الجمعة، نوفمبر 27، 2015

مصطلحات جزائرية: الزوفري


يقول المثل: ما يتهنى الزوفري من همو حتى يلقى البايرة اللي تلمو.
فالزوفري في المخيال لجمعي شخص منذور للبؤس والشقاء، وأقصى ما يمكن أن يحصل عليه من نعم ومتع الدنيا هو بايرة تمنحه بعض الدفء وبعض الأولاد الذين غالبا ما سيتبعون مسار أبيهم ويتشربون معاناته ويتوارثونها. كان ذلك المصير هو المسلك المتوقع والسائد الذي عاشت في ظل إكراهاته أجيال من الزوافرة منذ بدايات تشكل الظاهرة في الجزائر بعد 1870.
أصل الكلمة مأخوذ عن كلمة "ouvrier" الفرنسية التي تعني العامل، ولكنها بشكل أكثر تحديدا العامل اليدوي الذي يبادل عرقه وجهده بقوت يومه، لهذا ارتبطت في المخيال الشعبي بالأعمال الأكثر شقاء وتدنيا في سلم التراتبية الاجتماعية (الحمالون في الموانيء، العمال الزراعيين في مزارع الكولون، ولاحقا العمال المهاجرون في فرنسا والذين كانوا يشتغلون في المصانع والمنشآت التي تتطلب جهدا مضنيا في مقابل حصولهم على رواتب جد متدنية). تحول كلمة ouvrier إلى زوفري ارتبط بتحول في معناها أيضا، فقد صارت تعني على الأرجح الصعلوك، وفي بداية تفكيك البنى التقليدية للمجتمع الجزائري بعد 1871 كان الصعلوك هو كل خارج عن قبيلته، سواء مطرودا كعقوبة على ارتكاب جريمة أو جناية لا تغتفر، وهذا هو الغالب، أو فارا بسبب رفضه التأقلم مع نظام القبيلة الذي يقيد الحرية الفردية لأبعد الحدود. فالكلمة " استعملت من طرف عامة الناس لتشير إلى أولئك الأفراد الذين يغادرون قبائلهم في اتجاه مزارع المعمرين للعمل كأجراء، وهذا الطلاق بين الفرد وقبيلته والعيش بدون أسرة، جعلت نظرة القبيلة نحو هذا الفرد تتحول إلى نظرة سلبية وتحول معها مصطلخ "ouvrier " إلى " زوفري"، بمعنى الصعلوك أو المتسكع الذي خرج عن العادات والتقاليد وأخلاق القبيلة وأصبح يعيش حياة مختلفة عن تلك التي ترعرع فيها" . وفي الوقت الذي كان شعور الزوفري يزداد حدة بأن قبيلته قد تخلت عنه، وأنه صار فردا مفردا متروكا ليواجه مصيره وحده في عالم تسيطر على وسائل الإنتاج فيه قوة خارجية ( المعمرين، والإدارة الاستعمارية)، كان عدد كبير من الجزائريين يلتحقون بمزارع الكروم، ليس كأفراد كما كان عليه الحال سابقا في المرحلة الأولى لبروز أولئك الصعاليك، إنما كجماعات ذات انتماء قبلي واحد؛ وهم أولئك الذين انتزعت منهم أراضيهم وطردوا من السهول نحو الجبال القاحلة التي لم تكن قادرة، بسبب طبيعتها الجرداء والوعرة، على توفير لقمة العيش لعدد كبير من الأفراد لم يمارسوا طوال حياتهم سوى الزراعة والرعي، لهذا كان توجههم طبيعيا نحو المزارع الكبيرة التي كانت تزداد اتساعا ونموا بفضل التوسع في زراعة الكروم الذي يعد ركيزة الاقتصاد الكولونيالي في الجزائر، ليتحولوا إلى زوافرة وخماسة، ويتجه بعضهم ليصيروا عمال يدويين وحرفيين في المدن التي أنشأها الاستعمار، وخاصة في الموانئ كحمالين وبنائين، وعمال (زوافرة ) المدن هم الذين سيشكلون النواة الأولى للمهاجرين الجزائريين في فرنسا، والذين أخذ عددهم في التزايد بشكل ملفت منذ الحرب العالمية الأولى، وفي أوساطهم ستنشأ وتتطور الوطنية الجزائرية الراديكالية المطالبة بالاستقلال مع حزب نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب لاحقا .
وما يجدر الإشارة إليه في سياق الحديث عن الزوفري كفاعل أساسي في تشكل الوطنية الجزائرية، هو أن المناطق التي انتشر فيها الزوافرة واستقروا بشكل كبير بعد أن أوجدت الظروف المشتركة بينهم رابطة انتمائية قائمة على التضامن، كسهول المتيجة التي طردت منها القبائل الأصيلة التي كانت تسكنها واستولى عليها المعمرون وصارت تحتوي على مزارع شاسعة تحتاج لأيادي عاملة كثيرة ودائمة، هي مناطق غابت عنها بعد الاستقلال البنية القبلية، وكان لهذا الغياب نتائج كارثية خلال عشرية التسعينات، حيث أن أغلب المجازور الجماعية " تركزت بالدرجة الأولى في هذه السهول والمناطق المجاورة لها لأن الفرد هنا... اكتشف حقيقة الأب الروحي [الداعية، صاحب المشروع السياسي المستمد من الشريعة] ووجد وسيلة للتعبير عن التضامن الاجتماعي في مفهوم الجهاد الذي يلغي كل التفرقة بين الأفراد والقبائل" فالكل سواسية، وهذا تعبير معكوس عن رغبة انتقامية دفينة من القبيلة التي حرمته دفء الانتماء في مرحلة سابقة، فالأصول المعروفة والقرابة المعترف بها، والمصانة ضمن قيم تضامينة شديدة الإلزامية، غالبا ما شكلت ذرع حماية للأفراد من الزيغ الاجتماعي..


السبت، نوفمبر 21، 2015

فضاءات مفتوحة ووعي منغلق




في المدن الكبيرة هناك ما نسميه بالغفلية المدائنية، أي ارتخاء الرقابة الاجتماعية على المرأة التي تجد حرية الحركة والفعل بعيد عن نظرات الإدانة التي تترصدها في محيطها الضيق وتعقب كل تصرف قد يوصف، أو يتم تأويله لاحقا، بأنه تصرف غير محترم أو طائش. في المدن التي يزيد فيها عدد النساء العاملات بنسبة كبيرة، وتتمتع فيها نساء الطبقات الوسطى بوضع امتيازي مقارنة بنساء الطبقة الوسطى فيالمدن الصغيرة والأرياف، تجد المرأة نفسها أكثر تحررا، وبالتالي أكثر رغبة، في بناء علاقات جديدة، وأحيانا علاقات متعددة، أو حتى متعارضة: علاقات مهنية، علاقات صداقة، علاقات حب، نزوات، دون أن تشعر بأنها مهددة بدفع ثمن باهظ مقابل انخراطها في بعض تلك العلاقات، خاصة في الحالات التي تتخللها علاقات جنسية. إن المرأة في ظل هذا الوضع المرتخي رقابيا، تتجه نحو تبني أخلاقيات وقيم ذاتية بعيدا عن القولبة التي يمارسها الضبط الاجتماعي، وهذا ما يجعلها تعمل، إنطلاقا من تجارب خاصة وما ينتج عنها من وعي، على بناء علاقات ذاتية مع جسدها التي تشعر، كلما حضيت بوضع اقتصادي أفضل وكلما ابتعدت أكثر عن الرقابة الصارمة للجماعة ( القبيلة، العائلة، الأهل ...)، بأنه ملكية خاصة بعيدا عن التنميط الاجتماعي شديد القوة للجسد الأنثوي في المجتمعات ذات الثقافة التقليدية كمجتمعنا الجزائري، وهذا الوعي المحدث بالجسد الذي ساعدت الفضاءات الحضرية المفتوحة وثقافتها على تشكيله يجعل المرأة نفسها، ورغم ما صارت تتمتع به من حرية ومن وضع اقتصادي يتيح لها إمكانية الاستقلال التام عن العائلة، تشعر بمأزق نفسي إزاء تصوراتها المحدثة التي انبنت نتيجة سيرورة غالبا ما تبتديء من مرحلة الثانوية وتتعزز مع انتقال المرأة للعمل وتموضعها في المجال العام كعضو فاعل ومستفيد مما يتيحه ذلك المجال ( الذي هو الفضاء المديني المفتوح) من إمكانات لتحقيق الذات بشكل مستقل عن العائلة وجماعات الانتماء القرابية، مأزق ينتج بسبب قوة التربية الأبوية التي تجعل المرأة تعيش انفصاما بين فضاء مفتوح في الخارج بكل ما يتيحه وما يسمح به، وفضاء مغلق نسبيا داخل المنزل رغم ارتخاء قيمه القامعة للمرأة بسبب وضعها الاقتصادي غالبا الذي يمنحها قوة اتجاه الأبوية التي يمثلها الأب والأخ داخل المنزل. هذا المأزق النفسي غالبا ما يؤدي إلى نكوص وردة إزاء التصورات المحدثة التي اكتسبتها الفتاة في عشرينياتها الصاخبة، فكلما تجاوزت البنت سن الثلاثين صارت أكثر ميلا للاحتماء بالعائلة وأكثر شعورا بالحاجة إلى إرضاء القيم العائلية التي لا تزال تساهم بشكل كبير، رغم قوة التحديث داخل المدن خاصة، في تشكيل وعي بالتبعية لدى المرأة الجزائرية، تبعية لا تشعر الجزائرية بالأمان إلا في ظلها. هذه التبعية التي تجد لها جذورا نفسية عميقة لدى الفرد الجزائري عامة، كرسها قيم تربوية شديدة القوة والنفوذ لأنها تنتمي للأصل وللهوية الحاضنة لميولات ورغبات الأفراد مهما تشتت واتسع نطاقها، هي التي تعطي تفسيرا لواقع اجتماعي يبدو للناظر من خارج المجتمع الجزائري بأنه متناقض أو غير سوي واقع يخبرنا بأن هناك عدد كبير من النساء العاملات والمستقلات اقتصاديا بشكل تام، في مقابل عدد قليل جدا من النساء المستقلات عن العائلة في مجال السكن. فالمرأة صاحبة بيت مستقل تقيم فيه لوحدها، هي عادة غير جزائرية رغم توفر كل الظروف التي تجعلها ممكنة.

conter