الخميس، أبريل 24، 2008

جوهر المثقف ووظيفته الاجتماعية

يري أنطونيو غرامشي بأن كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني ، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، وهو قد أورد هذا الكلام من خلال تنظيره المتميز للمثقفين وتقسيمه إياهم إلى مثقفين عضويين ومثقفين تقليدين.
فأما المثقف التقليدي فهو ذلك الإنسان الذي يمتلك رصيد معرفي هام مدعوم في كثير من الأحيان بترسانة من الشهادات العلمية، ولكنه يعيش في أبراجه العاجية بعيدا عن هموم المجتمع وتطلعاته.وهم في الغالب كانوا مثقفين عضويين لطبقات زائلة أو فاقدة لهيمنتها أو في طريقها للزوال بسبب تطلعات الطبقات الأخرى التي تسعى للانعتاق من هيمنة الأقليات المتفردة بالسلطة والثروة. وبالتالي فهذه الفئة من المثقفين فاقدة لمشروعيتها الاجتماعية لأنها تنصلت من دورها في قيادة وتنوير المجتمع الذي تنتمي إليه.
أما المثقف العضوي فهو روح الطبقات المهيمن عليها والراغبة في الانعتاق والتحرر والحاملة لمشروع دولة ومجتمع يهدف لتحقيق العدالة والحرية والمساواة وكل القيم النبيلة للإنسانية.
ودور المثقف العضوي هو بلورة تلك التطلعات في مشروع فكري يكتسب مشروعيته من تمثيله لفئة أو طبقة معينة، وبالتالي فهو يمثل دور العقل والقائد لهذه الفئات ولسان حالها.

أنطونيو غرامشي قدم تحليلاته، التي ليس هنا مجال التوسع في عرضها، من منظور ماركسي يحتفل كثير بمفهوم الطبقات الاجتماعية المتصارعة، فالمثقف العضوي بالنسبة له يحمل ذلك المشروع التبشيري أو الرسولي، على عكس المثقف التقليدي الذي تجاوزته الأحداث وهمشته في أبراجه العاجية.
ولكن ما هي الضرورة المنهجية للحديث عن المثقف بالمنظور الغرامشي في سياق الحديث عن المثقف العربي، مع العلم أن كل نظرية سياسية أو اجتماعية تفقد الكثير من قابليتها للتطبيق ومن تماسكها عند نقلها من بيئتها الأصلية التي أنتجت لأجلها وفي ظل سياقاتها، على بيئة أخرى لها شروط سوسيوثقافية مغايرة.
الوظيفة الاجتماعية للمثقف هي المبدأ الجوهري الذي يحكم كل المثقفين باختلاف الزمان والمكان الذي وجدوا وسيوجدون فيه.وهذا ما يعطي مبررا لتوظيف المفهوم الغرامشي للمثقف في محاولة اقتراب من دور المثقف العربي.

فهل المثقف العربي مالك لتلك الوظيفة الاجتماعية التي جعلها غرامشي مرادفة لمعنى المثقف؟
بداية النهاية للمثقف العربي:
يؤكد على حرب من خلال نقده للنخبة وأوهامها على نهاية المثقف وهي مقولة عزيزة على فكر ما بعد الحداثة الذي تتبلور ملامحه بالغرب ويلقى بعض الصدى في العالم العربي وان كان لا يزال في مرحلته الجنينية لم يتبلور بعد في مشروع فكري كتلك المشاريع النهضوية التي صاغها المثقفون العرب بداية من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ووصولا إلى الجابري وحسن حنفي ومحمد اركون وغيرهم، فالمثقف العربي يعيش حاليا أزمة وجود يأتم معنى الكلمة لقد، تجاوزته الأحداث وهمشت دوره الطليعي بعد فشل كل تلك المشاريع التي بشر بها، وبعد أن انهارت منظومة المفاهيم التي عول عليها كثيرا في أحداث تغيير جذري بمجتمعه، سواء من خلال عمله الفكري المحض أو من خلال انخراطه في المجال السياسي ومحاولة توظيف السياسة كمطية للتغير المنشود نظرا لاقتناع هذا المثقف بما للسياسة من قدرة فعلية على التغير على عكس الأفكار المجردة التي قد تؤثر في بعض الأفراد ولكنها نادرا ما تتحول إلى " موضة " اجتماعية قادرة على إحداث التغيير.
إذا تحالف المثقف العربي مع رجل السياسة في بعض الحالات وكان في صفوف المعارضة أحيانا أخرى، وفي كلتا الحالتين تلبسته السياسة وأفقدته وعيه الحاد والحذر اتجاه الأشياء والعالم، لقد صار المثقف العربي وهو يتخبط بحثا عن دور منشود في مجتمعه بوقا يسعى لتبرير اختيارات رجل السياسة بسبب انخراطه في ذلك المجال. أو بوقا يعارض بكثير من الهستيريا كل ما يصدر عن رجل السياسة ويسفه مجهداته محاولا إبراز بطلانها، وهو في كلتا الحالتين يفقد روحه المتميزة بالنظر للأشياء بكثير من التعقل، ويفتقد لذلك المبدأ الذي يرهن وجوده كمثقف. فالسياسي يزعم تمثيله لكل الناس أو انتصاره لهذه الفئة أو تلك في حين المثقف يفترض فيه الابتعاد عن تلك الجموع التي يستهويها الصراخ لأجل تمجيد فلان أو تكفير علان كما يفعل اؤلئك الدعاة الذين يحتلون الفضائيات العربية. المثقف هو الحامل للمبادئ التي لا تتوقف كثيرا أمام
التفاصيل والجزئيات، بمقدار ما تنحاز للفرد/ الإنسان في مطلقيته، الإنسان الذي يريد ان يعيش حياته كما يراها ويريدها و يحيا الدين والأخلاق والقيم كقناعات فردية لا كإكراهات اجتماعية تفرضا هذه المؤسسة أو تلك
المثقف هو دائما ذلك المنحاز للإنسان، للشيء الجوهري والأساسي في الإنسان وهو كرامته وحريته وحقه في الاختلاف، هكذا كان سقراط وهو يتجرع السم دفاعا عن حقه في التفكير معطيا أروع الأمثلة لشباب أثينا كي يعملوا فكرهم ولا ينصاعوا للأفكار والأقوال الجاهزة. ومثله كان ابن رشد الذي كلفته حريته المنفى وإحراق كبته، أيضا فعل ذلك ايميل زولا في دفاعه عن درايفوس ( الضابط الفرنسي المتهم
بالعمالة لألمانيا) في الوقت الذي كانت السلطة وجموع المواطنين المخدوعين بالدعاية السياسية تطالب برأس الضابط الخائن، وفعلها الحلاج ذلك المتصوف النابغة الذي صلب دفاعا عن قناعاته وقد خيرته السلطة( الخليفة المتوكل) بين حياته وقناعاته فاختار الأخيرة لأنها من ستحفظ له كرامته وهي – أي تلك القناعات- من جعلت منه شهيدا ورمزا نذكره الآن بعد مئات السنين من استشهاده.
هذا هو المثقف في الجوهر، هو ليس ملاكا ولا شيطانا أنه إنسان مثل الجميع ميزته هي قدرته على التفكير وصياغة الملاحظات الحياتية في قالب مجرد قادر على تمّثل الحياة بعيدا عن إكراهات السياسة والأيديولوجيا؛ المثقفون لا يقفون ضد السياسة ولا ضد الايديولوجيا، ولكنهم شهداء على المبدأ الأيديولوجي والممارسة السياسية.
والمثقف العربي بانخراطه في الممارسة السياسية سواء في صفوف النظام/ السلطة أو ضمن أحزاب سياسية معارضة أو موالية، فقد مبرر وجوده أو بتعبير انطونيو غرامشي فقد دوره الاجتماعي بالرغم من أن غرامشي دعا لضرورة وجود حزب طليعي يقود التغير الاجتماعي والسياسي المرتقب. إلا أن الوضعية التي يعشها المجتمع العربي ومن خلال التجربة التاريخية التي بينت بان السلطة تكون قادرة من خلال آلياتها المتعددة على تدجين المثقف وإفراغه من محتواه في حالة انضوائه تحت لوائها؛ هذه الوضعية تفرض على المثقف العربي في حالة رغبته في إخلاصه للمبدأ الذي يدافع عنه وفي انحيازه لجوهر الإنسان أن ينأى عن الانخراط في السياسة ويظل شاهدا على الممارسة السياسية قادرا من خلال ما يملكه من قدرة على التحليل والنقد على التنبيه لانحراف هذه الممارسة وعلى الدعوة لعقلنتها وجرها نحو إعطاء المزيد من الحرية والحق في الاختلاف لجموع المواطنين الذين يزعم رجل السياسة انه يمثلهم.

الجمعة، أبريل 18، 2008

الطاهر وطار



الطاهر وطار أو الرواية كمشروع نقدي اتجاه السلطة و المجتمع
يعتبر الطاهر وطار بحق الأب المؤسس للرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية واستحقاقه لهذه المكانة ليس مرتبطا فقط بالأسبقية التاريخية بل بطبيعة أعماله التي مثلت مثالا يتحدى لجيل كامل من الروائيين الجزائريين في فترة السبعينات
فمن ناحية الأسبيقة التاريخية فقد كانت رواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة هي أول رواية جزائرية مكتوبة بالعربية تحمل كامل المواصفات الفنية للرواية . هذه الرواية التي سبقتها محاولات كثيرة لتوطين الفن الروائي جزائريا بلسان عربي لكنها – اي تلك المحاولات – كانت تفتقد للكثير من العناصر الفنية المشكلة للرواية بمفهومها الذي ظهرت عليه في الغرب .
ولكن قبل أن نبدأ في تحليل الأعمال الروائية للطاهر وطار أو عمي الطاهر كما يسميه كل معارفه هنا بالجزائر، من حق البعض أن يتساءل : من هو الطاهر وطار؟.
الطاهر وطار من مواليد 15 أوت 1936 بضواحي مدينة سدراتة ولاية سوق اهراس بالشرق الجزائري ، بدا مشواره التعليمي بمدرسة مداروش التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ثم بمعهد بن باديس بقسنطينة لينتقل بعد ذلك لجامع الزيتونة بتونس مقصد طلاب العلم الجزائريين الذي يرغبون في إتمام دراساتهم العليا، فالجزائر في تلك الفترة لم تحتوى على أي مدرسة أو معهد خاص بالدراسات العليا .
الطاهر وطار التحق في سنة 1956 بالعمل الثوري في صفوف جبهة التحرير الوطني التي كانت تخوض بمعية كل الشعب الجزائري معركة حاسمة ضد المستعمر الفرنسي بغية افتكاك الاستقلال الوطني الذي تحقق سنة 1962، وهي نفس السنة التي أسس فيها الطاهر وطار جريدة " الأحرار" التي أوقفتها السلطات بعد سبعة أشهر من صدورها، لينتقل بعد ذلك من قسنطينة إلى العاصمة حيث أعاد تأسيس جريدته من جديد بعنوان " الجماهير" والتي ما لبثت السلطات أن أوقفتها هي الأخرى .
عمل الطاهر وطار كمراقب في حزب جبهة التحرير الوطني طوال الفترة الممتدة من 1963 إلى غاية 1983 ليحال بعد ذلك على التقاعد وهو لم يتجاوز الـ 47 سنة .
في سنة 1989 السنة التي شهدت حراك سياسي وثقافي واجتماعي كبير بالجزائر كانت لها تبعات كبيرة وخطيرة على الجزائر لاحقا أسس الطاهر وطار بمعية عدد كبير من المثقفين الجزائريين الجمعية الثقافية الجاحظية التي يتولى رئاستها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا .
كما عين وطار في سنة 1991 مديرا للإذاعة الوطنية .
هذا باختصار المسار العلمي والمهني للطاهر وطار فماذا ن مساره الإبداعي الذي تميز بالكثير من التفرد في الساحة الثقافية الجزائرية والعربية .
ألف الطاهر وطار لحد عشر روايات وهي على التوالي:
اللاز – الزلزال –الحوات والقصر – رمانة – تجربة في العشق – عرس بغل – العشق والموت في الزمن الحراشي –الشمعة والدهاليز –الولي الطاهر يعود لمقامه الزكي – الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء.
كما صدرت له ثلاث مجموعات قصصية هي :
دخان من قلبي – الطعنات – الشهداء يعودون هذا الأسبوع .
وألف كذلك مسرحيتين هما :
الهارب – على الضفة الأخرى .
هذا بالإضافة إلى كتاب عن سيرته الذاتية صدر سنة 2006 بعنوان " أراه "
قراءة في بعض أعمال الطاهر وطار
تصدر أهمية الطاهر وطار في المتن الروائي الجزائري والعربي عن أمرين : الأول أنه مع مجايليه عبد الحميد بن هدوقة وزهور ونيسي كتب أعماله الرائية بالعربية بعد أن كانت الفرنسية هي لغة التعبير الأدبي عند جيل كامل من الأدباء الجزائريين ( محمد ديب، كاتب ياسين، اسيا جبار، مولود فرعون، مالك حداد، ....) .
الثاني هو أن الطاهر وطار قدم في روايته الأولى " اللاز" أفضل تأريخ روائي للشروط التي حتمت قيام الثورة، وتابع قدرا كبيرا من أحداثها.
الكثير من النقاد يعتبرون " اللاز" أفضل عمل روائي جزائري مكتوب بالعربية لحد الآن، ليس فقط بالنسبة للطاهر وطار أنما بالنسبة للمتن الروائي الجزائري المكتوب بالعربية بأكمله.
في " اللاز" البطل ليس شخصا بعينه، إنما هو الشعب بأكمله وهو الثورة أيضا . " كانت الحياة تمضي برتابة كمرآة صقيلة وإن كانت مليئة بالخدوش " هكذا كانت حياة الجزائريين قبل الثورة، كان أفراد الشعب يكدحون طوال اليوم، ثم يسرقون لحظات للحب والأحلام والسكر وحياكة المؤامرات الصغيرة ضد بعضهم البعض، في القرية التي تدور فيها أحداث الرواية كان هناك: حمو الحمامجي المسحوق تحت وطأة حياة تستغله بلا رحمة ولا أمل له في لا مستقبل فهو يعيش عيشة أقرب لحياة البهائم عيشة في مستواها البيولوجي فحسب دون ترتقي للمعنى الإنساني للحياة ، هناك أيضا زيدان المناضل الشيوعي والذي يتميز بحضور كثيف في الرواية، وأيضا بعطوش المجند في الجيش الفرنسي والذي يقوم بأكثر الأعمال انحطاطا وأيضا هناك اللاز هذا اللقيط الشريط المتمرد والإشكال المطروح على القرية منذ ثلاثة وعشرين عاما، فهو - أي اللاز- في مواجهة ازدراء الناس له يتحول إلى طاقة عدوان رهيبة يخشى الجميع بطشه وبأسه .
بالإضافة إلى غير هؤلاء من الشخصيات الثانوية.
في هذه الظروف تفجرت أحشاء الشعب بالثورة التي راحت تفرض منطقها وتغير من رتابة الحياة العادية شيئا فشيئا، فبعد أن كان الشعب غارقا في حياته الرتيبة ولا مبالاته تتغير الأمور ولم يعد أمام هذا الشعب إلا خيار : " فات الحال إما وإما الشامي شامي والبغدادي ... الذبح من جهة والرصاص من جهة ثانية فأيهما تختار " هذا هو السؤال الذي يطرحه أفراد الشعب بعضهم على بعض. الشعب اختار الثورة بعد أن تأكد من أن هذا العمل الذي يقوم به حمو وزيدان وكل الفقراء من أبناء الشعب عمل جاد وعظيم ولابد أن يغير الأوضاع حقا.
اللاز بعد أن التقى زيدان وعرف منه حقيقته الضائعة وهويته وأنه ليس لقيطا إنما هو ابن زيدان. كون شبكة لتهريب المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي وإلحاقهم بالجبال مستغلا علاقته بالضابط الفرنسي المسؤول عن الثكنة . حمو يلتحق بالثورة أيضا . حتى بعطوش بعد سلسلة من الخيانات والأعمال الدنيئة يهرب للخمر والجنون ولكنه يجد خلاصه ذات ليلة في الثورة، فيقوم بقتل الضابط الفرنسي، ويتمكن رفقة مجموعة من المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي من تدمير الثكنة وقتل معظم الجنود الفرنسيين والالتحاق بالجبل بالثورة.
ولكن ولأن الثورات تقتل أبناءها وأنبياءها أيضا فإن زيدان – الشخصية الرئيسة في العمل والأكثر حضورا وتأثيرا – يقتل ذبحا من طرف الثوار بعد أن رفض الانفصال عن الحزب الشيوعي الجزائري، ومعروف أن الحزب الشيوعي الجزائري قد تبنى موقف الحزب الشيعي الفرنسي اتجاه الثورة ، حيث اعتبرها عملا من أعمال التخريب والإخلال بالأمن العام، وكان شرط جبهة التحرير الوطني أن ينظم الأفراد للثورة فرادى متجردين من انتماءهم السياسي، وهذا ما حدث مع زيدان ومجموعة من رفاقه في الحزب الشيوعي من فرنسيين واسبان الذين كانوا يرون في الثورة عمل نبيل يسعى لتحقيق كرامة الإنسان. لكن انضمامهم الفردي للثورة لم يصبحه انسلاخهم عن الانتماء السياسي للحزب الشيوعي، وهذا ما كانت ترفضه جبهة التحرير الوطني، ومن هذا المنطلق وقع الصدام بين زيدان ورفاقه الشيوعيين من جهة وقيادة الثورة من جهة ثانية، هذا الصدام الذي كانت نتيجتيه إعدام زيدان بمعية رفاقه وأمام عيون اللاز الذي ظل يقف مشدوها لا يصدق عينيه انفجرت الدماء من قفا أبيه صاح في رعب: "ما يبقى فالواد غير حجاره" وهو مثل شعبي جزائري يعني لا يصح إلا الصحيح.
يقول الطاهر وطار أنه ظل منشغلا بكتابة هذه الرواية سبع سنوات من 1965 إلى 1972 ولم تصدر إلا سنة 1975 ويقول أيضا أنه ظل بعد نشر هذه الرواية لمدة أسبوعين ينام بملابسه متوقعا ان يطرق بابه في اية لحظة من طرف رجال الأمن، فالرواية تطرقت لاول مرة للتصفيات الجسدية التيو وقعت اثناء الثورة للبعض ممن خدموا الثورة خدمات جليلة ولكنها كافأتهم بالإعدام، وهذا ما لم يكن يقر به التاريخ الرسمي الذي وضعته الدولة لفترة الثورة.
قبل صدور هذه الرواية صدرت للطاهر وطار مجموعتان قصصيتان هما: "الطعنات"( الجزائر 1974) ، و "الشهداء يعودون هذا الاسبوع" (بغداد 1974). وفي سنة 1973 كتب روايته الثانية " الزلزال" حول الثورة الزراعية وتأميم الأراضي وسعي الإقطاعية من خلال شخصية عبد المجيد بولرواح (بطل الرواية ) لإفشال هذا المسعى الذي تقوم به الدولة الجزائرية. ثم يعود الطاهر وطار ليتذكر اللاز فكتب رواية " العشق والموت في الزمن الحراشي" (بيروت 1980) ووضع على الغلاف بأنه الكتاب الثاني للاز ، يعود الكاتب هنا لوصل ما انقطع من تاريخ اللاز الذي عاد مع العائدين في مطلع الاستقلال يبشر بزوال وضع وحلول وضع آخر، وفي حين راح الجميع يغيرون من وضعهم ويهتمون بأنفسهم وشؤونهم غارقين شيئا فشيئا في متاع الدنيا ولذة الحياة، بقي اللاز على الهيئة التي عاد بها رافضا كل الرفض تغيير البدلة العسكرية التي يرتديها صيفا وشتاء مرددا صيحته الأخيرة: "ما يقى فالواد غير حجاره".
تدور هذه الرواية حول واقع الجزائر في فترة الاستقلال، حيث سعى الرئيس بومدين ونظامه السير في طريق الاشتراكية بادئين بالأرض من خلال اثورة الزراعية. ومن خلال الطلبة المتطوعين في اعال التوعية بأهمية هذه الثورة في صفوف الفلاحين. في هذه الراية يرسم الطاهر وطار بانوراما للواقع الجديد محددا القوى المتصارعة فيه بين القوى المؤيدة للاشتراكية والقوى المناوئة لها؛ على رأس الفئة الأولى يقف الشيوعيون وبعض المسؤولين على قلتهم وكذا الروائي، وعلى رأس الفئة الثانية يقف بعض انصار الاسلام السياسي الذي بدا يبرز بشكل ملفت في مطلع سعييات القرن الماضي وبعض المستفيدين من الوضع القائم من الإقطاعيين وكبار ملاك الأراضي بالإضافة لبعض المسؤولين أيضا.
يظل اللاز هو الحاضر الغائب في هذا الجو المشحون بالامال والصراعات بعد أن تحول إلى رمز للقرية يكاد يصل إلى درجة التقديس؛ لكنه يعود لوعيه بعد أن كان شاهدا على معركة صغيرة دارت بين الطالبة الشيوعية جميلةوالطالب ذو التوجه الغسلامي الذي حاول تشويه وجهها بالحامض، جرحت ذراع جميلة وتناثرت قطرات من الدم ذكرت اللاز بأبيه والسكين تحز قفاه فصاح صيحته الواحدة وسقط مغشيا عليه وعندما افاق عاد للحياة التي هجرها من عشر سنوات.
أراد الطاهر وطار أن تكون نهاية اللاز والرواية سعيدة لان اللاز هو الشعب والشعب هو المستقبل.
في أواسط السبعينات كتب وطار روايتين نالتا شهر كبيرة عند قرائه فطبعا أكثر من طبعة في أكثر من عاصمة عربية.
"الحوات والقصر" ثم " عرس بغل" وهما من أكثر أعمال وطار إنسانية وعذوبة ربما لابتعادهما عن التسييس والأدلجة التي ميزت أعماله السابقة .
عند هاتين الروايتين تنتهي مرحلة كاملة من أعمال الطاهر وطار حيث ابتدأ وطار أعماله كاتبا مولعا بالخيار النضالي المتاح وقتئذ، فلم يستطع التخلص من التموقع الايديلوجي كمثقف عضوي على حد تعبير أنطيونيو غرامشي . واستغرقته تفاصيل المناضل بشيء من الاحتشاد غير العفوي حتى غدت الرؤية الفنية لديه مؤطرة بشكل مكثف فلم ينتيه عند الاحتفاء بصورة المناضل بل أسهم أيضا في إخراج صورة الإقطاعي ( خصوصا في روايته الزلزال) على نحو رتب الامور لميلاد الرواية المؤدلجة التي ميزت أغلب كتابات روائيي الجيل السبعيني .
المرحلة الثانية في أعمال وطار تبدا مع رواية " تجربة في العشق" ( سنة 1989) هذه الرواية التي يقول عنها فاروق عبد القادر بان الدافع الأساسي لكتابتها هو " تصفية حسابات مع نظام ابعده عن عمله وأجبره على التقاعد وهو بعد لم يبلغ الخمسين".
في هذه الرواية صور وطار العلاقة بين المثقف الجزائري والسلطة، وهي علاقة تعاون في مرحلة سرعان ما تنقلب إلى صدام حينما يفصل البطل عن عمله كمستشار بوزارة الثقافة ( وطار أيضا كان مراقبا بالحزب الواحد واحيل على التقاعد ). تطلعنا هذه الرواية على النقد اللاذع للسلطة ومحاولة فضحها وتعريتها لتنكشف حقيقتها وألاعيبها؛ فالعلاقة بين المثقف والسلطة علاقة لا تفاهم ، وهي علاقة يحاول فيها القوي/ السلطة أن يتسلط ويفرض آراءه، ويحال الضعيف / المثقف أن يفلت من جبروتها. إذا هي حرب بين المثقف المدافع عن استقلاليته والسلطة التي تحاول استقطابه وتدجينه؛ هذه الحرب التي توصل المثقف – لأنه ضعيف حيال السلطة - إلى الاغتراب ثم الجنون في اخر المطاف والحالة هنا ليست حالة الجنون العادي الذي قد نتوهمه ، إنما هي حالة جنون لم تفقد وعيها بالكامل وهذه الحالة هي التي تسمح للبطل/المثقف/المجنون بأن يمارس انتقاده وانتقامه – دون خوف – من السلطة بفضحها وتعريتها.
في التسعينات كتب وطار عملين هما "الشمعة والدهاليز" (1994) ثم روايته ما قبل الأخيرة لحد الآن " الولي الطاهر يعود على مقامه الزكي ". والعملان يشتركان في نقطة واحدة هي أنهما مكتوبان بعد صعود الحركات الإسلامية في الجزائر، وهما يناقشان هذا الصعود بالذات.
بطل الشمعة والدهاليز شاعر وأستاذ في علم الاجتماع ( يوسف سبتي صديق ورفيق الطاهر وطار في تأسيس الجمعية الثقافية الجاحظية والتي اغتلته جماعات مسلحة في مطلع التسعينات)، يقيم وحيدا أخرجته هتافات الإسلاميين عن يساريته؛ يجد نفسه في ساحة اول ماي التي أطلق عليها الإسلاميون اسم ساحة الدعوة، أمام تلك الوجوه المكسوة باللحى يتساءل البطل: " لو كان لينين مازال حيا لتساءل: ماذا سيخسر هؤلاء الجياع لو انتصروا باسم الله".
الروائي يسير بنا الأمام ويتنبأ بانتصار الإسلاميين وقيام الدولة الإسلامية التي يعين أستاذ علم الاجتماع والشاعر وزيرا ضمن طاقمها الحكومي؛ لكنه يحكم عليه بالإعدام بعد أن توجه ل مجموعة اتهامات كلها لها علاقة بالدين والإلحاد والشيوعية.
في هذه الرواية نقد لفترة حكم حزب جبهة التحرير الوطني/الحزب الواحد وبحث عن بديل حتى ولو ان هذا البديل هو الدولة لسلامية كما مثلتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مطلع التسعينات، التي كانت ترى – بكثير من الفكر المنغلق على ذاته – أن لا مكان في الجزائر لغير الإسلاميين.
الطاهر وطار لا يغادر فترة صعود الحركات الإسلامية في الجزائر وفي كامل العالم العربي والإسلامي ويفرد لهذه القضية رواية أخرى هي " الولي الطاهر يعود لمقامه الزكي"، هذه الرواية التي استعار الطاهر وطار من خلاله قاموس الصوفية ليكتب عملا ذو نكهة تصوفية حادة، وهي – أي الرواية – منذ البداية توحد بالنبي أمام المقام الذي يعود أليه، المقام الذي أسسه عباد الله الصالحين الهاربين بدين الله بعد أن انتشرت عدوى الفسق والفجور. في هذا المقام يجمع الشباب إناثا وذكورا " نلقنهم دينهم ونزوجهم ونعمر بهم الريف وننشئ أمة محصنة" في إشارة إلى دعوة الهجرة والتفير التي ترفعها بعض حركات الإسلام السياسي.
في هذه الرواية نرى الولي الطاهر يخوض الحرب مع المجاهدين في أفغانستان ثم يخوض حروب الردة مع خالد بن الوليد، ثم نراه في القاهرة حيث يتوحد مع من طعن نجيب محفوظ، وبمن يطلق الرصاص على السواح في الأقصر وأمام المتحف، ثم يشارك في غزوة بحي الريس بالجزائر العاصمة حيث تقوم مجموعة من الإسلاميين بمهاجمة حي شعبي وتصفى المئات من السكان جسديا هجوم أو غزوة شعارها " لا حي في الحي ".
إنها رواية تعتمد على التداعي الحر- كما في رواية تجربة في العشق – إلى درجة يضيع فيها الخيط الرابط بين الأحداث، فالخيط المركزي الرابط بين أحداث الرواية هو الولي الطاهر فقط.
في هذه الروايات الثلاث التي تمثل المرحلة الثانية من أعمال الطاهر وطار يفقد الروائي الكثير مما يميز أعماله السابقة من وضوح في الرؤية على المستوى الفكري والصلابة والتمسك على المستوى الفني وكذا الدافع الأيدلوجي الذي ظل من خلال أعماله الأولى يطعم به رواياته كلها؛ وما يميز هذه الأعمال الأخيرة هي انسيابيتها الأسلوبية التي لا تخلو من التجديد مقارنة بأعماله السابقة.
رؤية العالم في روايات الطاهر وطار:
ما هي التيمة الأساسية التي ينطلق منها وطار في صياغة أعماله الروائية ؟
لم يكتب وطار روايات، بل عمل على التأسيس لمشروع روائي واحد، إذ كل رواية تحيل على رواية أخرى وإذ الروايات جميعا التي كتبها لحد الآن (10 روايات) تحيل على مشروع روائي لم يكتمل بعد، مشروع روائي قائم على الإنصات الفطن والواعي لنبض المجتمع والتعبير عن هذا النبض بأسلوب لا يفتقد الرؤية الناقذة القادرة على النفاذ لجوهر الأشياء باقتدار في معظم الأحيان وبقليل من التوفيق في أحيان أخرى.
إن وطار ينطلق في معظم أعماله من رؤية انتقادية اتجاه الأشياء، رؤية انتقادية اتجاه السلطة واتجاه المجتمع أيضا، فوطار كتب روايته الأولى " اللاز" كتأريخ معارض للتاريخ الرسمي للثورة الجزائرية، بدأها بإهداء إلى جميع الشهداء وهي أشارة الى من همشهم التاريخ الرسمي للثورة التحريرية بتناسيهم تماما وتركيز وطار على شخصية زيدان المناضل الشيوعي إيحاء كبير بالدور الذي لعبه الشيوعيون في الثورة، رغم أن التاريخ الرسمي للثورة لا يشير بتاتا لهذا الدور ويركز على جبهة التحرير وعلى الشعب دون تفصيل، في هذه الرواية رغم أن وطار كان موظفا في أجهزة الحزب الواحد/الحاكم إلى أنه حاول كمثقف نقدي إعطاء قراءة مغايرة لأطروحات الحزب/النظام.
لم يتوقف وطار عن الإنصات لنبض المجتمع وحراكه الكبير, إذا أن المجتمع الجزائري مجتمع ديناميكي يتميز بسرعة الحركة والتغير على عكس بعض المجتمعات المغاربية ( تونس والمغرب) التي تتميز ببعض الثبات الذي يتيح دراسة متأنية للمجتمع، على عكس هذه المجتمعات يتميز المجتمع الجزائري بحراك متسارع يصعب من مهمة دراسته دراسة علمية من طرف العلوم الإنسانية, ومن هنا تنبرز أهمية الـتأريخ الروائي للمجتمع الذي قام به الطاهر وطار وغيره من الروائيين الجزائريين الذين جعلوا من أعمالهم الروائية وثائق تفيد باقي العلوم في دراسة المجتمع الجزائري, وهذه ميزة من مميزات الروايات العظيمة أنها تستطيع أن تعطينا صورة واضحة رغم ما فيها من خيال عن الفترة التاريخية التي تتحدث, نحن نستطيع أن نتعرف على المجتمع الفرنسي لنهاية القرن التاسع عشر في أعمال بلزاك كما نعرف المجتمع المصري من خلال أعمال نجيب محفوظ أكثر مما نستطيع معرفته من أي كتابات أخرى تاريخية أو اجتماعية, كما قد تعطينا رواية لمن تقرع الأجراس لارنست همنجواي صورة مفصلة عن الحرب الأهلية الاسبانية, وفي نفس الوقت تعطينا روايات الطاهر وطار صورة عن جزائر الاستقلال قريبة جدا من الواقع وقادرة على إفادتنا بأشياء لا نستطيع الحصول عليها من كتب التاريخ ودراسات علماء الاجتماع, لأنها صورة تحكي عن البسيط من الأشياء عن حياة عامة الناس البسطاء في سياق شمولي يدرج التغيرات السياسية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع.
قدم الطاهر وطار في فترة التسعينات التي شهدت انفلاتا سياسيا وأمنيا رهيبا بالجزائر واحدة من أكثر أعماله جرأة وتميزا إنها رواية الشمعة والدهاليز, فوطار من خلال هذه الرواية يعتبر المثقف الوحيد تقريبا من المثقفين الجزائريين الذين وقفوا إلى جانب الإسلاميين ودافعو عن حقهم في الوصول إلى السلطة بما أن الشعب قد أنتخب لصالحهم, هذا الموقف الذي جلب على وطار نقمة الكثرين وخاصة من فئة المثقفين السلطويين الذين لا ينتجون شيئا إلا حين يوحي لهم النظام بذلك, وانطلاقا من هذا الموقف السلبي الذي اتخذه معظم المثقفين الجزائريين اتجاه الطاهر وطار انقلب هذا الأخير إلى شخص إشكالي في الحقل الثقافي الجزائري؛ فلا منتقديه استطاعوا تجاوزه او التخلص من ابويته الفكرية التي كرسها من خلال مشاوره لفكري الذي قارب النصف قرن ولا هم استطاعوا مصالحته وتناسي موقفه اتجاه الإسلاميين الذي اعتبروه نشازا وكفرا فكريا ينبغي التوبة عنه, ولا هو كان مهادنا معهم فوطار ليس مجرد روائي يكتب روايات لتركها تتحدث عنه تصنع مجده أو تجعله نسيا منسيا, إنه أيضا موقف معادية للفرانكفونية في الجزائر وهو بهذا الموقف يعادي كتلة كبيرة من صناع القرار ومن المثقفين الجزائريين.
قد يكون وطار مصيبا في رؤاه للمجتمع الجزائري ومقتنعا بشيوعيته الغريبة التي لا يكف عن الدفاع عنها, كما قد يكون مخطأ في بعض أو في كل رؤاه, لكته في النهاية يبقى واحدا من أبرز الروائيين الجزائريين الذين يكتبون بالعربية, وهو أيضا واحدا من الروائيين العرب القلائل الذين استطاعوا بأعمالهم أن يحدثوا شرخا في أوساط قرائهم بين مؤدين إلى درجة التقديس ومعارضين إلى درجة تمني الموت لهذا الشيخ الذي لا يكف عن مفاجأتنا بكل ما هو غير متوقع سواء من خلال رواياته
أو من خلال تصريحاته النارية التي يجيد اختيار توقيتها بدقة لتحدث ردات فعل لا يمكن تلافيها كما لا يمكن تلافي أبويته الفكرية في الحقل الروائي الجزائري الحديث.

السبت، أبريل 12، 2008

الكتابة الأدبية عن الجنس هل هي إبداع أم مجرد كتابة للإثارة فقط

ربما يبدو هذا التساؤل قديما ومستهلكا بعض الشيء نظرا لما أساله من حبر وما أثاره من معارك فكرية بين المناصرين والمعارضين لهذا النوع من الكتابة.
حجة المناصرين أن الثقافة العربية وعلى امتداد تاريخا الطويل، ابتداء من امرؤ القيس ووصولا إلى وقتنا الراهن تحفل بكثير من النصوص الخالدة التي كان الجنس هو موضوعها الأساسي، أو حاضرا فيها بقوة؛ كما أن اللغة العربية نفسها هي من أكثر لغات العالم احتفاء
بالجسد والشبق.
وحجة المعارضين أن هذا النوع من الكتابة مناف لأخلاق وقيم المجتمع، بالإضافة إلى أن الدين الإسلامي يأمرنا بالتحشم؛ وبالتالي يعتبرون مثل هذه الكتابات لا تندرج ضمن الأدب والإبداع إنما هي تعبير مرضي عن قلة أدب.
إذا، ينطلق الفريق الأول في دفاعه عن هكذا نوع من الكتابة مما هو كائن مستنجدا بتاريخ الأدب العربي نفسه، وموظفا الكثير من الأمثلة التي يعثر عليها في كل فترة من الفترات التي مر بها هذا الأدب سواء كانت فترة ازدهار أم فترة انحطاط.

في حين ينطلق الفريق الثاني مما يجب أن يكون، موظفا مقولات فقهية أوّلت النص الديني تأويلا خاصا، وواضعا نفسه – أي هذا الفريق- حاميا ومدافعا عن الأخلاق العامة، انطلاقا من نظرة اخلاقوية يعوزها الكثير من التفتح.
على المستوى الأدبي والنقدي وكذا من خلال الصحافة أثير هذا الموضوع كثيرا، وخصوصا حين يتعلق الأمر بأنثى كاتبة، فالذهنية الذكورية لمجتمعاتنا مازالت ترى بان المرأة حين تكتب فهي تكتب بجسدها ورغباتها قبل أن تكتب بعقلها.
لكن على مستوى التدوين وباعتبار هذا الفضاء الإبداعي لا يزال حديثا وفي طور التكون في العالم العربي، فإن مواضيع كثيرة مازالت في خانة المسكوت عنه، رغم ما يمنحه هذا الفضاء من حرية كبيرة في التعبير عن كل شيء. صحيح أن هناك الكثير من المدونات التي يعمد أصحابها إلى إثارة مواضيع جنسية وحميمة جدا، ولكن لم يفتح نقاش حول طبيعة هذه الكتابة، إنما الموجود هو ردود فعل سواء مشجعة أو رافضة، دون الغوص في جوهر الموضوع.
من الناحية السوسيولوجية يرتبط " الأدب الجنسي" – مع بعض التحفظ على هذه التسمية- بالفضاء المديني أي الحضري، نظرا لما يتيحه هذا الفضاء الجغرافي من حرية مقارنة بالفضاء الريفي أو البدوي الذي يتميز على عكس الأول بكثير من التحفظ والحشمة، فالمدينة تتميز بمجهولية الناس القاطنين فيها مقارنة بالريف حيث الجميع يعرفون بعضهم البعض؛ هذه المجهولية تمنح الفرصة للتعبير بحرية كبيرة عن الرغبات الجنسية سواء من خلال الكلام/ الكتابة أو من خلال الممارسة، رغم أن معظم التعبيرات الشبقية لسكان المدينة تتم بشكل لفظي سواء من خلال الكتابة أو النكت الجنسية أو المعاكسة التي يتسع مجالها كثيرا نظرا للاختلاط الموجود بالمدينة ووجود نساء ورجال غرباء عن بعضهم مع بعض في أماكن كثيرة؛ ولكن التعبير عن الرغبات الجنسية في المدينة غالبا ما لا يتعدى المستوى اللفظي، ليس لان سكان المدينة يتميزون بعفة تمنعهم من الوصول إلى ممارسة فعلية وإشباع هذا الشبق المتنامي، وإنما لأسباب موضوعية وقاهرة تكسر هذه الرغبات وتمنعها من التحقق، هذه الأسباب تكمن أساسا في ضيق الأمكنة، وهذه خاصية سوسيولوجية مرتبطة بالمدينة على عكس الريف أو البادية التي تتميز باتساع الفضاء الغير مأهول والذي يمكن استغلاله كأماكن خاصة باللقاءات الحميمية.
في بحثه عن " الجنس: وفرة الإثارة وشح الأمكنة" يقول الدكتور عبد الصمد الديالمي:
" في المدن الكبيرة، تتأرجح الأوساط الشعبية بين تأجج الرغبة الجنسية وبين قلة حظوظ إشباعها...
من بين ما يعنيه التحضر، الانتقال إلى مجال غير قبلي يتأسس على قيم جديدة تدور حول الفرد وحرياته. في هذا المجال، يتحرر الفرد من نظرة الآخرين ومن ضغط القرابة، وبالتالي تصبح معاكسة النساء أمرا ممكنا. أبعد من ذلك، يرى(جورج زيمل) أن معاكسة النساء ظاهرة حضرية بالأساس، بمعنى أن المعاكس يتعرض لنساء في كل الأماكن العمومية قصد استهلاكهن جنسيا. إنه الرجل الذي يجرب حظه مع كل النساء، ومع أكبر عدد ممكن من النساء. لا مجال هنا لشيء اسمه الحشمة، فلا أحد يعرفه في مجال حضري يتسم بالمجهولية"
إذا، هناك وفرة جنسية في مقابل شح في إمكانية إشباعها، وهذا ما يحول الإشباع من شكله الطبيعي الجسدي إلى شكل أخر، وهو محاول الإشباع عن طريق اللغة، أي توظيف جنسانية اللغة كوسيلة تنفيس عن تلك الرغبات المحمومة والممنوعة من جهة والممنوعة من التحقق من جهة ثانية، وهذا ما أنتج لنا ما يسمى في الغرب بالأدب المكشوف، وهذه الظروف نفسها هي التي أنتجت لنا في تراثنا العربي كما هائلا من الأدب الجنسي الذي ازدهر في حواضر الدولة الإسلامية خصوصا في عهد الخلافة العباسية.
وكنت في إدراج سابق تحت عنوان: الحب في الثقافة العربية قد تحدثت عن الفروق الموجودة بين شعر البوادي ( الشعر العذري كنموذج) والشعر الذي أنتجته الحواضر الإسلامية حول موضوع الحب ونظرة الإنسان المسلم البدوي للحب التي تختلف جذريا عن نظرة الحضري، ففي الشعر الذي أنتجته البادية نلحظ الكثير من العفة وكذا اقتصاد كبير في توظيف كلمات ومعاني ذات مدلول جنسي، على عكس الشعر الحضري الذي وصف وبالتفصيل ودون حشمة، الكثير من العلاقات الجنسية سواء السوية أو الشاذة، كما أنه- أي هدا الشعر- قد وظف القاموس الجنسي العربي أفضل توظيف.

وبالعودة إلى التراث الجنسي العربي نجد نصوصا كثيرة تناولت العلاقات الجنسية، عن لم نقل مجّدت هذه العلاقات، كما في حالة شعر أبي نواس الذي يظل مثالا نادرا " للالتزام في الأدب " حيث كانت حياته لا تنفصل عن شعره، ونظرا لما اتسم به من مجون فقد اودع كل هذا المجون في أشعاره. ولكن يبقى ابو نواس استثناء يؤخذ به دون أن يقاس عليه. ولكن هذا لا يعني أن الحسن بن هانئ هو من أوصل الجنسانية العربية إلى ذروتها، فالذين أوصلوا هذه الجنسانية إلى ذروتها هم فقهاء ورجال دين، وهنا تكمن المفارقة، وأيضا ينبرز الدليل الذي يوظفه أنصار هذا النوع من الكتابة ضد خصومهم الدين يعارضون باسم الدين وباسم نصوص فقهية.
ربما يكون الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي صاحب كتابي أسباب النزول وتفسير الجلالين، هو من أكثر من كتبوا عن الجنس، واستعراض بعض عنوانين كتبه في هذا المجال يعطي صورة أوضح عن الذهنية المنفتحة التي كان يتميز بها الفقهاء في الماضي ونظرتهم العقلانية للأشياء:

- نواضر الأيك في آداب النيك
- إرشاد اللبيب لمعاشرة الحبيب
- مقامة النساء
- رشف الزلال من السحر الحلال
- الوشاح في فوائد النكاح
- شقائق الاترنج
وغيرها من كتبه الكثيرة التي كان موضوعها الأساسي هو الجنس وبأسلوب يعتبر في أيامنا هذه فاضحا جدا، بدليل أن معظم كتبه التي حققت ونشرت تم منعها في الكثير من الدول العربية والإسلامية بحجة أنها أدب بورنو.
لا يمثل الإمام السيوطي استثناء في هذا المجال سواء بالنسبة لمجايليه أو السابقين عليه أو اللاحقين، مع أن الثقافة العربية وبداية من عصر الانحطاط الذي عاش السيوطي على مشارفه، بدأت تميل إلى نوع من " المحافظة الخائفة" وهي محافظة خائفة على الهوية وعلى ال
دين، وهذه ميزة من مميزات الضعف في أية ثقافة، فالثقافة التي تجد نفسها في موضع ضعف مقارنة مع ثقافات أخرى قوية وقادرة على إيصال مفهوماتها عن الأشياء للثقافات للأخرى. دائما ما تحتمي بمكونات هويتها من دين وأخلاق لكسر محاولات الغزو الثقافي الذي تتعرض له من الثقافات الأخرى القوية، وهذه هي نفس الحالة التي لا تزال ثقافتنا العربية الإسلامية تعيشها إلى الآن، أي أننا مازلنا في حالة احتماء من خطر خارجي يهدد هويتنا، وهذا الخوف هو الذي يمعنا من تمثّل بعض المحطات المهمة في تاريخنا وفي تراثنا.
رغم أن السيوطي قد انتقل بالأدب الجنسي العربي إلى مراحل أكثر تطورا مما كان عليه قبله بسبب مزجه بين الأدب والعلم في تناول موضوعاته،
وأيضا لأنه كتب معظم مؤلفاته بأسلوب نثري جذاب. إلا انه لم ينل شهرة كافية في هذا المجال، ربما لان كتبه الفقهية طغت على كتبه الجنسية وظل تراثه الجنسي مغمورا لفترات طويلة كباقي المؤلفات الجنسية الأخرى التي عملت ذهنية " المحافظة الخائفة " التي ميزت عصر الانحطاط على إلغاءها ومحاربتها.
يمكن إعطاء أمثلة كثيرة عن تفتح الثقافة العربية الإسلامية في عصور ازدهارها واحتضانها لمختلف صنوف الإبداع، واعتبارها الكتابة عن الجنس وتوظيف القاموس الجنسي العربي توظيفا مبهرا، نوعا من أنواع هذا الإبداع لا يختلف عن غيره في شيء، قد يكون أدبا راقيا أو منحطا، ولكن تقييمه لا يتم بنظرة أخلاقية ولا دينية إنما عن طريق تطبيق قواعد النقد التي تطبق على غيره من أنواع الكتابة الأخرى.

بداية من امرؤ القيس من خلال أشعاره التي وصف فيها علاقته الجسدية بحبيبته ووصولا إلى سوى النعيمي وكتابها الذي صدر مؤخرا تحت عنوان " برهان العسل " يحتل الأدب الجنسي مكانة مهمة في الأدب العربي، القديم خصوصا. ولكن هذا النوع من الأدب يواجه بكثير من الرفض، خصوصا من قبل الفقهاء والمحافظين الذين يرون فيه اعتداء سافرا على الأخلاق والآداب العامة، متناسين أن اللغة العربية هي لغة جنسية بامتياز وهي الأقدر من بين كل اللغات على تجسيد كل أطياف وألوان الجنس.
واني أطرح هذا الموضوع - الذي لم ارغب في التوسع فيه أكثر- للنقاش.
فهل الكتابة عن الجنس هي إبداع كغيره من أنواع الإبداع الأخرى أم أنها مجرد كتابة للإثا
رة؟

الحب في الثقافة العربية

الحب في الثقافة العربية
ظل الحب محورا أساسيا دارت حوله الإبداعات البشرية لكل الحضارات الإنسانية، وقد مثل حضوره الدائم في وجدان الفرد والجماعة دافعا من دوافع سعي الإنسان للرقي بإنسانيته نحو الكمال المنشود، فنحن نقرأ في ملحمة جلجاميش كيف أن أنكيدو ذلك الآدمي المتوحش الذي تربي بين الحيوانات واكتسب صفاتها، يسترد إنسانيته الضائعة من خلال الحب:
ستة أيام وسبعة ليال ضاجع المرأة

تنور ذهنه وقلبه
الحب كعلاقة روحية وجسدية أعادت أنكيدو إلى إنسانيته ، لذلك فالحب في كل الحضارات والديانات دائم الحضور بتنويعات مختلفة .
الثقافة العربية الإسلامية لم تكن نشازا في تعاطيها مع موضوع الحب، بل إنها أبدعت من خلال معجمها اللغوي الثري بتعابير الحب والعشق، ومن خلال التراث المكتوب والشفوي الذي وصلنا. أبدعت في تمجيد هذه العاطفة وكذا في محاولة فهم وتحديد ماهية الحب.
ونحن من خلال هذه المقالة نحاول الاقتراب من تمظهرات الحب في الثقافة العربية من خلال الابداعات التي خلفها لنا الإنسان العربي عبر مسيرته التاريخية.
الحب العذري:
مثل الشعر الجاهلي بتصوريه الصادق للحياة العربية في البوادي وثيقة تاريخية نستطيع من خلالها تكوين صورة تقريبية عن طبيعة حياة العرب ونظرتهم للأشياء. والحب لم يكن غريبا عن الحياة العربية بل كان مكونا أساسيا من مكوناتها وهذا ما نلمسه في أشعار الكثير من الجاهليين الذي صورا صباباتهم وعشقهم. وبكاءهم على أطلال الحبيب صار لازمة في الشعر العربي لم يتمكن الشعراء اللاحقون من التخلص منها بسهولة.
ما نلحظه عن الشعر الجاهلي الذي تناول الحب أنه لم يتناوله كعاطفة روحية بمقدار ما تناوله كرغبة جنسية.
هذا ما نجده في أشعرا ومغامرات إمرىء القيس وحبيباته المتعددات اللواتي يغرقن معه في الملذات المسروقة بعيدا عن أعين الرقيب

فالحب في الشعر الجاهلي كما صوره لنا ما وصلنا من شعر يتناول هذا الموضوع؛ لم يكن عفيفا بل كان عاطفة روحية تخالطها علاقات جنسية ومتع حسية؛ إي أنه كان عشقا متعويا
وعلى عكس العلاقات الحسية والجنسية التي مثلها أحسن تمثيل بعض الشعر الجاهلي وخصوصا عند أمرىء القيس، وتم تم إحياءها وتمجيدها لاحقا في العصر العباسي خصوصا على يد أبي نواس ومن سار في فلكه من ممجدي الشهوة بكل صنوفها الطبيعية والشاذة.
قلت على عكس هذا نجد نوعا آخر من الحب في الشعر العربي القديم هو الحب العذري ( نسبة لقبيلة بني عذرة التي اشتهرت – حسب ما تزعم الروايات – بالجمال الفاتن لنسائها من جهة وتعفف رجالها من جهة ثانية).
هذا النوع من الحب يعلى من شأن الصفات المحمودة في العلاقات الغرامية مثل الوفاء والصدق، ويجعل لهذه الصفات مقام القدسية في أي علاقة، وهي- أي هذه الصفات- تزداد بروزا في حالات صد ونأي الحبيبة أو حدوث خطوب معينة تفرق ما بين المحب ومحبوبه، وهذا ما يحدث في أغلب علاقات الحب العذرية. فافتراق المحب عن محبوبه هو الذي يلهب قريحة الشاعر للتعبير عما يكابده من الشوق والوجد، وتأكيد وفائه وبقاءه على عهد المحبوب برغم الصد وبرغم البعد.
الحب العذري حب مأساوي نهاياته مفجعة وفي أحسن الأحوال غير سارة، لأن الفراق هو الخاصية المشتركة بين أغلب قصص الحب العذري التي وصلتنا أشعار تمجدها وتخلدها.
ولكن ماهي خصائص الحب العذري كما مثله جميل بثينة ومجنون ليلى وغيرهم من الرواد الأوائل الذين وضعوه في قوالب جاهزة ( من خلال الممارسة لا من خلال التنظير)؛ هذه القوالب التي أصبحت مثالا يقتدى من طرف اللاحقين، وخصوصا المتصوفين الذين حاولوا تمثل تجربة الحب العذري في أشعارهم من خلال قصر شعرهم -كما فعل العذريون- على محبوب واحد دون غيره في إشارة إلى الذات الإلهية: المحبوب الأول والأخير.

إن اللاحقين الذين حاولوا تقليد العذريين الأوائل في عشقهم ومن تم في أشعارهم؛ لم يستطيعوا إضافة جديد لهذا النوع من الحب لأنهم افتقدوا للصدق الذي ميز الرواد الأوائل؛ فهم _ أي اللاحقين _ أبناء مدرسة الصنعة والتكلف التي لا تتماشى وطبيعة الشعر العذري الذي هو تصوير لوقائع حدثت فعلا بعيدا عن أي نوع من أنواع التكلف.
بالعودة إلى ما سبق ما هي خصائص هذا الحب العذري؟
في معرض حديثه عن جميل بثينة يشير المستشرق الألماني " غابرييللي" إلى أن " جميل بثينة أول شاعر يصور الحب على أنه قدر تكتبه السماء على الإنسان".
هذه الملاحظة الدقيقة لطبيعة الحب العذري يؤكدها قيس بن الملوح (مجنون ليلى ) في من خلال قوله في أحدى قصائده:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها فبأي شيء غير ليلى ابتلانيا
إن هكذا حب يظل مرافقا للمحب طوال حياته دون أن يستطيع منه فكاكا، بل إن الشاعر/المحب يتمتع بعذابه لأنه قدر من الله وهو راض بهذا القدر؛ إنه نوع من "الرضى الصاخب" بهكذا قضاء، فالعاشق العذري يتمنى لو أن كل العالم يسمع عن حبه وهو من خلال شعره يجتهد في وصف كل ما يعانيه من عذابات الحب ولواعج الشوق. لذلك نجد أن الشعراء العذريين يخافون أن يباغتهم الموت وجدا، قبل أن يقولوا كل ما يريدون قوله عن المحبوب الأسطوري الذي اختصر كل العالم في ذاته.
تشكل الحب العذري كمدرسة بطريقة عفوية في البادية العربية، دون أن يتحول إلى مذهب يمتد إلى ما غيرها من المناطق المحيطة؛ فظروف المعيشة وكذا المتغيرات السياسة والاجتماعية التي كانت تميز البادية عن الحواضر الإسلامية تبقى جوهرية. وهذا ما لم يسمح باستنساخ تجربة الحب العذري في تلك الحواضر التي أخذت في التوسع والانفتاح خلال العصرين الأموي والعباسي بعيدا عن ذهنات البادية المحافظة؛ تلك الحواضر التي كانت تشهد ميلاد الكثير من أنواع الحب التي تتسم بالمجون والشذوذ والانفلات المفرط.

ويكفي لتقريب صورة الاختلاف بين البوادي والحواضر في النظر لموضوع الحب إيراد هذا الحوار الموجز بين الأصمعي وامرأة من بني عذرة:
سأل الأصمعي: ما هو الحب عندكم
قالت: الغمزة والقبلة والضمة. فما هو عندكم؟
قال: أن يرفع رجليها ويدفع بجهده بين شفريها.
إن هذه المحاورة تبين بجلاء طبيعة الفرق الشاسع في النظرة للحب بين سكان البادية من جهة وسكان الحواضر من جهة ثانية.
وقبل التطرق لوجه آخر من وجوه الحب في الثقافة العربية الإسلامية وهو الوجه الذي يتسم بالكثير من تمجيد الملذات على حساب العلاقة الروحية الصافية. نتطرق لنظرة أخرى للحب ولو أنها متأخرة زمنيا عن المرحلة التي شهدت عنوفان الحب العذري, وهي نظرة ابن حزم الأندلسي في كتابه الموسوم "طوق الحمامة في الألفة والإلاف"؛ لأن نظرة هذا الفقيه الأندلسي للحب تتقاطع في بعض تفاصيلها مع نظرة العذريين دون أن تتطابق معها.
يعد كتاب "طوق الحمامة" من أهم المراجع حول الحب في الثقافة العربية الإسلامية، فهو يتصدى لمحاولة تحديد جادة وعلمية لماهية الحب ووصف لأعراض وصنوف الحب المختلفة؛ فقد أفرد الفقيه الأندلسي بابا في كتابه لكل علامة من علامات الحب مدللا عليها بأبيات شعرية من نظمه في الغالب.
ولكن ما يؤخذ على كتاب ابن حزم - برغم أهميته وأصالته - أنه كتاب "طبقي": بمعنى أن ابن حزم الأندلسي قد صور لنا الحب تصويرا دقيقا في قصور الأمراء والملوك وعلية القوم دون أن يلتفت للعامة من الناس البسطاء الذين قد تكون لهم رؤية مغايرة لماهية الحب عما هي لدى القوم المترفين؛ فأغلب قصص الحب التي أوردها ابن حزم عبر صفحات كتابه - المتفرد في بابه - تدور حول الجواري والقيان, ونحن نعلم من خلال التاريخ الذي وصلنا عن تلك الأيام أن اقتناء الجواري والقيان هو ترف لا يقدر عليه إلا ذوي الجاه والسلطان أما عامة الناس فإنهم محرومون في الغالب من هذه المتع.
ابن حزم يلتقي مع الشعراء العذريين في التأكيد على أن الحب إنما يكون لمحبوب واحد وأن ارتباط الرجل إنما يكون بامرأة واحدة دون سواها. ومع هذا فهو لا يعد من زمرة العذريين لأنه يتجاوزهم من خلال طرحه لقضية الحب, فطرحه علمي تثقيفي بالأساس هذا من ناحية المضمون, أما من ناحية الشكل فالفقيه الأندلسي -على خلاف سابقيه - لم يضمن كتابه منتخبات شعرية فقط, بل إن عمله محاولة نثرية جادة ورصينة للاقتراب من موضوع ظل ولفترة ليست بالقصيرة حكرا على الشعر لوحده.

إن ابن حزم وهو يسجل ويحلل ما عاشه بنفسه أو ما وصل إلى سمعه من أخبار وقصص يسعى عبر أبواب الكتاب المتعددة لتعداد وتحليل العلامات والصفات التي عن لاحظناها على شخص ما قلنا عنه بكل ثقة غنه عاشق.
إن ما يميز طوق الحمامة هو قدرته الفائقة على سبر أغوار النفس البشرية وشرحه الدقيق والموفق في الغالب لطبائع الرجال والنساء. وإذا كان الشعراء العذريين قد أوصلوا صوت الرجل وشرحوا حاله وهو يعاني ما يعاني بسبب الحب, وحللوا نفسيته وكل ما يختلج بدواخله التي لم تكن سوى دواخلهم في حقيقة الأمر, فإن المرأة: حالها ووضعها وما يختلج بداخلها, ظلت مبهمةوغامضة لأنها وبالرغم من كونها الموضوع الرئيسي لكل أشعارهم ظلت صامتة, ولأنها صامتة ظلت مجهولة لدينا كقراء. هنا وفي هذه النقطة أيضا يتميز ابن حزم عن الشعراء العذريين بكونه يشرح ويحلل لنا نفسية المرأة عاشقة كانت أم معشوقة؛ فالفقيه الأندلسي يؤكد على أنه أعلم من غيره بطبائع النساء: " لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن مالا يكاد يعلمه غيري, لأنني ربيت في حجورهن, ونشأت بين أيديهن, ولم أعرف غيرهن, ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيّل وجهي وهم علمنني القرآن وروينني كثيرا من الأشعار, ودربنني في الخط, ولم يكن وكدي وإعمال ذهني منذ أول فهمي, وأنا في سن الطفولة جدا, إلا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن وتحصيل ذلك".
إن الميزة الأساسية لكتاب ابن حزم جول موضوع الحب, أنه لم يكن بحثا نظريا أو فلسفيا محضا, ولا سردا ورصفا لأخبار وقصص وأشعار دون أن يكون هناك رابط شديد بينها؛ بل هو مزج بين هذا وذاك, فهذا يشرح ذاك, وذاك يوضح هذا.الحب ذو الطابع الإباحي
بعيدا عن البادية وما تتميز به من محافظة أخلاقية تؤطر العلاقات بين الرجل والمرأة وتضع لها حدودا يصعب تجاوزها، رغم حرية الاختلاط النسبية التي تتفاوت من قبيلة لأخرى.
قلت بعيدا عن هذه البوادي، أخذت تنشأ الحواضر الإسلامية الكبرى وتتوسع ( بغداد، دمشق ، نيسابور) جالبة إليها أخلاطا بشرية من كل الأعراق؛ مما اوجد ثقافة متعددة ومنفتحة وذات مرجعيات متعددة.
في ظل هذه الحواضر نشأ نوع من الحب مختلف تمام المخالفة لما هو عليه في البادية؛ إنه حب ماجن وداعر يستمد مفرداته من المعجم اللغوي العربي الثري بمفردات الإيروسية والاحتفاء بالجسد.
ميزة هذا الحب أنه يختصر العلاقة بين الرجل والمرأة في جانبها المتعوي ملغيا بصفة شبه كلية الجانب الروحي لهذه العلاقة وإن تم استحضاره فبوصفه وسيلة موصلة للجانب الآخر من العلاقة، أي جانب المتع الحسية.
مثل هذا النوع من الحب شعراء كبار لهم مكانتهم التي لا تنافس في المتن الشعري العربي القديم؛ وإن كنا سنقصر حديثنا هنا عن الشعر فقط فذلك لأن الثقافة العربية ظلت ولقرون طويلة ثقافة شعرية بالأساس، ليس للنثر فيها سوى مكانة ثانوية.
كان أبو نواس واحد من كبار شعراء العربية في العصر العباسي الأول الذين تناولوا الحب في أشعارهم؛ وقد تناول الشاعر الحكمي الحب بنظرة خاصة تجعل منه - أي من الحب - فعل مركب من علاقات سوية وشاذة هدفها الأسمى هو الوصول إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المتعة الجنسية فقد كان يتحدث في شعره بنحو داعر وفاحش وبصور تنم عن روح عابثة تعكس حياته الجنسية عامة ولوطيته على وجه الخصوص.
بعد أبي نواس بقرابة القرن راح ابن الحجاج ( المتوفي 1001) يكتب الكثير من القصائد تفوق فيها على سابقه من حيث المجون والتحلل التام من الأخلاق؛ فهو كان يستعمل لغة أبناء الشوارع الجارحة والفاضحة؛ ابن الحجاج لم ينل شهرة سلفه الشاعر الحكمي إلا لأنه قصر " ثورته الشعرية" إن صحت التسمية على مستوى المضمون فقط بحيث نلحظ أن كل قصائده تقريبا تنضح بكل أنواع ومفردات الفسق والمجون، دون أن تكون له نظرة متناسقة اتجاه الذات والعالم؛ فهو لم يكن صاحب مذهب في الحياة كما كان أبو نواس، بل مجرد شاعر يرى في المجون شيئا يستحق التمجيد بالكلمات على الأقل.
أما النواسي فقد كان على العكس من ذلك برغم مجونه الذي لا يضاهى، إلا أنه كان يملك نظرة فلسفية عميقة اتجاه الحياة بثها في معظم أشعاره.
ولكن لماذا نحشر أبا نواس في موضوع عن الحب؟
هل كان أفسق شعراء العصر العباسي عاشقا كبيرا في أشعاره على الأقل؟
هو لم يكن كذلك بكل تأكيد، إنه لم يعشق في حقيقة الأمر سوى ذاته وملذاته وإن كتب في العشق ووصف حال العاشق أفضل وصف. حديثه عن الحب لم يكن نابعا من خفقات القلب بقدر ما هو استجابة لرعشات الجسد المحمومة، الحب عند أبي نواس لقاء جسدي بين رجل وامرأة أو بين رجل وغلام أمرد؛ فعند النواسي لا فرق بين العلاقة الجنسية السوية والعلاقة الجنسية الشاذة مادامت قادرة على تحقيق اللذة؛ لذلك ظل يجهر بعلاقاته اللوطية دون خجل سواء كان فاعلا في هذه العلاقة أو مفعولا فيه.
لقد كان لأبي نواس نظرة خاصة اتجاه الحب وهي ليست نظرة ابتدعها بنفسه، بل إنها نظرة ميزت عصره وتحديدا في إطار محيطه الجغرافي ( الحواضر الإسلامية). نحن نعثر على نفس النظرة اتجاه الحب لدى الكثير من الشعراء والفلاسفة والكتاب الذين عاشوا في العصر العباسي الأول، نظرة تجعل من الحب مجرد وسيلة لغاية أسمى هي الرغبة والجسد ولا قيمة للحب إذا لم يوصل إلى الوصال الجسدي؛ وإذا نأى المحبوب وجفا فالشاعر مستعد للاستنجاد بالشيطان ذاته لتمكينه من محبوبه والتمكين هنا بمعناه الجنسي المحض، فأبو نواس في الأبيات التالية يصور وبطرافة مستملحة ما يفعل به الشبق وكيف يدفعه لأحضان إبليس طالبا منه أن يفعل ما بوسعه من أجل أن يعود المحبوب إليه: لما جـفاني الحبـيب وامتنعت عنـي الرسالات منه والخبرواشتد شـوقي فكاد يقــتلني ذكر حبيـبي ، والهم والفكردعـوت إبليس ثم قلت له في خـلوة ، والدمـوع تنـحدر أما ترى كيف بليت وقد أقـرح جفـني البـكاء والسهر ؟إن أنت لم تلق لي المودة في صــدر حبيبي وأنت مقتدرلا قلت شعراً ، ولا سمعت غناً ولا جرى في مفاصلي السكرولا أزال القــرآن أدرســه ، أروح في درسـه وأبتـكروألزم الصـوم ولا صـلاة ولا أزال دهــري بالخير أأتمر فما مضت ، بعد ذاك ثالثة حتى أتـاني الحبيــب يعــتذر
على عكس ما ميز الحب العذري من عفة وطهارة تحول الحب في أزمنة لاحقة وخصوصا في الحواضر الإسلامية الكبرى إلى مجرد رغبة جنسية. لقد عمل الشعراء على تغييب الجانب الروحي في الحب مكتفين بالجانب الحسي/الجنسي الذي يظل ملازما لطبيعة الحب السوية التي هي روح وجسد.
الحب في الثقافة العربية الحديثة
لا يمكن الحديث عن الحب كموضوع أدبي وفلسفي في ثقافتنا العربية دون أن يتبادر إلى ذهننا اسم الشاعر نزار قباني، هذا الشاعر/ العاشق الدمشقي ظل لقرابة الخمسين عاما يهدينا الفرح الجميل وهو يتسلل لقلوبنا ليعبر عما بداخلها بصدق وعفوية وشاعرية تقطر عذوبة.
نزار قباني قال: إن الحب في بلادنا عبد يحتاج إلى تحرير. وهو قد حاول تحرير هذا العبد بالكلمات على الأقل. ربما يشكل نزار قباني استثناء يكاد يكون وحيدا بين أدباءنا، فهو قد قصر معظم نتجاجاته الشعرية على موضوع واحد تقريبا هو الحب، وهو في هذا يلتقي مع الشعراء العذريين مع بعض الاختلافات الطفيفة؛ فهم قد نظموا أشعارهم كلها على محبوب واحد دون غيره، أما نزار فقد جعل أشعاره كلها ناطقة باسم الحب والمحبين جميعا وأعطاهم صوته وقلمه، لهذا نلحظ تعدا ملفتا للحبيبات في شعر نزار، فهو حتى في قصائده السياسية لم تغب عن قريحته تعابير الحب الممزوجة بعبق الأنوثة ولم يتخلى وهو يكتب عن السياسة عن أسلوبه الغزلي الذي يفصح عن نفسه في حبور.
نزار قباني هو امتداد لمدرسة في الشعر العربي تضع الغزل في في منتصف الطريق بين العفة والمجون؛ هذه المدرسة التي كان رائدها وممثلها الأبرز الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة وكذلك الشريف الرضي. فنحن نعثر في نصوص هؤلاء الشعراء على عدد لا حصر له من
الحبيبات يصورهن الشاعر تصويرا يمزح بين الرومانسية والاباحية الخفيفة التي لا تخدش الحياء إلا في النادر من بعض القصائد كما نلاحظ في أشعار أصحاب هذا الاتجاه الذي تأثر به نزار قباني خاصية نادرا ما نجدها في أشعار الاخرين وهي أن الشاعر محبوب ومعشوق أكثر منه عاشقا فهم - ومن بعدهم نزار قباني- يكتبون قصائدهم بكثير من النرجيسية. مثال ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
تقول اذ ايقنت اني مفارقها
ياليتني مت قبل اليوم ياعمرا
وصف الحبيبة عند هؤلاء الشعراء يقف كما قلت في النقطة الواصلة والفاصلة بين العفة والمجون، بين الرومانسية و الإباحية المخففة -على عكس ما نجدها عند أبي نواس مثلا -. ونحن إذ كنا لا نعثر عند عمر بن أبي ربيعة سوى على وصف الحبيبة وصفا جسديا محضا يختزل كل معاني الحب في نظرات وحركات جسدية ذات طابع إغوائي شبقي في الغالب. فإننا وفي الوقت الحاضر نعثر عند نزار قباني وغيره من الشعراء على محاولات رامية لستكناه نفسية المرأة وإثبات حضورها النفسي والعقلي موازاة مع الحضور الجسدي الذي ظل وبرغم تغير النظرة اتجاه المراة ضاغي الحضور بشكل لافت يصعب تجاوزه في النصوص الشعرية خاصة. في حين نجد في حقل اخر من حقول الأدب وهو الرواية محاولات جادة للتخلص من طغيان الحضور الجسدي للمرأة على حساب حضورها كروح ووجدان وعقل، أي كطرف واعي في علاقة الحب.
الحب شكل في النصوص الروائية العربية الحديثة عنصر أساسي ومكون رئيسي في كمياء النص الروائي ضمن عناصر أخرى؛ لكن ما يمكن ملاحظته على هذه النصوص أنها لم توظف الحب لذاته بل استنجدت به للتعبير عن أشياء أخرى، فالحب كوضوع روائي ظل حاضرا بقوة كأطار عام لسير أحداث الرواية وقد ظل وبنفس القوة غائبا كتفاصيل صغيرة، ذلك لأن الرواية العربية لم تعرف أو بعبارة أدق لم تتكرس ضمنها الرواية الرومانسية (ليس بالمعنى المذهبي للكلمة) كاتجاه مستقل عن الاطار العام للرواية ومتصل به في نفس الوقت؛ فالغلبة ضمن المتن الروائي العربي الحديث والمعاصر كانت دائما للراية السياسية والاجتماعية المحملة بالايديولوجيا. هذان الاتجاهان الذين احتويا بداخلهما مواضيع كثيرة كان يمكن - لو توفرت ظروف إبداع مغايرة – أن تشكل اتجاهات قائمة بذاتها داخل المتن الروائي العربي.
إدا فقد عملت الرواية العربية على توظيف موضوعة الحب كرمز دون أن يقصد لذاته. فتأزم العلاقات العاطفية داخل العمل الروائي ما هو في واقع الأمر إلا تعبير عن تأزم الوضع السياسي والاجتماعي؛ والفشل الذريع الذي تمنى به علاقات الحب داخل تلك النصوص لم تكن هي الأخرى سوى رمز يلجا إليه الروائيين للتعبير عن فشل المشاريع التي تستهدف المستقبل. مشاريع النظام والسلطة بالدرجة الأولى.
إذا كانت أسئلة الرواية ما هي - في النهاية وبعد التحليل - سوى أسئلة المجتمع فإن الحب الذي تصوره هذه الرواية يعبر من خلال الأزمة التي يعيشها عن أزمة المجتمع، وهي أزمة ناتجة أساسا عن التمزقات التي خلفها التاريخ في مفاصل المجتمع. ومن هنا ينبرز التاريخ الفردي لأبطال العمل الروائي في تقاطعه مع التاريخ الجمعي للأمة والمجتمع كعائق يقف في طريق علاقات الحب التي يصورها العمل الروائي. تلك العلاقت التي تبدا بعفوية وصدق وحسن
نية، سرعان ما تتدخل الذاكرة وكذا الواقع المعقد وتفقدها طهرها الأصلي وبالتالي تمأزقها بعد أن يصل الحب إلى قمة عنفوانه؛ ولأن الحب بلا أظافر يدافع بها عن نفسه بشراسة فإنه في الغالب يمنى بفشل ذريع ويعلن سقوطه المدوي تحت تأثير التاريخ والواقع المشتبكين بلا هوادة.

هكذا تكون نهايات الحب غالبا في الروايات العربية التي لجأت إلى توظيف موضوعة الحب كرمز للتعبير عن واقع اجتماعي معقد ومأزوم لا تستطيع أن تحتويه أو تشرحه الرواية وهي تستعمل أسلوب تقريري بلغة مباشرة.
وحتى لا يبقى كلامنا مجرد تحليل نظري نوضحه بمثال أرى أنه الأقدر على التعبير عما رميت إليه؛ وهذا المثال نعثر عليه في رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي.
ان اختيار هذه الرواية تحديدا ليس اختيارا اعتباطيا، فذاكرة الجسد كتبت بأسلوب هو أسلوب جيل
بأكمله من الروائيين والشعراء العرب؛ اسلوب يوظف انسيابية الشعر في التعبير النثري. بالإظافة إلى أن من يقرأ هذه الرواية أول مرة يرتبها في خانة الروايات العاطفية، لكنها في الحقيقة ليست كذلك فهي رواية سياسية بامتياز تستعير الحب فقط لتفتح من خلاله مجالات أخرى:
- يا أمرأة كساها حنيني فإذا بها تأخذ تدريجيا ملامح مدينة وتضاريس وطن.
بهذه العبارة التي وردت على لسان بطل الرواية خالد بن طوبال تختصر العلاقة ما بين الحب/المرأة والوطن بهمومه وتمزقاته. ذاكرة الجسد تدور أغلب أحداثها ما بين الجزائر
(قسنطينة) وفرنسا، وهي تروي لنا حياة/مأساة خالد بن طوبال ذلك المجاهد الذي التحق بالنظال من أجل تحرير الوطن وفي خضم معركة التحرير يجرح ويفقد ذراعه. وتلك ( فقدانه لذراعه) كانت فجيعته الأولى التي سترافقه بقية حياته، بعد الاستقلال تتوالى عليه الخيبات بداية من الصراع الذي دار بين إخوة الأمس حول اقتسام السلطة، فيقرر السفر إلى فرنسا لتحقيق
أمنية أخرى ظلت تراوده وتناديه هي الفن. بعد سنوات قليلة يشتهر كرسام ويقيم معارض في أكبر القاعات. يعود للوطن من أجل إقامة معرض للوحاته الزيتية وهناك يلتقي بحب حياته الذي انتظره وحلم به طويلا: أحلام تلك الفتاة التي أحبها من اول نظرة واعترف لها بأنه كان مستعدا منذ الأزل ليحب فتاة تشبهها لأن وجهها كان يطارده في كل الوجوه النسائية التي عرفها. وهنا يصاب بخيبة أمل أخرى لاستحالة ذلك الحب الذي بدأ بعنفوان كبير ثم تضاءل ببطء إلى أن قررت الحبيبة الزواج بشخص اخر ليس مشدودا لماضيه بل يملك حاضره ويتطلع للمستقبل. هذه هي القصة المحورية في الرواية التي تتفرع عنها أحداث وتعليقات ومواقف أخرى لتشكل في النهاية رواية ذات أبعاد متعددة سياسية عاطفية اجتماعية وتاريخية.
إن توظيف الحب في هذه الرواية مثلها مثل الكثير من الروايات العربية لم يكن لذاته بمقدار ما كان بهدف إلباس الأحداث لبوسا أنيقة وجذابة تخفي بشاعتها وتمزقاتها الداخلية.
إن الرواية العاطفة المحضة والقصيدة الغزلية الصافية التي تمجد الحب والمحبوب لذاتهما تظل غائبة بصفة شبه كلية عن الأدب العربي الحديث والمعاصر. أما حقول الثقافة الأخرى كالفلسفة والعلوم الانسانية فهي في بيئتنا العربية قد نسيت تماما أن هناك إحساس جميل بداخل كل منا إسمه الحب يحتاج إلى دراسة وتحليل.

conter