخلف الذي لا يتم تجاوزه حسب شرابي سوى بتحرير المرأة وتفتيت النظام الأبوي وتغييره " والوسيلة إلى تحقيق ذلك: 1 – النقد الحضاري، 2 – الحركات الاجتماعية، 3 – تفعيل دينامية العمل المشترك أو ما اسماه شبكات التواصل بين المثقفين والإعلاميين خاصة."([9]). فالوسائل المنهجية التي يقترحها هشام شرابي لمقاربة إشكالية تخلف المجتمع العربي واضحة وتتميز بفعالية جعلتها تحضا بالترحيب الذي تستحقه في الحياة الفكرية العربية المعاصرة.
- ادوارد سعيد: هذا المثقف والأكاديمي الفلسطيني أيضا الذي حمل " بين جنبات روحه هم قضية فلسطين ومشكلاتها وتعقيداتها, فكان يؤلف الكتب, ويكتب الأعمدة والمقالات في الصحف, ويلقي المحاضرات ويعقد الندوات في سبيل إظهار عدالة وإنسانية هذه القضية، ومدى حضورها الصحيح واللائق في الإعلام الغربي "(
[10])، والذي عمل من خلال مشروعه الفكري على الدفاع عن قضايا العرب وفلسطين وتبيان زيف النظرة الإعلامية الغربية اتجاه العرب، وكذا زيف ادعاءات الاستشراف حول العرب والإسلام وعالم الشرق بصفة عامة، فقد كان كتابه الاستشراف الذي صدر سنة 1978 واحدا من أكثر الكتب أهمية حول هذا الموضوع فاداورد سعيد يجزم " أن الاستشراف صناعة أوروبية واختراع أوروبي تبناه الأوروبيون، خاصة الفرنسيون والبريطانيون منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر"([11]) بغية صناعة عالم الشرق كما هو في مخيلتهم لا كما هو في الواقع، وبالتالي الصقوا به من السلبيات الكثير ووصفوه بالاستبداد والظلامية وغيرها من النعوت الايكزوتيكية التي يبحث عنها الغرب في أسطورة " سحر الشرق "؛ سعيد بين زيف تلك الادعاءات بمنهجية ورصانة علمية هدمت بشكل لا رجعة فيه أسس ومرجعيات الاستشراف التقليدي.
- محمد أركون: وهو مفكر جزائري، وأستاذ الفكر الإسلامي بجامعة السوربون، يعتبر مشروعه الفكري الموسوم بالإسلاميات التطبيقية محاولة متفردة لدراسة التاريخ الإسلامي بما يحمله من تراث ومرجعيات دينية واجتماعية، واحدا من أهم المشاريع الفكرية التي قيض لمثقف عربي القيام بها في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولكن مالذي قدمه أركون كمثقف عربي مهاجر وحاصل على الجنسية الفرنسية للفكر العربي، وللمجتمعات العربية بصفة عامة، يمكن الاستشهاد هنا على أهمية مشروع أركون الفكري وضرورته الراهنة والمستقبلية بما قاله مترجم كتبه للعربية المفكر السوري هاشم صالح: " كثيرا ما طرح علي هذا السؤال: لماذا كل هذا الإلحاح على أركون؟ ألا تعتقد بأنك تبالغ في أهميته؟، وم
ا هو الشيء الذي قدمه للفكر العربي الإسلامي؟.
واعترف بان التساؤل كان يحيرني ويدهشني في كل مرة، فقد كنت اعتقد بان الترجمات التي قدمتها حتى الآن ( حوالي العشرة كتب وآلاف الصفحات..) كافية للبرهنة على أهمية هذا المشروع وضرورته بالنسبة للعرب والمسلمين ككل، وأنا واثق أن هذه الأهمية، سوف تتجلى للناس أكثر فأكثر بمرور الأيام، وإلا فاني أكون قد أضعت خمسة وعشرين عاما من عمري عبثا "(
[12])، فمحمد أركون الذي طبع من خلال كتاباته العديدة، ومن خلال مجلته الأكاديمية " ارابيكا"، صبغ بصبغته الخاصة الدراسات الإسلامية في أوروبا، وفي العالم العربي أيضا، هذه الدراسات التي بدأت تجد لها أنصارا ومريدين يحتذون حذو أركون، ويوظفون منهجه لما يمتلكه المنهج الاركوني من قدرة على الولوج لجوهر الإشكاليات المطروحة على الفكر الإسلامي المعاصر، وأيضا لقدرة المشروع الفكري الاركوني على تفكيك تلك الأحكام المسبقة التي تسيّج العقل الإسلامي داخل نظام دوغماتي مغلق يصعب الفكاك منه، لأجل الانطلاق بعيدا عن تأثير التراث الكابح لعملية التحديث والنهضة والعلمنة التي يدعوا لها أركون من خلال مشروعه الفكري، وفي نفس الوقت إبراز النقاط المضيئة في التراث الإسلامي، الذي يشتغل عليه أركون ليس كموضوع تاريخي محض ، إنما كعامل لا يزال حيا ومؤثرا في حياتنا الفكرية والسياسية الراهنة. من خلال استعراضنا للجهود الكبيرة التي بذلها مثقفون عرب اختاروا المهجر لفضاء جغرافي وحضاري، وانطلاقا منه قدموا أفكارا وأطروحات تصب في خدمة القضايا العربية من خلال البحث عن أسباب التخلف العربي، والعمل على تقديم خطاب فكري يساعد على مواجهة حالة التخلف العام، يمكن القول بان المثقفين العرب في الغرب، لم يفقدوا هويتهم والتزامهم اتجاه قضايا الأمة المصيرية، وبالتالي وظفوا جو الحرية العام الذي يتيحه لهم تواجدهم في الغرب للتفكير بكثير من الحرية في مشكلات العالم العربي، هذه الحرية التي يفتقدها المثقف العربي في الوطن الأم.
وهذه العلاقة التي تربط المثقف العربي بالغرب، والتي هي علاقة " انبهار فكري" بالنسبة للمثقفين العرب الذي ظلوا في أوطانهم، وعلاقة تمثل واعي وعميق للثقافة الغربية بالنسبة للمثقفين العرب في الغرب، تشكل بالإضافة إلى ما سبق ذكره مظهرا من مظاهر علاقة العرب والمثقف العربي على وجه الخصوص بالغرب، وخصوصا من الناحية الفكرية والحضارية، التي تتجلى كمرجع فكري بالنسبة للمثقف العربي يصعب إن لم يكن مستحيلا الفكاك منه أو تجاوزه بالبحث عن مرجعيات فكرية بديلة سواء في التراث العربي الإسلامي أو من خلال البحث عن مرجعيات فكرية بعيدة عن تأثيرات الفكر الأوروبي ومركزيته.
من خلال ما سبق نؤكد على نقطة جوهرية تختصر العلاقة المتشنجة التي تربط المثقف العربي بالغرب، وهي ضرورة الفصل بين الغرب كمرجع فكري ممتد من عصر الأنوار الأوروبي إلى الوقت الحاضر، والغرب السياسي كقوة استعمارية وامبريالية استعمرت العالم العربي ونهبت ثرواته، وما تزال تعمل من خلال سياساتها الراهنة على الوقوف في وجه المصالح العربية وتعطيل آليات التقدم والمحاولات التي بذلت منذ بداية النهضة للعربية إلى الوقت الحاضر من اجل بلوغ التقدم والنمو المنشود، الذي هو حجر الزاوية في كل تلك المشاريع الفكرية التي نادى بها المثقف العربي خلال القرنين المنصرمين، وأيضا هو ( أي التقدم والنهوض ) المبرر الذي استولت باسمه الأنظ
مة الحاكمة في العالم العربي على السلطة.
خلاصة:
لم تكن تلك الدعوات التي أطلقها مثقفون عرب لتجسير الفجوة بين المثقف والسلطة(
[13]) لتجد صداها الايجابي، سواء من طرف السلطة، أو من طرف بعض المثقفين الذين ظلوا يراهنون على ثورة ثقافية ينعتق بموجبها المثقف من اسر وهيمنة وتسلط السلطة([14])، فقد ظلت العلاقة كما هي متشنجة وغير سوية في ظل تحول الأنظمة العربية التي استولت على الحكم عقب استقلال أغلبية الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أنظمة تسلطية قمعية ترى في المثقف مجرد مشوش على سياستها، وتاريخ الدولة العربية القصير يعطينا أمثلة كثيرة وذات دلالة على تعرض المثقفين العرب لكل أنواع التضييق والضغوطات التي تصل في بعض الأحيان بالإضافة للسجن والنفي إلى حد التصفية الجسدية، قمع المثقفين العرب من طرف أنظمة الحكم كان موازيا لقمع المعارضة السياسية، فالمثقف مجبر في كثير من الأحيان على الصمت أمام تعدد المعوقات التي تقف في طريق ممارسته لوظيفته في المجتمع، ونضاله من اجل تحصيل الحقوق المدنية والديمقراطية والعدالة والمساواة، التي هي شروط موضوعية ضرورية لأجل استئناف مشروع النهضة المجهضة، ضل في حدوده الدنيا دون أن يحقق طموحاته ومطالبه إلا بطريقة جزئية جدا اضطرت فيها بعض الأنظمة العربية لتقديم تنازلات تحت تأثير ضغط الشارع وضغط القوى والحركات الاجتماعية التي ظل تأثيرها هي الأخرى محدودا وسطحيا، ولم تستطع القيام بواجباتها في تحييد السلطة عن التدخل السافر والكلي والمهيمن في تسيير شؤون المجتمع بشكل يلغي أي دور ممكن ومحتمل للمجتمع الأهلي / المدني في تسيير شؤون المجتمع بنفسه وإبقاء دور السلطة / الدولة منحصر في إطار مهمتها السياسية وفي إطار المهام المخولة لها " دستوريا ". ففي وقت " أصبحت المهمّة الأساسية للدولة بنضج التجارب الإنسانية هي أن توفّر للمجتمع الشروط الأساسية للنموّ الحضاري، من أمن داخلي وخارجي، وتنظيم إداري، وتخطيط مستقبلي، وتيسير لسبل الريادة في التفكير والتدبير والإنجاز"([15])، ظلت الدولة العربية – بسبب أنظمتها الاستبدادية- مصرة على دولنة المجتمع، ومحاربة أي دور ممكن ومحتمل للمجتمع المدني في تسيير شؤونه بنفسه في زمننا العربي هذا الذي وصفه عبد الرحمان منيف ذات يوم بأنه زمن القمع.

[1] - صالح السنوسي، المثقف العربي.. مطرقة السلطة وسندان الغرب
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/8BBB6C74-2F9A-4E3F-AFD7-F9149BF69DCC.htm
[2] - أحمد موصللي و لؤي صافي، جذور أزمة المثقف في الوطن العربي، دار الفكر/ دار الفكر المعاصر، دمشق / بيروت، 2002، ص 54
- صالح السنوسي، نفس المرجع.[3]
- محمد ساري، محنة الكتابة، منشورات البرزخ، الجزائر، 2007، ص 8.[4]
- حليم بركات، مرجع سابق.[5]
- عبد الرزاق عيد، حول الثقافة العربية اليوم، مجلة الحرية،17/11/1986، عن محمد ساري، مرجع سابق، ص 8/9 [6]
- محمد ساري، مرجع سابق، ص 13.[7]
[8] - سليمان بختي، خيّب الموت إذ أعطى الحياة وأبناءها كل شيء. http://www.alnahdah.org/doc30034.htm
- نفس المرجع.[9]
- أيمن طلال يوسف، مرجع سابق[10]
- نفس المرجع[11]
[12] - هاشم صالح، محمد أركون ومشروعه، جريدة الشرق الأوسط، العدد 8949، الجمعة 29 ربيع الأول 1424 هـ 30 مايو 2003.
[13] - أنظر، سعد الدين إبراهيم، تجسير الفجوة بين المفكرين وصناع القرار في العالم العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد 64، بيروت، جوان، 1984
انظر أيضا، احمد كمال أبو المجد، المثقفون والسلطة، مجلة الهلال، مصر، اكتوبر.1986
[14] - راجع، الطيب تيزيني، على طريق الوضوح المنهجي، حيث يستعمل الرمزية ليصف هذه الفجوة بين انطونيوس ( السلطة ) وكاسيوس ( المثقف)، الذي سينتفض في الأخير دفاعا عن استقلاليته،
راجع أيضا، غالي شكري، ديكتاتورية التخلف العربي: مقدمة في تأصيل سوسيولوجيا المعرفة، دار الطليعة ، بيروت، 1986.
- عبد المجيد النجار، مرجع سابق[15]

conter