السبت، ديسمبر 24، 2016

قوامات بما انفقن

هناك تغيرات اجتماعية متسارعة تحدث بسبب الإقتحام المتزايد للمرأة لسوق العمل، المراة الجزائرية التي لا تؤمن بالعلم لذاته بمقدار ما تتخذه وسيلة للتحرر الاجتماعي والخروج عن سلطة العائلة، قد استطاعت عبر الشهادة الجامعية، وعبر الوظيفة لاحقا من قلب ميزان العلاقات داخل الأسرة بشكل هاديء ولكن فعال، وخاطف لم يستطع الرجال مقاومته لأنه لم ينتبهوا أصلا لسيرورة حدوثه خلال جيل واحد، فخلال 15 سنة الأخيرة صارت أرقام التعليم وسوق العمل ونصيب الفرد من الدخل كلها لصالح المرأة، في وقت تراجع الرجال إلى الخلف بعد أن اساءوا الاختيار عبر حسابات خاطئة جعلتهم يرون في التعليم مجرد شهادة غير نافعة، وسبيلا غير مؤكدة لتحقيق الذات، ويرون في سنوات الدراسة مضيعة للوقت الذي يمكن استغلاله في الـ navigation " عبر نشاطات قليلة الجهد عالية المدخول مع أنها غير دائمة، وعقلية الـ navigation التي تعتمد على القفازة هي التي جعلت الشاب الجزائري لا يبحث عن عمل قار إلا بعد ان يتورط في الزواج والعائلة ويجد نفسه مجبرا على تحمل مسؤوليات مادية لا قبل له بها عبر اعماله التي لا توفر سوى المصروف. وبما أنه لا يمتلك غالبا لا شهادة ولا مؤهلات تمكنه من الحصول على وظيفة جيدة، ولا يملك مسكن ولا أساسيات الحياة الأسرية، فهو قد صار، وبشكل متزايد، يلجأ للاعتماد على المرأة كمصدر أساسي لدخل الأسرة، مع رفضه على المستوى القيمي والخطابي لفكرة أن تصرف عليه زوجته، وهذه الازدواجية التي تجعل الرجل خجلا من نفسه وغير قادر على تغيير الوضع الذي فرضته تغيرات اجتماعية لم يسهم لوحده كفرد في ايجادها انما اندرج، حتى دون رغبة منه، في الخضوع لمنقطها، والانسياق خلف التغيرات المتسارعة والتي دعمتها قوانين منحازة، ونظام تشغيل منحاز جنسيا لصالح المرأة في القطاعات التي تستوعب أكبر عدد من الوظائف الجديدة سنويا ( التعليم والصحة والإدارة العمومية). لهذا لا نستغرب الإحصائيات التي تطالعنا بها الهيئات المتخصصة سنويا فيما يخص واقع الشغل بالجزائر والتي تقول بأن الجامعة قد تأنثت بشكل شبه كامل في الكثير من التخصصات، وحتى فيما يخص التخصصات التقنية التي كانت ذات ميزة رجالية واضحة نلحظ غزوا نسائيا ناعما لها، وأن 70 بالمائة من المحامين نساء و60 بالمائة من القضاة نساء ايضا وان نسبة الرجال في مستويات التعليم تقل كلما نزلنا في المستوى، فإذا كانت هيئة التدريس بالجامعة لا تزال تحفظ نوعا من التوازن بين الجنسين، فإن الثانويات والمتوسطات هي مجال احتكار نسائي واضح، وهو الاحتكار يرتفع في المستوى الابتدائي الذي لا نكاد نعثر فيه على الرجال إلا فيما نذر، ونفس الأمر بالنسبة لقطاع الصحة. هذه التغيرات وإن كانت لها إيجابيات على مستوى التحديث المجتمعي، ونشر قيم الحداثة التي لا يمكن أن تتأسس بعمق في البنية المجتمعية دون سند اقتصادي يرفدها ويمكن قيمها من التغلل كأمر واقع، وتفكيك الثقافة الابوية القامعة للحداثة في مجتمعنا، فإنها تؤدي على المستوى القريب إلى حدوث شروخات اجتماعية حادة بسبب الرفض القيمي لنتائج هذه التغيرات، حيث لا تزال القيم الثقافية والدينية والخطابات الاجتماعية التي تتبناها النساء انفسهن في الكثير من الحالات، هي خطابات تمجد القوامة الرجالية، ولا تعترف بالمحدد الاقتصادي كمصدر للسلطة داخل الأسرة، أي أنها ثقافة ترفض أن يكون امتلاك المرأة لمصدر دخل ثابت وانفاقه على العائلة سببا في انقلاب الأدوار داخل الأسرة وسبيلا لتفتيت السلطة والقوامة الرجالية، مع أن هذا التفتيت لتلك السلطة الغاربة التي صارت في وضع دفاعي بالنسبة للكثير من العائلات، هو واقع معاش وإن كان غير مصرح به ولا معترف به علنا نظرا لحساسية الاعتراف الاجتماعي بفكرة "عيشة راجل" في المجال الاقتصادي والسلطوي داخل الاسرة.

السبت، نوفمبر 26، 2016

فقه الموسطاشات


الموسطاشة ابتكار جزائري لوصف حالة غير سوية لامرأة منظورا إليها بعين رجالية لا تقتصد في الإدانة متجاوزة الموجود والواقعي نحو المثال والمرتجى كلما تعلق الأمر بعلاقة بين المرأة والرجل في ظروف غير التي استبطنها الوعي الرجالي الذي لا يزال محكوما بتراتبية العلاقة، حيث الرجال رجال بما كسبوا وبما أنفقوا وبما كانت لهم من سلطة ونفوذ ومسموع الكلام اتجاه الحريم النسائي المحيط بهم، وحيث النساء نساء بما وهبن من جمال ودلال وبما اكتسبنه من خبرة ودراية بسبل الاعتناء بمتطلبات الرجل.
وحين يكون المثال المستبطن في المخيال الجمعي مفارقا لما يلتقي به الفرد في واقعه ومحيطه وعلاقاته، فإنه إما يتأقلم مع الواقع والموجود، وإما يرفضه ويدينه، رغم أنه مجبر على التعامل معه، منتصرا، بشكل هروبي، للمثال الخيالي المستبطن في عمق الوعي والمخيال الجمعي، ويبدو أن الحل الثاني هو الذي يلجأ إليه الأفراد في المجتمعات التي لم تحسم خياراتها اتجاه الحداثة وما تفرضه متطلبات العيش المشترك في مجتمع مجبر على تجاوز موروثاته القيمية والثقافية بشكل كبير إذا أراد التصالح مع واقعه

إن الرجل وهو يلتقي بحداثة عرجاء تفتح أمام حياته المثقلة بوعي بدوي سبلا جديدة وغير مألوفة فيختلط مع النساء ويعاملهن بشكل يومي وتنفتح أمامه فرص الخلوة والاختلاء، ولكنه يصدم حين يجد النموذج الانفتاحي الذي في ذهنه عن المجتمعات المختلطة يتصادم من جهة مع ما توفره له بيئته من علاقات مع الطرف الآخر، ومن جهة ثانية يتصادم مع النموذج المثالي الماضوي الذي يستبطنه عن بنت الفاميلية. 
من عمق هذه التصادمات التي يحتقبها وعي الرجل الجزائري ولد مفهوم الموسطاشة ، كمفهوم إجرائي لإدانة وضع غير سوي، ثم لاحقا تم سحب المفهوم على حالات كثيرة جعلت منه تهمة وصفة في نفس الوقت يمكن إطلاقها على الكثير من النساء المختلفات عن بعضهن البعض بشكل حاد. فالموساطشة كلمة ذات ثراء دلالي ملفت؛ إنها من جهة تلك التي لا تؤمن بالحب إلا إذا كان مرتبطا بمصلحة ما: زواج، انفاق، هدايا، علاقات لقضاء المصالح ... وكل من يحاول الخروج عن هذه النفعية في العاطفة يجابه بالعبارة السحرية:نحبك كي خويا.
إن الموساطشة في المجتمع الجزائري هي رسم كاركاتوري لواقع المرأة الجزائرية التي تفتقد أكثر ما تفتقد للأنوثة التي بها وعن طريقها تستطيع أن تكون امرأة وسط الرجال، أي أنثى يتنافس الرجال للفوز برضاها لا للسخرية منها كما هو حاصل الآن ويحصل بشكل أكثر اتساعا بمرور الوقت وازدياد انكشاف الوضع الذهني والنفسي الغير محبب للجزائرية عن طريق اتساع وسائل الاتصال وبالتالي التمكن أكثر من رسم صورة أكثر تنوعا لنسائنا اللواتي تتسم الموسطاشات منهن بميزة أساسية تتعين بكون ما يمتلكنه من إمكانيات ومؤهلات أقل بكثير مما يبدينه من أطماع وطموحات.
الموسطاشة قد تكون جميلة جدا، مع أن الكثيرين يعتقدون أن العبارة تحيل بشكل مباشر على القبيحات شكلا، ولكن التوصيف يتجاوز الشكل ليشمل صفات نفسية وخصائص اجتماعية، تتعين في حالة المرأة الجميلة بالطمع وقلة والوفاء والاعتقاد بأن الجمال وحده يغني عن كل ما عداه، فتكون الجميلة موسطاشة حين تسعى بجمالها لبلوغ مكانة ليست مؤهلة لبلوغها: منصب عمل، تحصيل منافع مادية بتوظيف وبذل الجمال أو الإيحاء بإمكان بذله، زواج غير متكافئ مع رجل له من الثقافة والمؤهلات الاجتماعة ما يجعله ستحق أفضل منها .... وكثير من الحالات غير السوية التي يكون انخراط المرأة الجميلة فيها مدعاة لوصفها بأنها موسطاشة. مع أن حالات الجميلات الموسطاشات قليلة مقارنة بالحالات الأبرز لنساء لم يؤتيهن الله جمال وجه ولا رقة خلق ولا خفة روح، فهو أقرب لخشونة الرجل في السلوك والقول وبرودة العواطف، ومن هذا الشبه نشأ مبرر التسمية الذي يحيل على الموسطاش وهو ميزة الرجل، ورمز رجولة تحيل على الحدة والخشونة، هذه الحدة والخشونة التي يكون توفرها مستحبا في الرجل، في حين تصير عيبا منفرا إذا توفرت في المرأة، وطبيعة التكوين النفسي للمرأة الجزائرية التي فرضت عليها الظروف التاريخية ( الحروب المتعددة خاصة ) أن تتسم ببعض الخشونة لمواجهة ظروف قاسية، ولكن تلك الخشونة انطبعت فيها واستقرت حتى بعد زوال الظروف الداعية لوجودها، ومع الانفتاح الاجتماعي وتزايد سبل الاتصال انكشف صفات السلب في الجزائرية خاصة وأن تلك الصفات غالبا ما تقارن بنماذج ميدوية تسوقها الأفلام والمسلسلات والروايات، وتقدمها بشكل مغري ومشتهى، عجزت إبداعاتنا الجزائرية: روايات، أفلام ومسلسلات، أغاني، عن إنتاج وتسويق البديل عنها، بل إنها عمقت الصورة السلبية عن المرأة الجزائرية، كامرأة غير عاطفية ونفعية، ووصولية، وغير ذات حس فني ولا ذوق تتميز به في المأكل والملبس، أي المرأة الموسطاشة بتعبير شباب الفايسبوك.

الأحد، نوفمبر 13، 2016

باختين والتاريخ الثقافي

كان باختين واحدا من المفكرين الأكثر تأثيرا، ولو بشكل غير مباشر، في مسار التاريخ الثقافي خاصة من خلال عمله الرائد: "إبداع فرانسوا رابليه والثقافة الهزلية الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة". هذا العمل  في أصله رسالة دكثوراه تقدم بها باختين للأكاديمية السوفياتية للعلوم سنة 1946، ولم تصدر ككتاب إلا سنة 1965 لكن سرعان ما نالت نجاح واهتمام كبيرين من طرف الباحثين خاصة في مجال النقد الأدبي، في بداية الأمر، ثم في مجالات الأنثروبولوج
يا والتاريخ الثقافي لاحقا، ولقد ترجمت هذه الرسالة إلى الانجليزية حاملة عنوانا ذو طبيعة أدبية: " رابليه وعالمه" سنة 1986، ولم تنشر بالعربية إلا سنة 2015 تحت عنوان: "أعمال فرنسوا رابيليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة"
هذا العمل الذي انبتت عليه شهرة باختين في مجال التاريخ الثقافي، شكل، بالإضافة إلى بعض مفاهيمه كالحوارية وتعدد الأصوات، ركيزة أساسية في أعمال الكثير من المؤرخين الثقافيين. عمل باختين من خلاله على رسم صورة بانورامية عن " أشكال الشعائر والطقوس والعروض الفولكلورية والاحتفالات الشعبية والكرنفالات وأدب النجاسة، والأسفل الجسدي، والمأدبة وغيرها من الصور التي سادت خلال القرون الوسطى وإبان عصر النهضة، وذلك من خلال الكشف عن أعمال رابليه التي تتجلى فيها تمظهرات الثقافة الهزلية للمرحلة، إذ تعكس بشكل صارخ الإيماءات والحركات والأقوال والأمثال والمقالب والحماقات والنبوءات الشعبية، التي استقاها مباشرة من أفواه البسطاء والمجانين من عامة الشعب في الساحات العمومية"([1]). واستفادة التاريخ الثقافي من المفاهيم والتصورات الباختينة المتعلقة بأشكال التعبير الشعبية كانت كبيرة وتأثيرها كان من الشساعة بحيث يمكن تلمسه لدى الكثير من المؤرخين الثقافيين، فقد شكلت الاشتغالات الباختينية حول مواضيع مثل " الكرنافالية (carnivalizatio ) و"خلع العروش"  (uncrowing ) و"لغة الأسواق"، و"الواقعية الغرائبية" (grotesque realisme ) التي تخلط بين الرعب والسخرية"([2]) مواضيع بحث مستقلة حينا، وحينا آخر مصادر ذات ثراء لا ينضب له معين لاستقاء المادة التاريخية المقصاة من كتب التاريخ الرسمية المرتبطة بالسلطة واستراتجياتها، كما أنها شكلت المجالات لأرحب لدراسة ثقافة المهمشين التي تعد واحدة من أهم مواضيع التاريخ الثقافي، حيث أن أشكال التعبير الأدبية ذات الصبغة الشعبية، وبالإضافة لفعاليتها في دراسة الأدب الشعبي والأنثروبولوجيا، أمدت التاريخ الثقافي المأخوذ بمناهج الأنثروبولوجيا ومفاهيمها، خاصة أنثروبولوجيا غيرتز، بمواضيع ومفاهيم ومجالات قائمة على تصور مغاير، وحديث، لمفهوم الوثيقة التاريخية ولدلالة المصدر التاريخي، والتي صار يمكن التقاطها مباشرة من أفواه الناس، ليس كشهادات فقط، إنما  كترنيمات وأحاجي ونكت وأغاني وسباب وشتم وأمثال وألعاب، وألبسة احتفالية ... وكل ما ينتجه العوام وهم ينخرطون في حياتهم ويمارسون طقوسهم واحتفالياتهم المختلفة، تلك الطقوس والاحتفاليات التي درسها باختين باقتدار مشهود، معتمدا، وناقدا في الوقت نفسه، على أعمال رابليه، وعلى الكثير من الدراسات الرابلية التي ازدهرت، في فرنسا خاصة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقبل ذلك بقليل. لم تكن " دراسة الكرنفلات الشعبية، والمواكب الساخرة وغيرها التي تعبر عن الثقافة الشعبية وما تحمله من عقائد وطقوس سائدة"([3])؛ أي أشكال التعبير الأدبي هي مجال الاستفادة الوحيد الذي أمدّ به باختين حقل التاريخ الثقافي، فقد شكل مفهوم تعدد الأصوات، والذي يشير عند باختين إلى تعدد الإيدلوجيات التي تصدر عنها الخطابات المختلفة، والتي "عبر عنها بثلاث مصطلحات متلازمة هي: heteroglossia, polyglossian polyphony  " ([4]) والتي يقابلها ممصطلح آخر هو الحوارية Dialogisme والذي شكل لبنة أساسية في باختين النقدي الذي امتدت أثاره خارج مجال النقد الأدبي، وقد شبه بيتر بورك تعدية الأصوات " بوثائق الأنا ego_dovuments) ) التاريخية المكتوبة بضمير المتكلم، التي تحوي حوارات لأصوات متعددة"([5]) مما يسمح لمختلف الأفكار والتصورات من التعبير عن نفسها داخل الخطاب الذي يتخذ أشكالا متعددة، رغم أن باختين في سياق حديثه عن الحوارية وتعدد الأصوات كان بصدد التأكيد على خاصية أساسية للخطاب لروائي حصرا، ولم يشمل اهتمامه أشكال التعبير الأخرى التي أولاها عناية كبيرة في كتابه عن رابليه المذكور أعلاه، والذي يظل غير مستنفذ الفائدة بالنسبة للتاريخ الثقافي.






السبت، نوفمبر 12، 2016

السيد ظروفي: الأديب الشاب الواعد



يبدو أن الكتابة الأدبية صارت كالدابة الشاردة الكل يعتقد أن له الحق في امتطائها، لدرجة أن صار كل من يجيد رصف مجموعة كلمات بعضها لبعض يعتقد أنه كاتب، وأنه سيظهر يوما على العالم بمؤلفاته العظيمة.
أقول هذا الكلام وأنا أطالع بعض الخربشات التي لا يمكن وصفها سوى بأنها غبية وتافهة لأحد المعتوهين الذي أتاني منذ أيام للمكتبة ليحدثني عن مشروعه الكبير لإصدار كتاب يناقش أعقد قضايا الأمة العربية، مستشيرا أياي عن أفضل الناشرين وأكثرهم احترافية من أجل نشر كتابه الذي أكد لي أنه سيكون له تأثير كبير، الأمر الذي دفعني إلى طلب الإطلاع عليه إن كان ذلك ممكنا، وهو ما حدث، حيث زودني صاحبنا بنسخة الكترونية مكتوبة على الوورد من كتابه الذي اتضح انه لا يتجاوز 40 صفحة، وأنه يحكي عن المواقع المحرمة وما شابهها بأسلوب دروس الوعظ والإرشاد المصاغة بأساليب إنشائية فجة طلقها حتى تلاميذ المتوسط والثانوي.
هذا السيد الذي يعتقد أنه نبي أتى لتطهير النفوس من التيه والضلال لا يختلف عن إحدى السيدات التي أتتني المكتبة أيضا تبحث عن نصوص مسرحية جزائرية، وقدمت نفسها لي بأنها روائية وكاتبة قصة وشاعرة وناقدة، وقد طلب منها، ولا أدري من ذا الذي طلب منها، أن تكتب المسرحية أيضا لهذا تريد أخذ فكرة عن كيفية كتابة المسرحية لكي تنسج على منوالها، لأكتشف بعد حديث قصير معها بأن هاذ المخلوقة لا تزال ثقافتها الأدبية في مرحلة مكر مفر مقبل مدبر كجلمود صخر.

هذه المخلوقة التي تعتقد بأن الرواية هي حديث عن المشاكل الاجتماعية كالطلاق والخيانة، ذكرتني بالسيد ظروفي كأول أديب مدرح عرفته في حياتي، وهو شخصية طريفة جدا من أدعياء الأدب والفكر الذين قد يكون عشقهم للأدب أصيلا، لكن قدرتهم على كتابته معدومة ومستحيلة، كان السيد ظروفي صحفيا، ويقدم نفسه دائما كصحفي مع أنه في الحقيقة مجرد راقن بجريدة، وحين كنا نلتقي بمقهى الآغا قبل إغلاقه كان يصر دوما على أن يقرأ لنا نصوصه  القصصية التي تجعلنا ندخل في هيستيريا ضحكلا ينتهي إلا بعد ان يرمقنا الحضور بنظرات استهجان واستغراب، لأنها غالبا ما تبدأ بداية رومانسية حالمة بأسلوب شفاف وتنتهي بمشاكله الاجتماعية كغريب عن العاصمة لا يجد مكانا للمبيت وحين يشعر بالتعب لا يستطيع الذهاب للفندق الحقير الذي ينام فيه لأن الفندق الذي هو في أصله حمام لا يفتح للزبائن إلا بعد الخامسة مساءا، وكانت كل قصصه تحكي بأسلوب  تقريري تلك المأساة اليومية التي يعيشها، ونظرا لكثرة شكواه من الظروف فقد أسميناه السيد ظروفي، وهو الإسم الذي أتذكره له بعد أن نسيت إسمه الحقيقي، وللعلم فالسيد ظروفي كان يؤمن بأنه يوما ما سيصبح كاتبا كبيرا لأنه قرأ مرة أن غابرييل غارسيا ماركيز كان يعيش نفس الظروف الصعبة، وتشبيه نفسه بماركيز مصيبة أخرى تنضاف لبلاويه التي لا تنتهي كأديب شاب وواعد حسب التعبير الساخر لأحد أصدقائنا.

الخميس، سبتمبر 01، 2016

الوحم الشيشة والسلفية

اتصل بي صديق من الفرقة الناجية، صديق قديم، قريب جدا لم يؤثر تحوله إلى سلفي متلحين على علاقاتنا التي بقيت خارج تلك التصنيفات الإقصائية، مع أنه أيضا لم يكن سلفيا بذلك المعنى المتجهّم، فقد ظل كما عرفته منذ أيام الثانوية ضحوكا فحشوشا يطرب لأحاديث البلاوي، خاصة لما تكون ضمن المجالس الحميمية الآمنة التي تجمعنا بين الحين والآخر. اتصل بي ودون أحاديث جانبية قال: نفحتلي على شيشة ودورت كل جيجل لم أجد محلا يبيع الرنجيلة، وحتى على الكورنيش لا أثر للخيم التي تقدم الشيشة هذا العام، ولأننا نملك ماض مجيد مع التشياش الذي بدأناه سويا قبل 11 سنة، كان يعتقد أنني الوحيد الذي أستطيع مساعدته في أمر الحصول على شيشة، وبما أنني انقطعت عن التشياش منذ سنين بعد انقطاعي عن التدخين فلم تكن لدي أية فكرة عن أماكن تواجد الرنجيلة. أنهينا الاتصال على أساس أنني اذا ما تذكرت أو عرفت شيئا يمكن أن يفيده في أمر نفحته سأعاود الاتصال به، غدا ليلا وبنفس التوقيت تقريبا عاود الاتصال لنفس الأمر، لكنه كان يبدو متوترا بعد أن جاب جيجل وضواحيها زنقة زنقة بحثا عن الشيشة دون فائدة، لكنه هذه المرة صارحني بحقيقة الأمر: المرا راهي تتوحم ونفحتها على شيشة واليوم قالتلي لو ما نجيبهاش غير ما ندخلش للدار. بعد وصلة ضحك أنهاها بقوله: واش يدير الميت في يد غسالو، أخذت الأمر بجدية باعتباره متعلق بالإبن المستقبلي لصديق العمر ولا يمكن التخلي عنه في مثل هذا الأمر، ولحسن الحظ كان العمدة، أخي الأصغر، قريبا مني واستمع للحديث وكان يعرف مكان تواجد الشيشة بإحدى المقاهي الشاطئية بتاسوست، فأخبرني وأخبرت صديقي السلفي الذي اتجه مباشرة لعين المكان وساهمنا جميعا في أنقاذ طفل لم يولد بعد من أن يولد مقعر الرأس على شاكلة قرعة الرنجيلا في حالة لم يتم تلبية طلبات أمه المتوحمة، المشكلة أن أختي الكبرى، التي كان يفترض أن تتفهم أمر التوحم أكثر منا، قالت ساخطة، بنات هاذ الجيل جاحو حتى في الوحم ديالهم، والله وجيت أنا في بلاصتو ما طاحتلها. قالت ذلك غاضبة فعلا بعد أن كانت تضحك لطرافة الموقف.

أساطير جزائرية: الزوالي




الزوالي شعار شعبوي،وهو إدعاء انتماء للذين قامت عليهم وبهم ومن أجلهم الثورة، ثورة الكادحين والفلاحين الذين مجدهم الخطاب الرسمي منذ الاستقلال باعتبارهم يشكون الجماهير التي قامت الثورة على أكتافها وقامت الدولة لخدمتها لاحقا، لهذا كان الانتساب للزوالية مفخرة من لدن الطامعين في المناصب والارتقاء السياسي أولئك القادرين على بيع الأوهام للشعب في المناسبات السياسية، فكل سياسي يزعم انه ابن زوالي، وكل من ارتقى يذكر أنه ابن زوالي كمفخرة، فالزوالي دائما فحل وما يرضاش الذل كما تقول الأغنية الشهيرة التي يدندن بها الزوالية الحقيقيين الذين يسهل على الطامحين والطامحين وأهل المصلحة أن يبيعوهم الوهم في كلمات تدغدغ رجولة مجروحة تحت وطأة الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يستنزف الكرامة يوميا.
الزوالي هو المقتنع بأن من حقه، ولو تحايلا، أن ينتفع من الخدمات الاجتماعية للدولة ( السكن، التعليم، العلاج، منحة التمدرس، قفة رمضان، منح الشيخوخة، والمعاقين والأمراض المزمنة ....الخ) وكل ما تمنحه الدولة لمواطنيها كنوع من التوزيع غير العادل للريع البترولي في مقابل ضمان ولائهم السياسي للنظام القائم، مؤمنا بأن كل ذلك هو جزء من "حقه في البترول". لهذا يكون الانتساب للزوالية وسيلة، تكاد تكون وحيدة بالنسبة للكثيرين، من أجل الحصول على ذلك "الحق" الذي يحتكر القريبون من مراكز السلطة والنفوذ الحق في أن يغرفوا منه وينتفعوا أكثر من غيرهم أضعافا مضاعفة ( قروض، رشاوي وعمولات، اختلاسات، ورواتب مضخمة ومدعمة بالمنح والعلاوات ...).
الزوالي أيضا هو ذلك الذي يرى في الوظيفة العمومية ( على هشاشة راتبها) مجرد شهرية وفي الشهرية حقه في الدولة، أو الريع الذي تحتكر حق توزيعه الدولة، لهذا يتحول الزوالي إلى مفهوم سوسيولوجي متجاوزا كونه مجرد توصيف لوضع اقتصادي سمته الهشاشة والبؤس تنتمي إليه فئات واسعة من أفراد المجتمع، إنه مفهوم مركزي في خطاب سياسي ظل لعقود متمركزا على الفلاحين والكادحين ( الزوالية)، أيضا مفهوم في سياق العلاقات الاجتماعية بين مختلف الفئات والطبقات التي تربطه بالقيم الريفية الأصيلية: الشرف، النيف، الرجلة ... كتعويض رمزي عن المهانة الواقعية التي يعانيها الزوالية، وهو تعويض قوي التأثير على العلاقة بين الطبقات، فالمجتمع الجزائري واحد من المجتمعات القليلة التي يستطبن فيها المواطن العادي، ذلك المطحون طبقيا في الكثير من المجتمعات، إحساسا قويا بالمساواة، لهذا نجد الأغنياء وأهل السلطة والمستربلون بالجاه والوجاهة أكثر تأكيدا على الروابط القرابية والجهوية "دون ترفّع" واضح على الفقراء وأهل منطقة الانتماء، هذا الوضع يعطي تفسيرا لعمليات الواسطة الكثيرة والمتعددة التي يقوم بها المتنفذون ومالكوا السلطة أو وسطاؤها لصالح أقربائهم ومعارفهم وأبناء منطقتهم، مهما كان مستواهم الاقتصادي، والأهم مهما كانت القرابة الدموية هشة، لأن الواسطة تقدم لابن الدشرة، ابن المنطقة، بغض النظر عن هويته.

عن الإسم

ث
بات الاسم، الإثم، الوشم، والصم الذي تشكل كلمة كانت هي المبتدأ فقالت التاريخ والمزايا والسجايا، وصفات الانتماء الذي يطيل كل واحد في شرحها وهو يتحدث عن الأصول العائلية التي ينتسب إليها إسما ودما. يظل ذلك الثبات رغم ما يعتريه من قدامة ميزة حداثية، والتغيير، كما يعاش افتراضيا عبر تغيير الاسم والهوية الافتراضية كل مرة تجديدا وهروبا من ماضي قصير لم يعد يعني صاحبه، يظل فوضى ما بعد حداثية حيث الدال يراوغ المدلول وينقلب عليه، وحيث الكلمات حمّالة أوجه لا تستقر على معنى إلا لتنقضه مرتحلة نحو معنى آخر يلوح لها من بعيد كعاشقة لعوب تغري بالوعد دون أن تحققه. ليس الثبات قدامة مرذولة، ولا الركون للمحدد آنفا وأبدا رجعية وانغلاق، حين يتعلق الأمر بالاسم، وصمنا الذي على الوجه، ورسمنا الذي على بطاقة الهوية، لا نكون بإزاء اختيارات كثيرة، فقط قد نبحث عن اسم رديف ليبقى الاسم الأصل متواريا حيث الرسميات وصدارة الشكليات المترصنة، الإسم وشم بادي للعيان ينهى عن النسيان وهو يؤبّد الهوية التي يحملها صاحبه، فالاسم كما وصفه النفري: مبتدأ الفتنة، وهو تمام اكتمالها حين يختصر الكل في كلمة تخبر عن التفاصيل كلها وتنوب عنها. ويبقى للاسم الثاني اسم الشلة، اسم الدلع اسم، العائلة الثاني الذي ينادى به الشخص تحببا، هو القريب من النفس هو حامل الدلالة الاجتماعية الأعمق وهو الأكثر لصوقا بالأنا حتى وإن راوغه نسيان، أو خالطه كذب وبهتان ونحن نتجاوزه إلى غيره حين ننخرط في بعض العلاقات العابرة التي نهيء لها اسما ووسما وصفات عابرة، مؤقتة، غير حقيقة، وإن كانت منا وفينا، تلك العلاقات العابرة التي نغيير فيها الاسم، نكذب في محددات الهوية لننخرط في النزوى واللهو مسكونين بإحساس العبور بين الكلمات التي نقولها ولا نعنيها، والوعود التي نعرف أننا لن نعمل على تحقيقها، فهي تقال فقط لذاتها، تقال لنزين بها بهاء اللحظة وجبروت النزوى التي تمضي إلى تمامها مجللة بالأكاذيب والوعود التي لا إسم لها.


conter