الجمعة، أبريل 17، 2015

أساطير جزائرية: اللي قرا قرا بكري


مالذي يجعل التعليم منبودا بهذا الشكل من لدن فئات واسعة من الجزائريين، حتى "عامة المتعلمين" أنفسهم لا يثقون أنهم يمتميزون، نتيجة ما يكتسبونه من معارف، عن غيرهم من الذين لم تتح لهم فرصة تحصيل تعليم مقبول، فالجزائري يؤمن بأن اللي قرا قرا بكري، دون أن تكون فكرة تجاوز العلم كخبرة مكتبسة وذات مردودية مجتمعية واضحة في وعيه، فهو عاجز عن تحديد مرجعية زمنية لهذا " البكري"، إنه لا يفكر في الأمر أصلا ولا يتعب نفسه في طرح التساؤل الجوهري حول الفرق الأساسي بين الآن وبكري، ولماذا قراية ( تعليم) الآن مرفوض اتكاءا على قراية زمان ؟. فتعليم زمان هو المرجعية وهو الأصل وهو المبتغى أو ما يجب أن يتسم به المتعلم ويحصله من معارف، ومن ثم ما يستطيع تأديته من وظائف اتكاءا على ما حصله من تعليم، دون أن يكون للفرد المتلفظ بهذا المثل دراية عن طرائق التعليم زمان وعن طبيعة المعارف المقدمة للمتعلم، ولا عن الدور الذي يشغله لمتعلم في المجتمع، إلا ما كان من تصورات بسيطة ومسطحة عن مكانة " الطالب " في المجتمع، والتي هي مكانة تبجيل وتقدير مجتمعي نتيجة ما يمتلكه هذا " الطالب " أو المتعلم من معارف دينية "بسيطة" تساعده على تبؤ صدارة بعض التجمعات، كالصلاة بالناس أو الخطبة وتفسير بعض الأحاديث وأحكام الدين الحنيف، وهي وظيفة جد خطيرة ولكنها بسيطة بساطة المجتمع التقليدي الذي لم يكن بحاجة لما نسميه الآن " القراية " أي نظام تعليمي يلبي احتياجات المجتمع لليد العاملة المؤهلة للقيام بوظائف متشعبة ومتنوعة وتتجاوز في معظمها العمل اليدوي الذي كان هو السائد في المجتمعات التقليدية التي كان " الطالب " يعد من نخبتها وممثلا للمعرفة فيها؛ المعرفة التي يشكل العلم الديني عمدتها. فمفهوم العلم قديما، وخاصة في المجتمعات المسلمة التي لم تعرف ازدهارا حضاريا كالمجتمع الجزائري، كان يعني حصرا العلم الديني وما يتفرع عنه من معارف تكون مساعدة له حتى وإن بدت في الظاهر مستقلة عنه كالرياضيات التي كان تدريسها يتم لغاية ديمية جوهرية وهي تلبية حاجيات "الفريضة " أو تقسيم المواريث، فالمفهوم المعاصر للعلم في العربية لم يكتسب وجوده إلا منذ فترة ليست بالطويلة، مما يجعل العودة إلى المعنى الأصلي والقديم لكلمة علم، عودة للأصل، وهي عودة تنفي ضمنيا، الدور الحديث للعلم المعاصر الذي يعانق المجتمع والناس وآفاق الكون، ملقية به في أحضان الدين الذي يتحول في حالتنا الجزائرية الراهنة، التي تحاول إرجاع العلم الحديث إلى الأصل الديني القديم من خلال المثل: " اللي قرا قرا بكري "، إلى مصدر شرعية ذات طبيعة متعالية ومرجعية لا يمكن لأي علم ينفي الانتساب إليها بشكل قاطع وأخذ بركتها، أن يحضى بقبول جمعي من لدن أفراد المجتمع، لهذا يكثر عندنا كعرب القرن العشرين والواحد والعشرين مفهوم التأصيل كلما تناولنا علما من " علوم الغرب" التي استطاعت النفاذ إلى منظومتنا التعليمية والجامعية، والتأصيل عملية علمية تؤديها النخب الأكاديمية كرد فعل على الإنكار الاجتماعي الذي تجابه به "العلوم الوافدة"، وكتأكيد على الأصالة والعودة نحو أصل نعتقد أنه موجود في الماضي فإن لم نجده اختلقناه ارضاءا للنزوع الماضوي لشعب لا يزال يصر بأن اللي قرا قرا بكري.
ذلك الأصرار على ماضوية غير محددة الصفات ولا واضحة في وعي من يصر على العودة إليها، تنفي عن المتعلم أية مشروعية ومن ثمة تجعل دوره الاجتماعي منفصل بشكل تام عن الدور الذي لعبه المتعلم منذ قرن فقط، وهذا الانفصال هو منبت التشكيك في جدوى ما يتعلمه هذا الفرد وما بتكسبه من معارف، مادام الوعي الشعبي مشدود نحو النموذج والمثال القابع في الماضي مجللا بالأبهة والوقار والتبجيل الذي يجعل أنموذجيته حقيقة لا يطالها التشكيك في وعي عامة الناس الذي يحتقب معاني خاصة محمية بهالة من التبجيل ومحاطة بتصورات عن نجاعتها الاجتماعية تجعلها طابو لا يمس. تلك النجاعة التي كانت مؤكدة وحقيقية في فترات سابقة لكنها فقدت إمكانية الوجود في حاضرنا دون أن تفقد انموذجيتها في المخيال الجمعي الذي يتكيء عليها لإدانة مخرجات الحاضر المتهم كمنظومة بالمروق والهرطقة مقارنة بالماضي الأليف والحميمي والفردوسي الذي يعيد المخيال الجمعي إنتاجه بشكل مستمر مصبغا عليه كلما تباعد الزمن صفات لم تكن فيه. 
في الوعي الشعبي الجزائري ارتبط العلم وما يتفرع عنه من عمليات اجتماعية: تعلم، تعليم، خطابة، فتوى، طبابة ... بغايتين: وجاهة دنيوية وحسن عاقبة في الآخرة، وهذا التصور المغرق في تقليديته يمزج العلم بالدين ويجعل من الأول خادما للثاني، فالمتعلم إلى وقت قريب كان هو " الطالب " بالمعنى الدارج للكلمة والتي تعني بشكل يكاد يكون حصريا طالب العلم الشرعي أو حافظ القرآن، وهذا المعنى الذي اتخذته الكلمة يرجع إلى طبيعة نظام التعليم في الجزائر، الذي كان، ولقرون طويلة، يضم العلم الشرعي وما يتفرع عنه على رأس المعارف التي يتم تلقيها وتداولها بين طلاب العلم. وهذا النظام التعليمي الذي استمر لقرون طويلة قبل أن تهدمه تدريجيا المدرسة الفرنسية، وتقضي عليه بشكل كامل المدرسة الجزائرية عقب الاستقلال باستثناء ما ظل يسمى بالتعليم الأصلي والذي حافظ على غايته الدينية من خلال بقائه تابعا لوزارة الشؤون الدينية بدل وزارتي التربية الوطنية والتعليم العالي من جهة، ومن جهة ثانية حافظ على مخرجاته التي لم تتعارض من التصور الشعبي عن "الطالب" الذي يتعلم الأمور الدينية من أجل تثقيف المجتمع دينيا، وهو الدور الذي يقوم به الأئمة والمرشديين الدينين من خريجي معاهد التعليم الأصلي، في الوقت لذي سارت فيه المدرسة في اتجاه " علماني " قطع بشكل حاد مع نظم التعليم القديم الذي توطد مؤسساتيا ومخياليا خلال الفترة التركية من تاريخ الجزائر واستمر كنوع من المقاومة خلال الفترة الاستعمارية، وطبيعته المقاومة والتي رسختها جمعية العلماء المسلمين، هي التي وطدت مكانته التي تمس في المخيال الجمعي، ومن ثم تحوله، أي التعليم القديم تاع بكري، إلى مرجعية ونموذج شديد التعارض مع طبيعة التعليم الحالي ذو الطبيعة العلمانية غير المعلنة، وذو الأهداف المتجاوزة بشكل كبير لأهداف التعليم القديم، وهذا ما يجعل مقولة: اللي قرا قرا بكري تكتسب مشروعيتها في الوعي الشعبي الجزائري كأسطورة تؤثث سلوك الجزائري في الحياة اليومية.

أساطير جزائرية: بنت الفاميليا

كانت جداتنا تتحدثن عن بنت الأصل وصرنا نحن نتحدث عن بنت الفاميليا، وبين الأصل الذي يحيل على النسب والعائلة الممتدة وانتمائها القبلي والعشائري وما تمنحه من مزايا للمنتسبات إليها، وبين الفاميليا التي تحيل على نزعة عائلية صغيرة وانتماء يكاد يكون مقطوع الجذور عن ماضيه الأبعد من جيل وعن جغرافيته التي طوحت بالكثير من العائلات بعيدا عن أرض الانتماء "الجدودية" فرق الزمن وفرق الرؤيا، وفرق القيم التي تبدلت وتغيرت وانقلبت على أصيل الماضي فعلا محتفظة بدعوى الانتماء إليه قولا.
تحضر بنت الفاميليا في مخيالنا الجزائري كأسطورة ندعي واقعتيها أكثر مما نلتقي بها فعلا وتمثلا وسجايا ونبل خصال؛ إنها، في تصوراتنا القمعية، الطاهرة التي تتحصن بعفة الجسد وبراءة القلب من أدران الغرام وخيبات الهوى. هي في تحديد الصفات: محمودة النسب، مقبولة الجمال، عارفة بالتدبير، وهي سند الرجال إذا ما غدر الزمان، وهي، بالأساس، حافظة الشرف وحاملة ثقله: شرف العائلة وهي بنت، وشرف الزوج وأهله وهي أم وزوجة، دون أن نفهم من الشرف الذي نتحدث عنه أكثر من معنى العفة بمعناها الضيق الذي يحيل مباشرة على انعدام الخبرة الجنسية قبل الزواج وعلى الوفاء الجنسي بعده، وفي تحديد أكثر تضييقا لدى البعض: إنعدام المعرفة الجنسية. فالجزائري المأزوم الرجولة يؤمن، حين يتعلق الأمر بالمرأة والجنس، أن مصدر المعرفة هو التجربة، وهي القناعة التي ترمي بالعارفات بأمور الغرام ولواعج الوصال خارج دائرة بنات الفاميليا حتى لو لم يمسسهن إنس ولا جان.
بنت الفاميليا في عرفنا الجزائري هي غاية الباحثين عن الظفر بالزوجة الصالحة، وهي مطمح وأمل كل الرجال الخلاطين الذي فقدوا، نتيجة تخلاطهم، الثقة في النساء، ولأن بنت الفاميليا صارت لا يظفر بها كما لا يظفر بكل ما هو نادر وغير متاح بوفرة، إلا قلة ممن ترعاهم " دعاوي الوالدين " وتسدد خطاهم النوايا الطيبة وإن خالطها سوء الفعال.

الرواية والمدينة


يقول عبد الله العروي: تهدف الرواية الواقعية الغربية إلى الكشف عن بنية المجتمع من خلال تجربة فردية تتمثل في سلسلة من الانتصارات والهزائم الظاهرة والخفية، الاجتماعية والنفسانية، هذا هو موضوعها المفضل، وهو موضوع غير متوفر في المجتمع العربي بسبب الإلتحام وتحجر هياكله ".
يحيلنا العروي على وضع إجتماعي عربي شديد المغايرة للوضع الإجتماعي الغربي الذي أعطى الرواية الغربية موضوعها الأساسي: تجربة فردية كاشفة للبنية الإجتماعية يتعين هذا الوضع الإجتماعي المغاير في البنية العربية بغياب الفردانية كمفهوم وكسلوك، ويخبر عن إلتحام إجتماعي لا يزال شديد القوة رغم التضعضع الذي أصابه نتيجة التحديث القسري للبنى التقليدية في مجتمع لم ينجح بعد في إنشاء المدينة كفضاء وقيم حاوية ومنتجة لأشكال التعبير النثرية المعقدة كالرواية. فالمدينة العربية الحديثة وبعد قرن ونصف من بدايات الإنوجاد ( توسيع الخديوي إسماعيل للقاهرة وتخطيطها على طريقة المدن الغربية وبهياكل متشابهة) رغم التطور في التخطيط والتعالي في العمران بشكل مبهر أحيانا لم تنجح في، ويبدو أنها لا تنوي خلق قيم مدينية، تلك القيم التي تتعين بالحرية الفردية وبالديموقراطية وحرية التعبير وسيادة القانون وتموضع المؤسسات في قلب العلاقة بين الأفراد وبعضهم البعض من جهة والأفراد والدولة من جهة ثانية، بالإضافة إلى تموضع الآداب والفنون في صلب اهتمامات الأفراد، وقيام المؤسسات الثقافية ( المكتبات، دور السينما، المسارح، المتاحف، دور العرض ...) بلعب دور الوسيط بين منتجي السلع الثقافية ومستهلكيها من الأفراد والجماعات.
إن تلك التمظهرات للوعي المديني غير موجودة في المدينة العربية إلا بشكل استعراضي شكلاني يدعي ما لايؤمن به، فالمواطن العربي يسكن المدينة لكنه يتعامل معها بوعي ريفي أو بوعي سكان الضواحي الذين يحرصون على الإلتحام الأسري والقبلي والجهوي مكونين شبكة اجتماعية تحفظ المصالح وتدعمها وتدمج الأفراد ضمن منطقها. شبكة تجعل الفرد يتعامل مع المؤسسات لكن بتجاوز منطق المؤسسة الذي يفترض العقلانية والموضوعية والمساواة بين الأفراد وفق نمط معياري مؤطر قانونيا يحدد الحقوق والواجبات. فالفرد العربي وهو يقصد مؤسسة ما لقضاء حاجة، غالبا ما يقصد من يعرفه في تلك المؤسسة أو من يمتلك النفوذ الكافي لتمكينه من قضاء حاجته في المؤسسة المقصودة حتى لو كان غير مسموح له قانونيا بتحصيل المنفعة التي قصد المؤسسة لأجل تحصيلها، وغالبا ما يكون الفرد المقصود لتقديم الخدمة مندمج ضمن شبكته الاجتماعية أو ضمن شبكة أخرى مستعدة لتبادل خدمات مع شبكات موازية، وهذا الوضع الغير عقلاني والذي يقضي على كل معيارية في تعامل المؤسسات يجعل هذه الأخيرة تفقد دورها كوسيط حيادي بين الأفراد وبين الأفراد والدولة.
إن المناخ المذكور أعلاه الذي يسم المدينة العربية بسمات، ويزودها بقيم غير مدينية هو مناخ غير روائي لأنه معادي لروح المدينة وثقافتها، ولهذا نتساءل مع العروي: " هل يحق لنا رغم هذا أن نوظف شكلا صالحا للمركز لنصف به الضاحية؟! " أو لنكتب عبره حياة ومنطق وثقافة الضاحية؟

conter