الأحد، ديسمبر 28، 2008

هل نحن عرب؟

هل لنا أن نتمنى عاما أفضل..بعبارة اصح، عاما أقل سوءا على العالم العربي والإسلامي الغارق في الخيبات والهزائم والهوان. قبل أن يستهلك عام إلفين وثمانية أيامه الأخيرة، هاهي إسرائيل ترتكب مجزرة في حق أهل غزة، أمام أعين العالم بأكمله. ونحن كعرب ليس لدينا سوى التنديد بالفعل الشنيع والمنافي للأعراف الدولية، لأننا في النهاية لا نملك غير القول، فقد طلقنا الفعل بالثلاث منذ سنين غابرة. وصرنا نكتفي فقد برفع الصوت بالخطب العصماء التي لم تقتل دبابة كما قال نزار قباني ذات لحظة وجع.
قبل زمن طويل حين كانت الأحلام كبيرة والوعود بنصر آت تسكن الوجدان كتب نزار قباني للأطفال العرب الصغار:



فليذكر الصغار
العرب الصغار حيث يوجدون
من ولدوا منهم ومن سيولدون
ما قيمة التراب
لان في انتظارهم
معركة التراب

ولكن الأطفال العرب كبروا وانهزموا مثلما انهزم الآباء، وخسروا معركة التراب وضيعوا الكرامة الباقية، حملوا خيباتهم في عيونهم، ونسوا أحلامهم المجهضة ونسوا أنهم عرب.
فهل نحن عرب يا درويش؟
من له النخوة العربية وبقية من الأحلام ليكتب:
سجِّلْ!

أنا عربي

وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ

وأطفالي ثمانيةٌ

أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،

والأثوابَ والدفترْ

من الصخرِ

ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ

ولا أصغرْ

أمامَ بلاطِ أعتابك

عرب ألفين وثمانية هم امة مهند، أمة الأحزان والهزائم المتكررة، امة تفتخر بالحذاء وتصبغ عليه صفات قدسية بعد أن شلت كل الأيادي عن رد العدوان، ووجعت كل أسلحة العسكر نحو صدور أبناء الوطن، أمة تدوس فيها نعال العسكر رقاب المواطنين في الشوارع والساحات العامة وفي الزنزانات المفتوحة لكل من يفرض التسبيح بخصال الزعيم المفدى ملهم الأمة وكاشف الغمة وصاحب الهمة؟؟
جل الدول العربية في سنة ألفين وثمانية لم تحتفل باليوم العالمي لحقوق الإنسان، لان بلادي الجميلة والمتخلفة والمنكوبة تعتبر حقوق الإنسان بدعة غربية؟، وتعتبر الديمقراطية اعتداء على القرآن، وتعتبر حرية التعبير تجديفا في حق السماء وهرطقة متروكة فقط للزنادقة، وللشعراء الملعونين والمنذورين للإعدام.
فهل نحن عرب يا نزار؟
لنستطيع الحلم ببلاد لا تفرض فيها الضرائب على كمية الهواء التي نستنشقها، لنعيش ونحلم ببلاد:

لها برلمانٌ من الياسمين.

وشعبٌ رقيق من الياسمين.

تنام حمائمها فوق رأسي.

وتبكي مآذنها في عيوني.

أحاول رسم بلادٍ تكون صديقة شعري.

ولا تتدخل بيني وبين ظنوني.

ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني

فهل نحن عرب يا شاهين؟
حتى نستطيع التنديد بالفوضى([*]) وبقمع الأنظمة التي تسيّج قصورها بجثث الأطفال الأبرياء، وتهزمنا وتسير بنا في طريق مليئة بالخيبات والنكسات، وأي فوضى يا ابن الإسكندرية أكبر من أن يحكمنا شيوخ وسلاطين وعسكر يورثوننا لابناءهم كالجواري والعبيد.
عرب عام ألفين وثمانية يودعون عامهم هذا في شهرهم هذا بمئات الضحايا وملايين المقهورين، المهزومين والمحزونين
فكل عام وبقايا العرب بخير.




هي فوضى آخر أفلام الراحل يوسف شاهين.[*]

الأحد، ديسمبر 21، 2008

وجع المستامي

كان يسير وحيدا، مهموما وحزينا، فالذي كان يشغل باله اكبر من أن يجعله ينتبه لوجوه المارة، والتحديق بمؤخرات الفتيات العابرات أمامه بشارع ديدوش مراد بقلب العاصمة، هو المغرم حد الثمالة بهذه العادة السيئة، التي كانت منذ أيام فقط هوايته المفضلة، حيث يقضي ساعات طوال متسكعا بشوارع العاصمة المكتظة، لا لشيء سوى لتحصيل تلك المتعة البصرية التي تزرع الدفء بقلبه وجسده النحيل.كان يسير وحيدا، مهموما وحزينا، مطأطأ الرأس يستحضر بمرارة ذلك الموقف الذي وجد نفسه فيه منذ يومين بمحطة الحافلات بالخروبة، لقد تعرض لإهانة أمام الجميع حين اتهمته فتاة لا يعرفها بسرقة هاتفها النقال، اتهام كلفه قضاء خمس ساعات بقسم الشرطة.. خرج من قسم الشرطة متورم الخد الأيمن ونازف الأنف ... فرجال الشرطة الغلاظ الطباع لا يتورعون عن إبراز عضلاتهم في حضرة اللصوص الظرفاء أمثاله...رغم أنه كان بريئا من تلك التهمة الباطلة إلا انه اخذ نصيبه من الاهانة اللفظية والجسدية.. إهانة كسرت روحه بشكل لم يتوقعه أبدا، هو المتعود على الاهانات منذ زمن لا يتذكره..ربما منذ لحظة الولادة الأولى ومنذ صرخة الميلاد الأولى التي تلتها صرخة والده الغاضب والثائر في وجه أمه وكل الحاضرين في المستشفى: من وين جبتي وجه الشر هذا إنه لا يشبهنيوفعلا لم يكن يشبه والده، لأن ولادته لم تكن سوى نتيجة مأساوية وغير متوقعة لنزوة امرأة متزوجة أرادت أن تعيش لحظات من الطيش والعشق المحرم، بعد أن ملت فراش زوجها البارد.كبر وحيدا، وحزينا ومهموما، ووجلا من نظرات والده الحادة والناقمة التي لم يكن يعرف لها سببا...وحدهم الأزواج المخدوعون من يكونون قادرين على معاقبة الأطفال الأبرياء على أخطاء لم يرتكبوها...ووالده المفترض عاقبه بصمت وتجاهل وحقد دفين، ذلك الحقد الذي كان قادرا على تشويه نفسيته واغتصاب براءة الأطفال في عينيه.كان يسير وحيدا، مهموما وحزينا، محاولا تذكر لحظات جميلة عاشها، لتنسيه تلك اللكمات القوية والسب والشتم الذي كاله له رجال الشرطة، لكن ذاكرته لم تسعفه في استحضار لحظة فرح أو محطة سعادة واحدة في حياته الممتدة على ثلاثين عاما من الأنين، وعشرة أعوام من التشرد واحتراف السطو والاعتداء على الآخرين.لقد اعتدى على الكثيرين وسرق مرات ومرات، وغرق في تعاطي كل الموبقات التي يعاقب عليها القانون، ولكنه كان دائما حريصا على أن لا يقع في قبضة الشرطة، وأن يبقى سجله العدلي نظيفا، ربما كانت رغبة دفينة بروحه لان يصير مواطنا صالحا في وقت ما، كان يريد ذلك في أعماقه رغم لحظات الانحطاط الكثيرة التي كان يعيشها، ورغم غرقه في الرذائل جميعا عن سبق إصرار، ولكن شيئا ما بالقلب كان يدعوه للسمو والرحيل بعيدا عن واقعه المنحط، شيء بالقلب زرعته هي...نسرين، تلك الفتاة الخارقة للعادة وحبيبته الاسطورية التي التقاها يوما فسكنت قلبه دوما، وأورثته أملا وألما. تلك الشفافة النظرات التي التقاها في شارع السعادة المكتض، في صباح السعادة الممطر ذاك، حين انزلقت على الاسلفت المبتل فوقعت بين يديه وفي قلبه..أشعلت الدفء في روحه وجسده ..هو المشتاق بكل حرقة العاشقين انظرة حانية تشع في قلبه نورا ..نظرة من عيون تلحظه بخجل ..وكلمات شكر متناثرة وخجلة وواعدة بمشاعر لم يختبرها ولم يدرك معناها الا بعد ايام وايام عندما غابت تلك الفاتنة وابتعدت ورزعت بالقلب غصة وحنين..كان يسير وحيدا، مهموما وحزينا، تؤرقه الذكريات ووجع الاهانات واللكمات، موجوعا حتى العظم، يستحضر عينيها في عيون كل العبارات امامه في شاردع ديدوش مراد، شارع السعادة والألم الذي التقاها فيه يوما فسكنت قلبه دوما.

الأربعاء، ديسمبر 10، 2008

الرواية والنقد السوسيولوجي

جورج لوكاتش أو الرواية كملحمة بورجوازية
يعد جورج لوكانش (1885- 1970) المجري الذي يكتب باللغة الألمانية، وبحق أول من قدم نظرية متكاملة حول الرواية، ولو من زاوية نظر خاصة تربط بين الرواية والملحمة، هذا الربط الذي أخذه لوكاتش عن أستاذه هيجل وأضاف إليه تحليله المعمق لطبيعة الجنس الروائي دون أن ينسى حنينه وانتصاره للملحمة التي ظل ينظر إليها على أساس أنها الجنس الأدبي المعبر عن طهر وصفاء الروح الذي غادر الأزمنة الحديثة؛ أزمنة القيم البورجوازية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية ومن ثم غادر أيضا الرواية كجنس أدبي معبر عن هذه القيم والعلاقات .
وبالرغم من العم
ر الفكري المديد لجورج لوكاتش، وبالرغم من كتبه الكثيرة وتطرقه لميادين فكرية عديدة ومتنوعة " فإن كتابين من بين كتبه الكثيرة حفظا اسمه مفكرا طليعيا من مفكري القرن العشرين، الكتاب الأول عنوانه 'نظرية الرواية' كتب في شتاء 1914/1915 ونشر أول مرة عام 1920، والكتاب الثاني عنوانه ' التاريخ والوعي الطبقي' وهو جملة دراسات نشر في عام 1923؛ وفي مآل الكتابين أكثر من مفارقة، فكلاهما يعود لطور الشباب، والأول كما الثاني لقي من صاحبه التنديد والتخلي"().
يقدم جورج لوكاتش في كتابه نظرية الرواية وبأسلوب شاعري مملوء بالأسى الرواية كجنس أدبي غير أصيل، وهو جنس أدبي غير أصيل لأنه نتاج لواقع فقد أصالته وقيم روحه الطاهرة، وهو جنس غير أصيل أيضا مقارنة بالملحمة؛ فلوكاتش وهو يجتهد في وضع خطوط عريضة لنظرية الرواية يستحضر الملحمة وعالما الأصلي في تعارضه مع عالم الرواية. يتبادل الجنسان الأدبيان الإضاءة وتظل الملحمة هي المرجع التاريخي الذي يعود إليه لوكاتش في بحثه عن القيم الأصيلة التي عمل النظام الرأسمالي على طمسها.
يبدأ جورج لوكاتش كتابه نظرية الرواية بهذه السطور الشاعرية المنظومة بأسى وحنين لعالم رحل " طوبى للأزمنة التي تطالع في السماء المرصعة بالنجوم خريطة السبل المفتوحة لها، وعليها أن تتبعها، طوبى للأزمنة التي تستنير طريقها بضوء النجوم، فكل شيء يدل بالنسبة إليها على المغامرة وهو مع ذلك ملك لها..."().
بعد أن ينهي لوكاتش سطوره المنسوجة من الأسى والحنين يقول: "ذلك هو عصر الملحمة".
انطلق لوكاتش وهو يعمل على وضع نظرية للرواية من تصورات أستاذه هيجل، ولكن ليس من منطلق مثالي كما فعل هذا الأخير، بل اعتمد في عالمه هذا على التصورات الماركسية ولو بشكل رومانسي، في فهم المجتمع الرأسمالي وتسفير تناقضاته. وهو أي لوكاتش، يؤكد منذ البداية على أن وضع نظرية حول الرواية أمر من الصعوبة بما كان، نظرا لحداثة هذا الجنس الأدبي من جهة وتباين المستوى الفني للأعمال الروائية من جهة ثانية: " إنه لا توجد بين أيدينا سوى بعض الأعمال الأدبية الكبيرة كعنصر يمكن من وضع نظرية للرواية"(). هذا الإقرار من طرف صاحب نظرية الرواية يجعل النتائج المتوصل إليها نسبية، وهي بالتالي غير قابلة للتعميم على كل النتاج الروائي للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر الذي اعتمد عليه لوكاتش في صوغ نظرية الرواية.
قبل التطرق للأفكار الأساسية التي جاء بها لوكاتش وهو يعمل على صوغ نظرية حول الرواية الأوروبية، بجدر بنا أن نتساءل ومن منطلق سوسيولوجي: ما هي الظروف الاجتماعية والسياسة وكذا المنطلقات الفكرية التي جعلت لوكاتش الشاب يستنطق الرواية من خلال إجراء مقارنة تعارضية بينها وبين الملحمة؛ بالرغم من الهوة التاريخية السحيقة التي تفصل بين الجنسين الأدبيين؟.
كما سبق وقلنا فأن المفكر المجري قد ألف كتباه في شتاء 1914/1915 مع انه لم ينشره إلا بعد خمس سنوات، أي في سنة 1920. كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، وضراوة الحرب توحي بتوجه الحضارة الإنسانية نحو الخراب والدمار، وه
ذا الاحتفال بالخراب الذي أسفرت عنه الحرب، أوحى للوكاتش الشاب بكتابة نظرية الرواية، هذا الكتاب الذي لم يكن في جوهره سوى هجاء للقيم البورجوازية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية التي جردت الإنسان من صفاء روحيه، هذا الصفاء الذي وجده لوكاتش في الملحمة.
أن دور الملحمة بالنسبة للوكاتش من حيث هي جنس أدبي أصلي مرتبط بعالم أصلي، إضاءة للرواية التي هي – وحسب لوكاتش- جنس أدبي غير أصلي أوجده مجتمع فقد الأصل فيه، وأوصل الإنسان إلى الاغتراب عن واقعه وعن روحه الأصيلة. في نفس الوقت الذي يستنطق فيه لوكاتش الرواية البورجوازية ينظر بحنين لا تنقصه المرارة لعالم الإغريق الذي أنتج الملحمة ويرى فيه فردوسا مفقودا.
إن هذه النظرة الرومانسية التي انطلق منها لوكاتش وهو يصوغ نظرية الرواية أملتها الظروف التي عاشها لوكاتش الشاب الذي عايش عالما يحتفل بالخراب والحرب، يتحول فيه الإنسان إلى وقود للموت، هو عالم الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن همجية الإنسان، وأخرجت الشر الكامن فيه إلى الوجود.
كتب لوكاتش مؤلفه موازاة مع الفترة التي اندلعت فيها الحرب العالمية الأولى؛ ومن منظور رومانسي معادي للرأسمالية، كان لوكاتش يرى أن الطبقة البورجوازية والقيم الرأسمالية هي التي جردت الإنسان من صفاءه وطهره، وغربته عن ذاته وواقعه، وأن الرواية كجنس أدبي أنتجته الطبقة البورجوازية كوسيلة تعبير عنها، وكوعاء إيديولوجي حامل لأرائها وأفكارها ومعبر عن تطلعاتها في السيطرة والهيمنة، وإقصاء الروح لصالح المادة، أو ما يسمى في الأدبيات الماركسية بالشيء، هذا المفهوم الذي سيستعيره لوسيان غولدمان لاحقا مع جملة أفكار ومفاهيم أخرى من لوكاتش ويبني عليه نظريته في علم اجتماع الرواية ومنهجه النقدي الموسوم بالبنيوية التكوينية؛ إن الرواية بهذا المعنى – حسب لوكاتش – ونتيجة ولادتها في حضن البورجوازية هي جنس أدبي منحط يعبر عن قيم منحطة في عالم منحط بدوره.
وفرارا من هذا الانحطاط الذي هو في الأصل انحطاط للقيم البورجوازية، وكتحصيل حاصل صار ملازما لأدوات التعبير التي أوجدتها هذه الطبقة، فرارا من هذا الانحطاط يبحث لوكاتش الذي أرقته الحرب عن فردوس مفقود، يعثر فيه على صفاء الروح التي غادرت هذا العالم؛ لوكاتش يجد فردوسه هذا في عالم الإغريق القدامى، وفي طريقه للبحث عن صفاء مفقود يعثر على الملحمة التي رأى فيها جنسا أدبيا أصيلا في تعارضها مع جنس الرواية.
لم يكن وضع لوكاتش وهو يندد بالقبح الخالص الذي أنتجته القيم البورجوازية يختلف كثيرا عن وضع غوستاف فلوبير وهو يكتب لأحد أصدقائه في العام 1858 سطورا متذمرة من عالم مدام بوفاري: " لقد تعبت من الأشياء القبيحة والأوساط الحقيرة، فقد أثار فيّ عالم العائلة بوفاري، ولمدة طويلة، تقززا من الطباع البورجوازية، وسأعيش، ربما خلال بضع سنوات موضوعا رائقا بعيدا عن العالم المعاصر الذي سئمت منه تماما "()، كان العالم الذي لاذ به فلوبير هو عالم قرطاجنة القديم الذي جسده من خلال روايته التاريخية "سلامبو" ؛ وعلى الرغم من ان لوكاتش قد تأثر بفلوبير وروايته " مدام بوفاري" إلا انه لم ينظر بإعجاب كبير لروايته التاريخية " سلامبو " فقد كان هو الآخر – أي لوكاتش- مهووسا بالبحث عن قرطا جنة خاصة به بعيدا عن قبح العالم المعاصر، وقد وجد ضالته في الملحمة كجنس أدبي وفي عالم الإغريق كفضاء تاريخي واجتماعي حاضن لهذه الملحمة التي نظر لها لوكاتش كجنس أدبي يمكنه من إضاءة عالم الرواية أو نظرية الرواية بحسب عنوان مؤلفه سالف الذكر.

الفرق بين الملحمة والرواية:
عمل لوكاتش من خلال كتابه " نظرية الرواية " على إبراز الفروق الأساسية بين الملحمة والرواية، ونحاول نحن هنا إبراز هذه الفروق في مجموعة نقاط رئيسية:
1- من حيث النشأة:
وجدت الملمحة اليونانية في ظل انسجام تام بين الفرد والمجتمع تحت رعاية الآلهة، وهي – أي الملحمة – " تترجم الوحدة بين الذات والموضوع واكتمال اللحمة بينهما في عالم منسجم يخلو من الصراع الواقعي "()، في حين ولدت الرواية في عالم بلا جماعة، وارتبطن ببنية مجتمعية تغاير البنية الجماعية ( الجماعة، الطائفة، العشيرة، الأسرة...) وهذه الولادة للرواية في ظل هذا الجو تحديدا تؤكد على المفهوم النظري المتداول والذي لا يفصل بين بروز المجتمع المدني كمفهوم وممارسة، وظهور الرواية كجنس أدبي، فالرواية تتكئ على الفرد دون أن تستدعي – على عكس الملحمة – العائلة والدين والجماعة، " وهذا ما عبر عنه هيجل حين رأى في الفرد الحديث، أي بطل الرواية نتاجا للمجتمع البورجوازي لا للعائلة البورجوازية "().
2- من حيث البطل:
تشترك كل من الملحمة والرواية في كونهما تعرضان حياة شخص / بطل ، أو مجموعة أشخاص / أبطال، في فترة زمنية محددة وفي ظروف معينة، الأولى أي الملحمة تقدم البطل في قالب تعبير شعري في حين تقدمه الرواية في قالب سردي ، ولكن ما الفرق بين بطل / أبطال الملحمة، وبطل/ أبطال الرواية؟
لا يخفي لوكاتش منذ البداية انتصاره للملحمة وتفضيله إياها على كل الأجناس الأدبية الأخرى، ولهذا فهو يقدم بطل الملحمة كأنه يعيش في عالم طوباوي خيالي منسجم تمام الانسجام ، حيث البطل منسجم مع ذاته ومع الطبيعة ومع الآلهة، لأنه يمثل الجماعة بدل أن يمثل ذاته، " إن بطل الملحمة لا يكون أبدا على وجه الدقة فردا، ومن السمات التي غدت دائما خصيصة جوهرية للملحمة كون مصيرها ليس مصيرا شخصيا، بل هو مصير عشير، وان في ذلك لصواب لان منظومة القيم المغلقة والمحددة لعالم الملحمة تصنع كلا يبلغ اتصافه بالوحدة العضوية حدا مفرطا، لا يستطيع معه عنصر من عناصر هذا الكل أن يعيش في عزلة ويحتفظ مع ذلك بحيويته، وان يرتفع ارتفاعا كافيا ليكشف نفسه كطوية ويجعل من نفسه شخصية "()، إذن، فبطل الرواية بحسب مفهوم لوكاتش لا يمثل في النهاية إلا الجماعة التي ينتمي إليها، لأنه لم يكتشف نفسه كفرد " ذلك بأن بناء الملحمة بناء جماعي، ولا يمكن للعنصر الفرد أن ينعزل عن المجموع "() .
على العكس من ذلك يتميز البطل الروائي بانفصاله عن المجتمع، وانتماءه المفرط لفردانيته وذاتيته التي يعمل على تحقيقها بعيدا عن ضغط الجماعة وتوجيهاتها، فهو بطل إشكالي حسب تعبير لوكاتش، يعيش اغترابا مزدوجا: " يغترب حين تعجز أفعاله الخارجية عن تلبية رغباته الداخلية، ويغترب أيضا حين لا تلبي القوى الخارجية من رغباته شيئا، ولهذا يكون الانقسام محايثا لوجوده فهو منفصل عن رغبته وعالمه الخارجي منفصل عنه، بقدر ما هو مغترب عن المكان الذي بدأ منه وعن الموقع الذي وصل إليه "().
ومن هنا يبرز الفرق بين بطل الرواية وبطل الملحمة، في الملحمة الأبطال نبلاء بأخلاقهم وقيمهم، وأقوياء بإرادتهم، إنهم قادرون على الصمود والتحدي والانتصار في نهاية الأمر، وحتى عندما يهزمون لا يسقطون، لأن الآلهة معهم وترعاهم، والطبيعة بالنسبة لهم مستأنسة رغم تكشيرها عن أنيابها أحيانا، والجماعة معهم وخلفهم تنظر إليهم بإعجاب لا يخلو من الإكبار؛ في حين أن بطل الرواية يشعر نتيجة اغترابه المزدوج أن أكثر الأعمال نبلا صارت أشياء مضحكة وفاقدة لقيمتها، وهو - أي بطل الرواية – يعيش في عالم يبحث عن جوهر الحقيقة، وهو لا يستطيع إيصال هذه الحقيقة للناس لأنه لا يعرفها أكثر منهم، إن " بطل الرواية ينشأ من الاغتراب عن العالم الخارجي، فمادام العالم عالما داخليا، فإنه لن تقوم بين سكانه أية فروق نوعية، نعم قد يكونون أبطالا و أوغادا، ورجالا ذا شأن ومجرمين ولكن أعظم الأبطال لا يرتفع إلا بمقدار طول الرأس عن أصحابه، وكلمات النبيل الحكيمة يمكن أن يفهمها حتى الحمقى "()، فبطل الرواية بهذا الشكل الذي قدمه لوكاتش مغترب عن ذاته وعن الآخرين، على عكس بطل الملحمة الذي يظل مسنجما مع ذاته ومع الجماعة والطبيعة.
أن خلاصة ما قدمه لوكاتش حول الرواية الأوروبية هو أنه اعتبرها ملحمة بورجوازية أنتجتها الطبقة البورجوازية عملت على قولبة المجتمع الأوروبي وفق تصوراتها الإيديولوجية، فقد قام لوكاتش " بتفريعات في نظرية الرواية على ما جاء به هيغل، مستفيدا من النظرية المادية في التحليل الاجتماعي للطبقات عند ماركس. أخذ الأطروحة العامة من هيغل، وقدم المسوغات والمبررات من صراع الطبقات الماركسي. كما أنه استفاد من الاغتراب الهيغلي (اغتراب العقل الكلي عن ذاته) بعد أن طعمه بالاغتراب الماركسي (اغتراب الإنسان عن إنتاجه) ليخرج من كل ذلك بأطروحته المشهورة بأن الرواية ليست إلا ملحمة البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة الأوروبية، وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي جعلت منها الطبقة السائدة في المجتمعات الأوروبية "()، وانطلاقا من تحليله للرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر قدم لوكاتش تصنيفا للرواية الأوروبية، قسمها على أساسه إلى ثلاث أنواع يقدمها تلميذه غولدمان في الأنواع التالية():
أ- رواية " المثالية المجردة " التي تتميز بنشاط البطل أو بوعيه الضيق للغاية بالقياس إلى تعقد العالم، والى هذا النوع ت
نتمي رواية " دون كيخوتة " لسيرفانتيس وكذا " الأحمر والأسود " لستاندال.
ب – الرواية النفسية التي تنزع إلى تحليل الحياة الباطنية، وتتميز بسلبية البطل وبوعيه الواسع إلى الحد الذي لا يرضيه معه ما بمقدور عالم العرف أن يقدمه إليه والى هذا النوع قد تنتمي رواية " اوبلوموف " ورواية " التربية العاطفية ".
ج – الرواية التربوية المنتهية بانحصار ذاتي الذي لا يشكل، رغم انه تنازل عن البحث الإشكالي، لا قبولا لعالم العرف ولا تخليا عن سلم القيم الضمني، هذا الانحصار الذاتي يمكن تخصيصه " بالنضج الفحولي " لبطل الرواية والى هذا النوع تنتمي رواية " ويلهلم مايستر " لغوتة، او der grune heinrich لكوتفريد كيللر.
رغم أن لوكاتش وبعد تأليف كتابه واطلاعه على كم اكبر من الروايات قد بدت له إمكانية أخرى يمكن إضافتها للتصنيف السابق، " ولقد بدت له هذه الإمكانية الرابعة، سنة 1920 معبرة عن نفسها قبل كل شيء في روايات تولستوي التي تنزع نحو الملحمية"()، وهذه الإمكانية أو الإمكانيات المفتوحة أمام جنس الرواية جعلت لوكاتش يعود لنفس الموضوع بعد عشريتين من الزمن على كتابة مؤلفه نظرية الرواية، وبعد أن انتقل إلى التبني الكلي لمقولات الماركسية حيث غرق بعد انتقاله إلى موسكو عقب الحرب العالمية الأولى في العمل السياسي وفي دراسات حول الفلسفة السياسية، عاد لموضع الرواية " في عام 1934 حين كان مقيما في موسكو، ليكتب دراسة أثارت جدلا عنوانها: تقرير حول الرواية. وبعد عام عاد إلى دراسته، مطورا عناصرها الأساسية ومحتفظا بها في آن، حيث أخذت هذه المرة عنوانا مختلفا هو: الرواية كملحمة بورجوازية "()، حيث انقلب فيه على نصه السابق: " نظرية الرواية" واصفا إياه بالرجعية، وقام بتقديم منظور ماركسي محض للرواية.
إن الأفكار التي قدمها لوكاتش في كتابه نظرية الرواية وكذا في كتابه الآخر: " التاريخ والوعي الطبقي " سيأتي عالم الاجتماع الفرنسي ذو الأصل الروماني لوسيان غولدمان ويبني عليها مشروعه حول سوسيولوجية الرواية ومنهجيته النقدية الموسومة بالبنيوية التكوينية.
ــــــــــــــــ
للموضوع مراجع

conter