الاثنين، ديسمبر 14، 2015

التنافر والانسجام


تكتب رواية البطل الإشكالي إنسانا يئن تحت العبء الوجودي للتنافر discordance مما يكسبه وعيا شقيا يجعله لا يلتقي بما يؤمن به في واقعه، فيكون البحث المستمر هو عنوان حياته الأبرز، على العكس من ذلك تكون الروايات الوجدانية والعاطفية متصالحة مع الواقع والتي ما هي في النهاية سوى إعادة إنتاج سردي لرؤية شعرية تستدعي التوافق concordance وتمجده. إنها تمنح راحة البال للقاريء، وهي لا تختلف كثيرا عن دروس وتعاليم التنمية البشرية التي تحل كل مشاكل الفرد في جملة عبارات، اختصارها أنت تستطيع. تلتقي هذه الرؤية التوافقية أيضا مع الرؤية الدينية ذات الطابع المعياري والتي غالبا ما تسوق حلولا جاهزة ومعلبة لكل المشاكل المطروحة على الفرد والمجتمع، وفي أحيان كثيرة حل واحد لمجموعة مشاكل تبدو متنافرة ولا رابط بينها. انها تنتج رؤى وتسوق خطابات مريحة، ومع أنها غير منتجة في الواقع الاجتماعي إلا كتسكين، إلا أنها مقبولة وغالبا ما يقبل عليها الأفراد ويتعاطونها كحلول مقدسة، ومقنعة، وهذا هو الغريب. على العكس من ذلك تقف الخطابات العلمية، وخطابات العلوم الاجتماعية خاصة التي تشترك مع تصور روايات البطل الإشكالي، في كونها فاقدة للثقة واليقين في القدرة على الجزم والوصول لنتائج لها طابع الديمومة، وبالتالي عاجزة عن تسويق ملاءمتها للواقع الاجتماعي ومشاكله وأزماته كخطابات مقنعة تحضى بقبول جماعي، رغم مردوديتها النسبية وقدرتها على إيجاد الحلول الجزئية والطويلة الأمد، الحلول التي لا تعبد الطريق إنما تشير إليه. تقف تلك الخطابات وحيدة مشكوك فيها ومنظور إليها بارتياب، ومجتنبة من طرف المجتمع الذي لا يبحث عن حلول يتعب في الوصول إليها والصبر على عنتها وتضحياتها، إنما تغريه الحلول الجاهزة التي تسوق في خطابات براقة تقنعه بأنه قادر ويمكنه أن يفعل، دون أن تأخذ بيده لمبتدأ الفعل ومسيرته لطويلة. حين نلاحظ أن روايات المنفلوطي وجبران خليل جبران وعبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس وغيرها من الروايات الرومانسية التي تصور عالما ممكن التمثل بسهولة لا تزال تقرأ على نطاق واسع من طرف أجيال متتالية في الوطن العربي، نفس الأجيال التي تحجم عن، وتتجنب الاقتراب من روايات بوجدرة وصنع الله إبراهيم وعبد الرحمان منيف نفهم أننا لم ندخل بعد زمن الرواية لأننا لم ندخل بعد زمن الحداثة. زمن البحث الذي لا ينتهي عن حلول مبتكرة وأصيلة لمشاكلنا وأزماتنا الفردية والمجتمعية.

الجمعة، نوفمبر 27، 2015

مصطلحات جزائرية: الزوفري


يقول المثل: ما يتهنى الزوفري من همو حتى يلقى البايرة اللي تلمو.
فالزوفري في المخيال لجمعي شخص منذور للبؤس والشقاء، وأقصى ما يمكن أن يحصل عليه من نعم ومتع الدنيا هو بايرة تمنحه بعض الدفء وبعض الأولاد الذين غالبا ما سيتبعون مسار أبيهم ويتشربون معاناته ويتوارثونها. كان ذلك المصير هو المسلك المتوقع والسائد الذي عاشت في ظل إكراهاته أجيال من الزوافرة منذ بدايات تشكل الظاهرة في الجزائر بعد 1870.
أصل الكلمة مأخوذ عن كلمة "ouvrier" الفرنسية التي تعني العامل، ولكنها بشكل أكثر تحديدا العامل اليدوي الذي يبادل عرقه وجهده بقوت يومه، لهذا ارتبطت في المخيال الشعبي بالأعمال الأكثر شقاء وتدنيا في سلم التراتبية الاجتماعية (الحمالون في الموانيء، العمال الزراعيين في مزارع الكولون، ولاحقا العمال المهاجرون في فرنسا والذين كانوا يشتغلون في المصانع والمنشآت التي تتطلب جهدا مضنيا في مقابل حصولهم على رواتب جد متدنية). تحول كلمة ouvrier إلى زوفري ارتبط بتحول في معناها أيضا، فقد صارت تعني على الأرجح الصعلوك، وفي بداية تفكيك البنى التقليدية للمجتمع الجزائري بعد 1871 كان الصعلوك هو كل خارج عن قبيلته، سواء مطرودا كعقوبة على ارتكاب جريمة أو جناية لا تغتفر، وهذا هو الغالب، أو فارا بسبب رفضه التأقلم مع نظام القبيلة الذي يقيد الحرية الفردية لأبعد الحدود. فالكلمة " استعملت من طرف عامة الناس لتشير إلى أولئك الأفراد الذين يغادرون قبائلهم في اتجاه مزارع المعمرين للعمل كأجراء، وهذا الطلاق بين الفرد وقبيلته والعيش بدون أسرة، جعلت نظرة القبيلة نحو هذا الفرد تتحول إلى نظرة سلبية وتحول معها مصطلخ "ouvrier " إلى " زوفري"، بمعنى الصعلوك أو المتسكع الذي خرج عن العادات والتقاليد وأخلاق القبيلة وأصبح يعيش حياة مختلفة عن تلك التي ترعرع فيها" . وفي الوقت الذي كان شعور الزوفري يزداد حدة بأن قبيلته قد تخلت عنه، وأنه صار فردا مفردا متروكا ليواجه مصيره وحده في عالم تسيطر على وسائل الإنتاج فيه قوة خارجية ( المعمرين، والإدارة الاستعمارية)، كان عدد كبير من الجزائريين يلتحقون بمزارع الكروم، ليس كأفراد كما كان عليه الحال سابقا في المرحلة الأولى لبروز أولئك الصعاليك، إنما كجماعات ذات انتماء قبلي واحد؛ وهم أولئك الذين انتزعت منهم أراضيهم وطردوا من السهول نحو الجبال القاحلة التي لم تكن قادرة، بسبب طبيعتها الجرداء والوعرة، على توفير لقمة العيش لعدد كبير من الأفراد لم يمارسوا طوال حياتهم سوى الزراعة والرعي، لهذا كان توجههم طبيعيا نحو المزارع الكبيرة التي كانت تزداد اتساعا ونموا بفضل التوسع في زراعة الكروم الذي يعد ركيزة الاقتصاد الكولونيالي في الجزائر، ليتحولوا إلى زوافرة وخماسة، ويتجه بعضهم ليصيروا عمال يدويين وحرفيين في المدن التي أنشأها الاستعمار، وخاصة في الموانئ كحمالين وبنائين، وعمال (زوافرة ) المدن هم الذين سيشكلون النواة الأولى للمهاجرين الجزائريين في فرنسا، والذين أخذ عددهم في التزايد بشكل ملفت منذ الحرب العالمية الأولى، وفي أوساطهم ستنشأ وتتطور الوطنية الجزائرية الراديكالية المطالبة بالاستقلال مع حزب نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب لاحقا .
وما يجدر الإشارة إليه في سياق الحديث عن الزوفري كفاعل أساسي في تشكل الوطنية الجزائرية، هو أن المناطق التي انتشر فيها الزوافرة واستقروا بشكل كبير بعد أن أوجدت الظروف المشتركة بينهم رابطة انتمائية قائمة على التضامن، كسهول المتيجة التي طردت منها القبائل الأصيلة التي كانت تسكنها واستولى عليها المعمرون وصارت تحتوي على مزارع شاسعة تحتاج لأيادي عاملة كثيرة ودائمة، هي مناطق غابت عنها بعد الاستقلال البنية القبلية، وكان لهذا الغياب نتائج كارثية خلال عشرية التسعينات، حيث أن أغلب المجازور الجماعية " تركزت بالدرجة الأولى في هذه السهول والمناطق المجاورة لها لأن الفرد هنا... اكتشف حقيقة الأب الروحي [الداعية، صاحب المشروع السياسي المستمد من الشريعة] ووجد وسيلة للتعبير عن التضامن الاجتماعي في مفهوم الجهاد الذي يلغي كل التفرقة بين الأفراد والقبائل" فالكل سواسية، وهذا تعبير معكوس عن رغبة انتقامية دفينة من القبيلة التي حرمته دفء الانتماء في مرحلة سابقة، فالأصول المعروفة والقرابة المعترف بها، والمصانة ضمن قيم تضامينة شديدة الإلزامية، غالبا ما شكلت ذرع حماية للأفراد من الزيغ الاجتماعي..


السبت، نوفمبر 21، 2015

فضاءات مفتوحة ووعي منغلق




في المدن الكبيرة هناك ما نسميه بالغفلية المدائنية، أي ارتخاء الرقابة الاجتماعية على المرأة التي تجد حرية الحركة والفعل بعيد عن نظرات الإدانة التي تترصدها في محيطها الضيق وتعقب كل تصرف قد يوصف، أو يتم تأويله لاحقا، بأنه تصرف غير محترم أو طائش. في المدن التي يزيد فيها عدد النساء العاملات بنسبة كبيرة، وتتمتع فيها نساء الطبقات الوسطى بوضع امتيازي مقارنة بنساء الطبقة الوسطى فيالمدن الصغيرة والأرياف، تجد المرأة نفسها أكثر تحررا، وبالتالي أكثر رغبة، في بناء علاقات جديدة، وأحيانا علاقات متعددة، أو حتى متعارضة: علاقات مهنية، علاقات صداقة، علاقات حب، نزوات، دون أن تشعر بأنها مهددة بدفع ثمن باهظ مقابل انخراطها في بعض تلك العلاقات، خاصة في الحالات التي تتخللها علاقات جنسية. إن المرأة في ظل هذا الوضع المرتخي رقابيا، تتجه نحو تبني أخلاقيات وقيم ذاتية بعيدا عن القولبة التي يمارسها الضبط الاجتماعي، وهذا ما يجعلها تعمل، إنطلاقا من تجارب خاصة وما ينتج عنها من وعي، على بناء علاقات ذاتية مع جسدها التي تشعر، كلما حضيت بوضع اقتصادي أفضل وكلما ابتعدت أكثر عن الرقابة الصارمة للجماعة ( القبيلة، العائلة، الأهل ...)، بأنه ملكية خاصة بعيدا عن التنميط الاجتماعي شديد القوة للجسد الأنثوي في المجتمعات ذات الثقافة التقليدية كمجتمعنا الجزائري، وهذا الوعي المحدث بالجسد الذي ساعدت الفضاءات الحضرية المفتوحة وثقافتها على تشكيله يجعل المرأة نفسها، ورغم ما صارت تتمتع به من حرية ومن وضع اقتصادي يتيح لها إمكانية الاستقلال التام عن العائلة، تشعر بمأزق نفسي إزاء تصوراتها المحدثة التي انبنت نتيجة سيرورة غالبا ما تبتديء من مرحلة الثانوية وتتعزز مع انتقال المرأة للعمل وتموضعها في المجال العام كعضو فاعل ومستفيد مما يتيحه ذلك المجال ( الذي هو الفضاء المديني المفتوح) من إمكانات لتحقيق الذات بشكل مستقل عن العائلة وجماعات الانتماء القرابية، مأزق ينتج بسبب قوة التربية الأبوية التي تجعل المرأة تعيش انفصاما بين فضاء مفتوح في الخارج بكل ما يتيحه وما يسمح به، وفضاء مغلق نسبيا داخل المنزل رغم ارتخاء قيمه القامعة للمرأة بسبب وضعها الاقتصادي غالبا الذي يمنحها قوة اتجاه الأبوية التي يمثلها الأب والأخ داخل المنزل. هذا المأزق النفسي غالبا ما يؤدي إلى نكوص وردة إزاء التصورات المحدثة التي اكتسبتها الفتاة في عشرينياتها الصاخبة، فكلما تجاوزت البنت سن الثلاثين صارت أكثر ميلا للاحتماء بالعائلة وأكثر شعورا بالحاجة إلى إرضاء القيم العائلية التي لا تزال تساهم بشكل كبير، رغم قوة التحديث داخل المدن خاصة، في تشكيل وعي بالتبعية لدى المرأة الجزائرية، تبعية لا تشعر الجزائرية بالأمان إلا في ظلها. هذه التبعية التي تجد لها جذورا نفسية عميقة لدى الفرد الجزائري عامة، كرسها قيم تربوية شديدة القوة والنفوذ لأنها تنتمي للأصل وللهوية الحاضنة لميولات ورغبات الأفراد مهما تشتت واتسع نطاقها، هي التي تعطي تفسيرا لواقع اجتماعي يبدو للناظر من خارج المجتمع الجزائري بأنه متناقض أو غير سوي واقع يخبرنا بأن هناك عدد كبير من النساء العاملات والمستقلات اقتصاديا بشكل تام، في مقابل عدد قليل جدا من النساء المستقلات عن العائلة في مجال السكن. فالمرأة صاحبة بيت مستقل تقيم فيه لوحدها، هي عادة غير جزائرية رغم توفر كل الظروف التي تجعلها ممكنة.

الجمعة، يونيو 19، 2015

الزواج المأزوم


هناك حالة من التذمر وعدم الشعور بالرضا التي تنتشر بقوة وتتزايد لدى فئات واسعة من النساء المتزوجات حديثا، وبالتالي فشل الكثير من الزواجات، حيث لا الرجل راضي عن زوجته ولا هي راضية عنه، لقد تغير وعي كل واحد اتجاه علاقته بالأخر لصالح نزعة تمجد شيئا من الحرية والاستقلالية والرغبة في خلق مساحة للحياة الخاصة، تكون للفرد وحده دون شريكه ( زوجه)، رغم كون هذه الرغبة في خلق تلك المساحة غالبا ما ينظر إليها من طرف الشريك كتمرد وكخروج عن القالب المتصور مسبقا للزواج ولدور كل طرف فيه ولمدى التشارك المطلوب، إن الزوج خاصة، ينظر لتلك الرغبة في الخصوصية التي تبديها زوجته كنوع من " الخيانة" أو كأحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إليها، لهذا ينظر بارتياب شديد لهذا الأمر خاصة في بداية العلاقة عبر الخطوبة وسنة الزواج الأولى قبل مجيء الأطفال الذي سيغير الكثير من الأمر.
لكن ما يعمق الأزمة بين الطرفين هو كون الإثنين لا يعبران صراحة عما يريدان، بل، وهذا هو الأسوأ، يقولان عكس ما يضمران، وما يرغبان فيه فعلا وحقا، حيث لا يعترفان ولا يتصارحان بما يريدان خوفا من سوء التأويل، وإساءة الفهم التي قد تعمق المشكلة التي يحس كل طرف في بداية العلاقة بأنها أصلا عميقة وتهدد بشكل جدي استمرارية الزواج، لهذا نجد أن المرأة تتحدث بصوت جدتها ويتكلم الرجل بعقل أبيه، لكن كل واحد منهما يسلك سلوكا مغايرا لما يقوله، وينتظر من الأخر أن يكون صادقا فيما يقول ومخلصا لما يعلنه من أفكار والتزامات،دون أن يشعر هو أنه ملتزم بتنفيذ قوله السابق.
هذه إشكالية المجتمعات التي تعيش حداثة هجينة، تمجد الماضي قولا وتتجاوزه فعلا، وتحاكم فعل الحاضر بقيم الماضي، وهذا ما يخلق الأزمة التي تتعمق وتفتت الكثير من العلاقات التي كانت في الماضي تحضى بديمومة ومتانة لا يطالها تصدع، وصارت الآن هشة وتجابه دوما بعدم الرضا والتذمر من مختلف الأطراف الذين يشكلون أطراف تلك العلاقة، خاصة في موضوع الزواج، فكل امرأة تقبل فرحة على عش الزوجية غالبا ما تصاب بخيبة ولا يمضي عام حتى تبدأ في البحث عن تنفيس لتلك الخيبة قد يكون الطلاق وقد تكون المشاكل التي لا تنتهي وقد يكون قمع رغباتها وتطلعاتها بشكل حاد، وقد يكون شيء من البراغماتية التي ترضي الزوج في البيت وترضي رغباتها في الخارج بما في ذلك الخارج الافتراضي، وعلاقاتنا الفايسبوكية تطلعنا يوميا عن الكثير من حالات الخيبة ومن النساء المتذمرات، كما تطلعنا على الكثير من الرجال الخائنين والذين حسموا أمرهم بأن الزوجة صارت تعني بيت وطبخ وأولاد وأنه لم يعد قادرا على الالتزام اتجاهها بأكثر من المتطلبات البيولوجية والتمظهر الاجتماعي، أما نفسيا فإنه يبحث عن ملاذ وسلوى بعد خيبته في الزوجة التي لم تكن كما توقع وانتظر. هذه الحالة المتشنجة غالبا ما تكون بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية وهشاشة التكوين النفسي للكثيرين، سببا في انتشار الطلاق كظاهرة في طريقها للتطبيع في المجتمع الجزائري الذي لم يعد ينظر للمرأة المطلقة كأنها فضيحة كما في السابق، بعد أن صار عدد المطلقات والمطلقين يتزايد بشكل كبير وملحوظ خلال السنوات الأخيرة، خاصة في المدن وبين فئة النساء المتعلمات / المتطلعات اللواتي يتمتعن باستقلال اقتصادي يجعلهن يشعرن بكرامة زائدة اتجاه العلاقة الزوجية التي تبدو لهن، بشكلها الحالي الذي ينتظم ضمن قيم ماضوية رغم حداثة مظهره، مبنية على امتهان للمرأة واحتقار لدورها كشريك في بناء الأسرة، خاصة مع تزايد مساهمتها في الجانب الاقتصادي للأسرة، وهذا ما يعمق حالة عدم الرضا والتذمر والشعور بالخيبة التي لا تستطيع الأمهات والجدات، تفهمها وقبولها لأنهن لم تشعرن بها في السابق، حيث كانت طبيعة العلاقة واضحة والأدوار لا خلاف حولها ولا اختلاف في تفسير طبيعتها.

الجمعة، أبريل 17، 2015

أساطير جزائرية: اللي قرا قرا بكري


مالذي يجعل التعليم منبودا بهذا الشكل من لدن فئات واسعة من الجزائريين، حتى "عامة المتعلمين" أنفسهم لا يثقون أنهم يمتميزون، نتيجة ما يكتسبونه من معارف، عن غيرهم من الذين لم تتح لهم فرصة تحصيل تعليم مقبول، فالجزائري يؤمن بأن اللي قرا قرا بكري، دون أن تكون فكرة تجاوز العلم كخبرة مكتبسة وذات مردودية مجتمعية واضحة في وعيه، فهو عاجز عن تحديد مرجعية زمنية لهذا " البكري"، إنه لا يفكر في الأمر أصلا ولا يتعب نفسه في طرح التساؤل الجوهري حول الفرق الأساسي بين الآن وبكري، ولماذا قراية ( تعليم) الآن مرفوض اتكاءا على قراية زمان ؟. فتعليم زمان هو المرجعية وهو الأصل وهو المبتغى أو ما يجب أن يتسم به المتعلم ويحصله من معارف، ومن ثم ما يستطيع تأديته من وظائف اتكاءا على ما حصله من تعليم، دون أن يكون للفرد المتلفظ بهذا المثل دراية عن طرائق التعليم زمان وعن طبيعة المعارف المقدمة للمتعلم، ولا عن الدور الذي يشغله لمتعلم في المجتمع، إلا ما كان من تصورات بسيطة ومسطحة عن مكانة " الطالب " في المجتمع، والتي هي مكانة تبجيل وتقدير مجتمعي نتيجة ما يمتلكه هذا " الطالب " أو المتعلم من معارف دينية "بسيطة" تساعده على تبؤ صدارة بعض التجمعات، كالصلاة بالناس أو الخطبة وتفسير بعض الأحاديث وأحكام الدين الحنيف، وهي وظيفة جد خطيرة ولكنها بسيطة بساطة المجتمع التقليدي الذي لم يكن بحاجة لما نسميه الآن " القراية " أي نظام تعليمي يلبي احتياجات المجتمع لليد العاملة المؤهلة للقيام بوظائف متشعبة ومتنوعة وتتجاوز في معظمها العمل اليدوي الذي كان هو السائد في المجتمعات التقليدية التي كان " الطالب " يعد من نخبتها وممثلا للمعرفة فيها؛ المعرفة التي يشكل العلم الديني عمدتها. فمفهوم العلم قديما، وخاصة في المجتمعات المسلمة التي لم تعرف ازدهارا حضاريا كالمجتمع الجزائري، كان يعني حصرا العلم الديني وما يتفرع عنه من معارف تكون مساعدة له حتى وإن بدت في الظاهر مستقلة عنه كالرياضيات التي كان تدريسها يتم لغاية ديمية جوهرية وهي تلبية حاجيات "الفريضة " أو تقسيم المواريث، فالمفهوم المعاصر للعلم في العربية لم يكتسب وجوده إلا منذ فترة ليست بالطويلة، مما يجعل العودة إلى المعنى الأصلي والقديم لكلمة علم، عودة للأصل، وهي عودة تنفي ضمنيا، الدور الحديث للعلم المعاصر الذي يعانق المجتمع والناس وآفاق الكون، ملقية به في أحضان الدين الذي يتحول في حالتنا الجزائرية الراهنة، التي تحاول إرجاع العلم الحديث إلى الأصل الديني القديم من خلال المثل: " اللي قرا قرا بكري "، إلى مصدر شرعية ذات طبيعة متعالية ومرجعية لا يمكن لأي علم ينفي الانتساب إليها بشكل قاطع وأخذ بركتها، أن يحضى بقبول جمعي من لدن أفراد المجتمع، لهذا يكثر عندنا كعرب القرن العشرين والواحد والعشرين مفهوم التأصيل كلما تناولنا علما من " علوم الغرب" التي استطاعت النفاذ إلى منظومتنا التعليمية والجامعية، والتأصيل عملية علمية تؤديها النخب الأكاديمية كرد فعل على الإنكار الاجتماعي الذي تجابه به "العلوم الوافدة"، وكتأكيد على الأصالة والعودة نحو أصل نعتقد أنه موجود في الماضي فإن لم نجده اختلقناه ارضاءا للنزوع الماضوي لشعب لا يزال يصر بأن اللي قرا قرا بكري.
ذلك الأصرار على ماضوية غير محددة الصفات ولا واضحة في وعي من يصر على العودة إليها، تنفي عن المتعلم أية مشروعية ومن ثمة تجعل دوره الاجتماعي منفصل بشكل تام عن الدور الذي لعبه المتعلم منذ قرن فقط، وهذا الانفصال هو منبت التشكيك في جدوى ما يتعلمه هذا الفرد وما بتكسبه من معارف، مادام الوعي الشعبي مشدود نحو النموذج والمثال القابع في الماضي مجللا بالأبهة والوقار والتبجيل الذي يجعل أنموذجيته حقيقة لا يطالها التشكيك في وعي عامة الناس الذي يحتقب معاني خاصة محمية بهالة من التبجيل ومحاطة بتصورات عن نجاعتها الاجتماعية تجعلها طابو لا يمس. تلك النجاعة التي كانت مؤكدة وحقيقية في فترات سابقة لكنها فقدت إمكانية الوجود في حاضرنا دون أن تفقد انموذجيتها في المخيال الجمعي الذي يتكيء عليها لإدانة مخرجات الحاضر المتهم كمنظومة بالمروق والهرطقة مقارنة بالماضي الأليف والحميمي والفردوسي الذي يعيد المخيال الجمعي إنتاجه بشكل مستمر مصبغا عليه كلما تباعد الزمن صفات لم تكن فيه. 
في الوعي الشعبي الجزائري ارتبط العلم وما يتفرع عنه من عمليات اجتماعية: تعلم، تعليم، خطابة، فتوى، طبابة ... بغايتين: وجاهة دنيوية وحسن عاقبة في الآخرة، وهذا التصور المغرق في تقليديته يمزج العلم بالدين ويجعل من الأول خادما للثاني، فالمتعلم إلى وقت قريب كان هو " الطالب " بالمعنى الدارج للكلمة والتي تعني بشكل يكاد يكون حصريا طالب العلم الشرعي أو حافظ القرآن، وهذا المعنى الذي اتخذته الكلمة يرجع إلى طبيعة نظام التعليم في الجزائر، الذي كان، ولقرون طويلة، يضم العلم الشرعي وما يتفرع عنه على رأس المعارف التي يتم تلقيها وتداولها بين طلاب العلم. وهذا النظام التعليمي الذي استمر لقرون طويلة قبل أن تهدمه تدريجيا المدرسة الفرنسية، وتقضي عليه بشكل كامل المدرسة الجزائرية عقب الاستقلال باستثناء ما ظل يسمى بالتعليم الأصلي والذي حافظ على غايته الدينية من خلال بقائه تابعا لوزارة الشؤون الدينية بدل وزارتي التربية الوطنية والتعليم العالي من جهة، ومن جهة ثانية حافظ على مخرجاته التي لم تتعارض من التصور الشعبي عن "الطالب" الذي يتعلم الأمور الدينية من أجل تثقيف المجتمع دينيا، وهو الدور الذي يقوم به الأئمة والمرشديين الدينين من خريجي معاهد التعليم الأصلي، في الوقت لذي سارت فيه المدرسة في اتجاه " علماني " قطع بشكل حاد مع نظم التعليم القديم الذي توطد مؤسساتيا ومخياليا خلال الفترة التركية من تاريخ الجزائر واستمر كنوع من المقاومة خلال الفترة الاستعمارية، وطبيعته المقاومة والتي رسختها جمعية العلماء المسلمين، هي التي وطدت مكانته التي تمس في المخيال الجمعي، ومن ثم تحوله، أي التعليم القديم تاع بكري، إلى مرجعية ونموذج شديد التعارض مع طبيعة التعليم الحالي ذو الطبيعة العلمانية غير المعلنة، وذو الأهداف المتجاوزة بشكل كبير لأهداف التعليم القديم، وهذا ما يجعل مقولة: اللي قرا قرا بكري تكتسب مشروعيتها في الوعي الشعبي الجزائري كأسطورة تؤثث سلوك الجزائري في الحياة اليومية.

أساطير جزائرية: بنت الفاميليا

كانت جداتنا تتحدثن عن بنت الأصل وصرنا نحن نتحدث عن بنت الفاميليا، وبين الأصل الذي يحيل على النسب والعائلة الممتدة وانتمائها القبلي والعشائري وما تمنحه من مزايا للمنتسبات إليها، وبين الفاميليا التي تحيل على نزعة عائلية صغيرة وانتماء يكاد يكون مقطوع الجذور عن ماضيه الأبعد من جيل وعن جغرافيته التي طوحت بالكثير من العائلات بعيدا عن أرض الانتماء "الجدودية" فرق الزمن وفرق الرؤيا، وفرق القيم التي تبدلت وتغيرت وانقلبت على أصيل الماضي فعلا محتفظة بدعوى الانتماء إليه قولا.
تحضر بنت الفاميليا في مخيالنا الجزائري كأسطورة ندعي واقعتيها أكثر مما نلتقي بها فعلا وتمثلا وسجايا ونبل خصال؛ إنها، في تصوراتنا القمعية، الطاهرة التي تتحصن بعفة الجسد وبراءة القلب من أدران الغرام وخيبات الهوى. هي في تحديد الصفات: محمودة النسب، مقبولة الجمال، عارفة بالتدبير، وهي سند الرجال إذا ما غدر الزمان، وهي، بالأساس، حافظة الشرف وحاملة ثقله: شرف العائلة وهي بنت، وشرف الزوج وأهله وهي أم وزوجة، دون أن نفهم من الشرف الذي نتحدث عنه أكثر من معنى العفة بمعناها الضيق الذي يحيل مباشرة على انعدام الخبرة الجنسية قبل الزواج وعلى الوفاء الجنسي بعده، وفي تحديد أكثر تضييقا لدى البعض: إنعدام المعرفة الجنسية. فالجزائري المأزوم الرجولة يؤمن، حين يتعلق الأمر بالمرأة والجنس، أن مصدر المعرفة هو التجربة، وهي القناعة التي ترمي بالعارفات بأمور الغرام ولواعج الوصال خارج دائرة بنات الفاميليا حتى لو لم يمسسهن إنس ولا جان.
بنت الفاميليا في عرفنا الجزائري هي غاية الباحثين عن الظفر بالزوجة الصالحة، وهي مطمح وأمل كل الرجال الخلاطين الذي فقدوا، نتيجة تخلاطهم، الثقة في النساء، ولأن بنت الفاميليا صارت لا يظفر بها كما لا يظفر بكل ما هو نادر وغير متاح بوفرة، إلا قلة ممن ترعاهم " دعاوي الوالدين " وتسدد خطاهم النوايا الطيبة وإن خالطها سوء الفعال.

الرواية والمدينة


يقول عبد الله العروي: تهدف الرواية الواقعية الغربية إلى الكشف عن بنية المجتمع من خلال تجربة فردية تتمثل في سلسلة من الانتصارات والهزائم الظاهرة والخفية، الاجتماعية والنفسانية، هذا هو موضوعها المفضل، وهو موضوع غير متوفر في المجتمع العربي بسبب الإلتحام وتحجر هياكله ".
يحيلنا العروي على وضع إجتماعي عربي شديد المغايرة للوضع الإجتماعي الغربي الذي أعطى الرواية الغربية موضوعها الأساسي: تجربة فردية كاشفة للبنية الإجتماعية يتعين هذا الوضع الإجتماعي المغاير في البنية العربية بغياب الفردانية كمفهوم وكسلوك، ويخبر عن إلتحام إجتماعي لا يزال شديد القوة رغم التضعضع الذي أصابه نتيجة التحديث القسري للبنى التقليدية في مجتمع لم ينجح بعد في إنشاء المدينة كفضاء وقيم حاوية ومنتجة لأشكال التعبير النثرية المعقدة كالرواية. فالمدينة العربية الحديثة وبعد قرن ونصف من بدايات الإنوجاد ( توسيع الخديوي إسماعيل للقاهرة وتخطيطها على طريقة المدن الغربية وبهياكل متشابهة) رغم التطور في التخطيط والتعالي في العمران بشكل مبهر أحيانا لم تنجح في، ويبدو أنها لا تنوي خلق قيم مدينية، تلك القيم التي تتعين بالحرية الفردية وبالديموقراطية وحرية التعبير وسيادة القانون وتموضع المؤسسات في قلب العلاقة بين الأفراد وبعضهم البعض من جهة والأفراد والدولة من جهة ثانية، بالإضافة إلى تموضع الآداب والفنون في صلب اهتمامات الأفراد، وقيام المؤسسات الثقافية ( المكتبات، دور السينما، المسارح، المتاحف، دور العرض ...) بلعب دور الوسيط بين منتجي السلع الثقافية ومستهلكيها من الأفراد والجماعات.
إن تلك التمظهرات للوعي المديني غير موجودة في المدينة العربية إلا بشكل استعراضي شكلاني يدعي ما لايؤمن به، فالمواطن العربي يسكن المدينة لكنه يتعامل معها بوعي ريفي أو بوعي سكان الضواحي الذين يحرصون على الإلتحام الأسري والقبلي والجهوي مكونين شبكة اجتماعية تحفظ المصالح وتدعمها وتدمج الأفراد ضمن منطقها. شبكة تجعل الفرد يتعامل مع المؤسسات لكن بتجاوز منطق المؤسسة الذي يفترض العقلانية والموضوعية والمساواة بين الأفراد وفق نمط معياري مؤطر قانونيا يحدد الحقوق والواجبات. فالفرد العربي وهو يقصد مؤسسة ما لقضاء حاجة، غالبا ما يقصد من يعرفه في تلك المؤسسة أو من يمتلك النفوذ الكافي لتمكينه من قضاء حاجته في المؤسسة المقصودة حتى لو كان غير مسموح له قانونيا بتحصيل المنفعة التي قصد المؤسسة لأجل تحصيلها، وغالبا ما يكون الفرد المقصود لتقديم الخدمة مندمج ضمن شبكته الاجتماعية أو ضمن شبكة أخرى مستعدة لتبادل خدمات مع شبكات موازية، وهذا الوضع الغير عقلاني والذي يقضي على كل معيارية في تعامل المؤسسات يجعل هذه الأخيرة تفقد دورها كوسيط حيادي بين الأفراد وبين الأفراد والدولة.
إن المناخ المذكور أعلاه الذي يسم المدينة العربية بسمات، ويزودها بقيم غير مدينية هو مناخ غير روائي لأنه معادي لروح المدينة وثقافتها، ولهذا نتساءل مع العروي: " هل يحق لنا رغم هذا أن نوظف شكلا صالحا للمركز لنصف به الضاحية؟! " أو لنكتب عبره حياة ومنطق وثقافة الضاحية؟

الأربعاء، مارس 18، 2015

لماذا يعادي المجتمع بعض النصوص الإبداعية؟!

نحن كقراء، لا نتخذ موقفا سلبيا، عدائيا أو متحفظا من نص ما نتيجة قراءة مغلوطة أو سوء فهم لمعناه الحرفي، أو إمكاناته التأويلية. فتلك حجج نخبوية لها غاياتها التي أساسها الظاهر الحرية، وباطنها رمي لكل مخالف إيديولوجي بقصور الفهم والعجز عن إدراك مرامي النص نتيجة القراءة المغلوطة التي سببها افتقاد أدوات الفهم والتأويل، وهذه حجج نخبوية يتم ترديدها باستمرار دفاعا عن النصوص والكتاب أمام " غضبة الجماهير " التي يكون سببها غالبا تنديد بعض القراء بنص ما أو كاتب معين وتلقف فئات واسعة من المواطنين لذلك التنديد وتبنيه كموقف شخصي اتجاه النص أو الكاتب.
جوهر القضية هنا يتمثل في السؤال التالي: مالذي يدفع فئات واسعة من المواطنين لا علاقة لها بالأدب والفكر وليسوا من جمهور القراء إلى تبني مواقف عدائية اتجاه نص أو كاتب معين؟

الأمر هنا مرتبط أساسا بمقدار اللاتوافق الذي يحمله النص المندد به مع قيم الجماعة ومكونات هويتها التي ترى أن المساس بها هو اعتداء لا يمكن السكوت عنه، وهذا اللاتوافق  غالبا ما يكون واضحا ولا يمكن للكاتب أو أنصار النص المندد به الدفاع عنه بحجة التأويل وطبيعة النص التخييلي وغيرها من الحجج التي تتكرر عند كل أزمة مشابهة، هنا يلعب الوسطاء الذين يتصدرون للدفاع عن قيم الجماعة دورا حاسما في التجييش من خلال تقديم قراءة مجتزأة وموجهة نحو ما يقدمه النص من دلائل على مقدار اللاتوافق المذكور، فتنتشر المقتطفات من النص ويتم استحضار النصوص السابقة في حالة احتوائها على تعارضات أخرى مع قيم الجماعة كما تتداول التصريحات على نطاق واسع. كل ذلك من أجل تكوين ملف إدانة يتم توظيفه غالبا بشكل يتجاوز النص أو الكاتب ويمضي نحو غايات سياسية وصراعات ايديولوجية بين النخب والتيارات التي لا يخبو الصراع بينها وينتظر هكذا اهتمام شعبي لتسجيل نقاط ضد الخصوم، كما أن ذلك الغضب الشعبي غالبا ما يكون خادما للكاتب المغضوب عليه من الناحية التجارية ومن ناحية الحضور أكثر داخل الحقل الثقافي الذي يبدي اتجاهه تضامنا وحسدا في نفس الوقت. فالنصوص الأدبية غالبا ما تكون مسرحا للصراعات والمعارك الإيديولوجية، وتلك خاصية سوسيولوجية لصيقة بطبيعة الأدب.

الجمعة، مارس 13، 2015

قوانين قمعية بلا سند اجتماعي



يبدو أن الذين وضعوا قانون العقوبات الجديد المثير للجدل لم يراعوا، أو ربما هم لا يعرفون، طبيعة المجتمع الجزائري الذي تشكل مركزية الرجل لبنة أساسية في طبيعة علاقاته، وهي مركزية مكرسة من طرف النساء أنفسهن أكثر من الرجال، لهذا يبدو أن النساء اللواتي وضع هذا القانون لصالحهن في ظاهره هن أكثر من سيتضرر منه، لسبببين: أولا وعلى عكس معظم القوانين المتعلقة بالأسرة ذات الطبيعة التنظيمية يتخذ هذا القانون طابع قمعي مما يولد الحنك والشعور بالضيم والتمييز لدى فئات واسعة من الرجال. ثانيا أن طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجتمع الجزائري والمسيّجة بالطابهوات العائلية التي ترى في الخلافات العائلية أمرا خاصا لا يخرج للمحكمة إلا في حالات نادرة، تجعل منه قانونا دون تطبيق في غالب الأحيان من جهة، ومن جهة ثانية فالتحرش فعل  يصعب إثباته قانونيا، بله كون الحديث عنه بشكل علني يدخل بدوره ضمن الطابوهات العائلية التي يبدو أن هذا القانون قد أتى بشكل خاص لأجل تفكيكها، مع أن تفكيك بعض هذه الطابهوات المحمية بترسانة قيم وأخلاقيات مجتمعية وثقافة أبوية لا تزال تحضى بمقبولية كبيرة من لدن الجنسين، يعد بمثابة تفكيك للأسرة نفسها لأنه يفرض سلم علاقات لا تسنده الثقافة والقيم السائدة في المجتمع، بل وتعتبره شاذا، لأن المجتمع وثقافته وقيمه لم تتطور بعد للدرجة التي يحدث فيها نوع من التوافق حول مجموعة مفاهيم أساسية لوجود وتطبيق سليم لمثل هكذا قوانين، مثل مفهوم الحرية الشخصية والفردانية والمجال العام وما تنتجه هذه المفاهيم من ترسيخ لقيمة العدالة والمساواة بين الجنسين ليس على المستوى الخطابي والقانوني كما هو حاصل في الجزائر الآن وبالشكل الذي تسعى الجمعيات النسوية ومن يقفون خلف هذه التشريعات إلى ترسيخه، إنما بشكل أعمق يستند إلى واقع اقتصادي يمنح المرأة استقلالية أكبر بكثير مما تتمتع به الآن من استقلالية اقتصادية هشة، وواقع قيمي، وهذا هو الأهم، لا يدين المرأة بأنوثتها، ولا يعتبر جسد المرأة ملكية عائلية.
لهذا أتصور أن هذا القانون قد أتى من أجل تعميق أزمات مجتمعية مزمنة وعويصة كأزمتي العنوسة والطلاق، فشعور المرأة بأنها محمية و" محرضة " قانونيا يجعلها تتجاوز الدور الذي تحدده القيم والثقافة المجتمعية لها داخل الأسرة بشكل يؤدي إلى تزايد الصدامات العائلية مما سيؤثر بشكل كبير على الإستقرار الأسري الذي يعاني، نتيجة ضغوطات اقتصادية ونتيجة الحداثة المرتبكة التي ينخرط فيها المجتمع، من هشاشة تتجلى في ارتفاع متزايد لنسب الطلاق خاصة بين المتزوجين حديثا، من جهة أخرى ستسهم الطبيعة القمعية للقانون في الإحجام المتزايد عن الزواج من قبل الشباب مما يفاقم من مشكلة العنوسة في المجتمع، وقد سبق لي وتحدثت عن الأسباب القيمية والثقافية للعنوسة في مجتمعنا، بعيدا عن التفسير السطحي والمختزل للظاهرة والذي يرجعها إلى أسباب اقتصادية وإلى غلاء المهور وما إلى ذلك من أسباب قد تشكل جانب من محددات المشكلة لا غير.

الجمعة، فبراير 20، 2015

تهميش المثقف الجزائري... مسؤولية من؟

حين نطرح التساؤل بهذه الصيغة: "تهميش المثقف الجزائري واغتياله نفسيا: مسؤولية من؟" نكون بصدد استعداد نفسي لتبرئة المثقف من مسؤوليته عن الوضع الراهن الذي يتسم بكثير من الرداءة على مستوى الإنتاج الفكري من جهة وعلى مستوى الأداء الثقافي لما يسمى بالمؤسسات الثقافية من جهة ثانية.
وإلقاء اللائمة على جهات أخرى غير محددة مع أنها ومن خلال الإشكالية المطروحة تحيل على المسؤولين عن قطاع الثقافية الذين يشجعون الرداءة لعدة أسباب: قد يكون ذلك هو مستواهم وفكرتهم عن الثقافة التي لا تخرج في نظرهم عن الاحتفالات الكرنفالية، وقد يكون الإصرار على الرداءة ناتج عن كون أغلبية المسؤولين عن قطاع الثقافة في بلادنا هم من المبدعين والكتاب الأقل شهرة والأقل تميزا وحضورا داخل الحقل الثقافي، وبالتالي فتمييع الفعل الثقافي من طرفهم ما هو في النهاية سوى تغطية على رداءتهم.
بمعنى أن المثقف نفسه يتحمل نصيبا وافرا من مسؤولية الوضع الرديء الذي يعيشه الحقل الثقافي الجزائري، وهذه الوضعية نتاج تاريخي أكثر من كونها مجرد وضعية مستجدة، فافتقاد المثقف الجزائري للإمكانيات المادية التي تمنحه حرية في الإبداع والمبادرة، تجعله رهين تجاذبات حادة من طرف مؤسسات الدولة والهيئات الخاصة التي لا يهمها من النشاط الثقافي سوى تجميل صورته أمام الرأي العام المحلي وأمام المؤسسات الدولية التي تأخذ بالحراك الثقافي داخل أي مجتمع كمقياس دال على الديمقراطية والتقدم والنمو، أي أن الثقافة بالنسبة لتلك المؤسسات تبتعد عن كونها خلقا وإبداعا لتتحول لمجرد وسيلة لتحقيق أهداف أخرى غير ثقافية.
وفي ظل هذا الوضع يتحول المثقف إلى مجرد وسيلة للدعاية السياسية ويفقد جوهره وروحه الإبداعية ونظرته النقدية للأشياء، وبفقدان هذه المميزات يفقد المثقف مبرر وجوده ويتجول إلى مسخ.
هل يمكن اعتبار هذه الحالة التي يعانيها المثقف الجزائري، والعربي عموما، حالة ناتجة عن هيمنة الدولة على المجال الثقافي وعملها على إفراغه من محتواه النقدي والحر، مما أزم العلاقة بين المثقف والسياسي، أم أن نشوء وتطور الدولة والمجتمع ما كان لينتج غير هذه الحالة التي تضع الثقافة في ذيل قائمة الاهتمامات؟
بما أن مشكلة المثقف أو عامل النقص الذي يعانيه إزاء السياسي هو التجدر الاجتماعي المفقود، وكذا وسائل التأثير التي لا يمتلكها هذا المثقف، فإن الحديث عن البنية التحتية التي توفر للمثقف هذا المجال ذو أهمية قصوى، فالمعاهد والجامعات ومراكز الدراسات والمؤسسات الثقافية ودور النشر والمجلات والصحف وغيرها من الهيئات ذات العلاقة بالحقل الثقافي تشكل قاعدة مادية مهمة لعمل ونشاط المثقف تكتسي أهمية بالغة في توفير مناخ مناسب للمثقف يستطيع في ظله القيام بواجبه في نشر وعي معين وبالتالي في اكتساب سلطة معينة إزاء السياسي.
وهذا الطرح يقودنا لنقطة أساسية مرتبطة بعمل المثقف في جو تنافسي قوامه التنافس على خلق وتوليد الأفكار لا التنافس على تقاسم الريع كما هو حاصل لدينا، وهذه النقطة مرتبطة بدور الاقتصاديات الوطنية وبعبارة أدق دور رأس المال الوطني الخاص تحديدا في دعم ورفد هذه المؤسسات حتى تكون منبرا لحرية الفكر ومن ثم للخلق الفكري والإبداعي الذي يصب في خدمة المجتمع بصفة عامة حتى حين يكون هدفه الأولي هو خدمة هيئة معينة كحال الدراسات الاجتماعية والاقتصادية التي تنجر بطلب من مؤسسات حكومية أو خاصة.
من أهم الأسباب المعيقة لنشاط المثقف هي كونه موظفا عند الدولة وبالتالي فاقد للحرية إزاء نقد الدولة فهو في الغالب يعمل في مؤسسات ثقافية وإيديولوجية وتعليمية تابعة للدولة وخصوصا المؤسسات ذات الإمكانات الضخمة كالجامعات ومراكز البحث، ومن هنا فمن المنطقي أن لا يكون عمله موجها ضد الدولة وضد خطاباتها السياسية والإيديولوجية، فالدولة هي التي تضمن رزقه وتوفر له رفاهية اقتصادية تمكنه من التميز الاجتماعي.
وهذه الامتيازات التي يحصل عليها المثقف نتيجة حاجة الدولة له كموظف في مجالات لا يمكن لسواه أن يحل محله فيها تجعله يميل لخدمتها مضحيا بحريته، أو يشاغب في حدود المسموح به فقط، دون أن يطلق ملكاته الإبداعية والفكرية لولوج مناطق غير مستوية تقوده للإخلاص للحقيقة وحدها بعيدا عن التوجهات السلطوية.
نحن في المجتمعات العربية الحديثة وعلى عكس المجتمعات الإسلامية في فترات تاريخية ماضية لم تنتشر عندنا ظاهرة "رعاة الثقافة" أي أشخاص يملكون رأس المال ويوظفونه في دعم النشاط الثقافي والفكري الذي يصب في خدمة المجتمع بصفة عامة.
رعاة الثقافة والأدب لعبوا دورا كبيرا في النهضة الأوروبية، كما أن ازدهار الثقافة في الحضارة العربية الإسلامية كان مرتبطا بهذه الظاهرة تحديدا، حيث امتدت رعاية الثقافة من الأمراء إلى العائلات الغنية والأفراد الذين يحملون هما فكريا وثقافيا.
يكفي الإشارة إلى مثال مهم في العصر الحديث حول دور هذه الرعاية في نشوء نظريات ومدارس فكرية، صبت مقارباتها في خدمة المجتمع، مثال كارل ماركس وانجلز يعطي دلالة بالغة على الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه هكذا رعاية ثقافية في نشوء تفكير حر يكون قادرا على زلزلة اليقينيات، ويعد بفتوحات معرفية متجددة.
فلم يكن من الممكن لكارل ماركس أن يصوغ مشروعه في نقد الرأسمالية وكذا تنظيره للاشتراكية العلمية لولا لقاءه بالملياردير فريديريك انجلز الذي كان رفيق الدرب في التنظيرات الماركسية؛ انجلز وفر لماركس كل المتطلبات المادية له ولأسرته بغية تفرغه لمشروعه الفكري وهذا ما ساعد ماركس على توجيه تفكيره إلى نقطة مركزية وبكل حرية.
في المجمعات العربية الحديثة، البورجوازية الوطنية هي بورجوازية هجينة، فهي لا تمتلك مشروع مجتمع. في نفس الوقت هي بعيدة عن الثقافة بسبب وضعها الهجين، ولكون غالبيتها بورجوازية كومبرادورية مرتبطة بالمصالح الأجنبية فهي لم تساهم في خلق مؤسسات تهتم بالمجال الفكري ولم تساهم بأي شكل من الأشكال في خلق أو الترويج لنظرية أو فكرة معينة تخدم المجتمع.
ومن هنا كان المثقف ملزما بمراعاة ظروف المعيشة أي بالبحث عن مصدر رزق كأي إنسان عادي، وبما أن دور المثقف هو التفكير وإنتاج وتسويق الرموز لغايات اجتماعية فقد استقطبته مؤسسات الدولة التي تعنى بالتفكير وإنتاج المعرفة.
في الوقت نفسه، كانت هذه المؤسسات عامل مراقبة حد من حرية التكفير الضرورية للمثقف، فسقف حرية البحث العلمي والإبداع في العالم العربي محدد ومؤطر بطابوهات لا يمكن الاقتراب منه.
وفي نفس الوقت الذي تدرج فيه الدولة المثقف ضمن مؤسساته، فهي تهمشه وتحوله لتكنوقراط ولكسول لا يتحرك إلا بمهماز نتيجة ضعف العناية الممنوحة لمجال البحث العلمي وللنشاط الفكري عموم، حيث وبسبب اللجوء للمثقفين بشكل مناسباتي يتحول المثقف العاطل عن التفكير إلى متسابق على ما تذره النشطات الثقافية التي ترعاها الدولة وتصرف عليها بسخاء لأهداف لا ثقافية أساسا مرتبطة بمصالح سياسية مرحلية.
إذن فمشكلة المثقف هي مشكلة البورجوازية الوطنية التي تخلت عن تحالفها مع المثقف لأنها لا تمتلك مشروع مجتمع، ومشكلة الدولة التي رأت في المثقف إنسانا مشاغبا ومزاحما لها على كسب سلطة معينة تكون معارضة ومناوئة لسلطتها. ولهذا سعت لتدجينه وتحويله لكائن داجن لا يتحرك إلا للتنافس على الريع الذي توزعه الدولة.
ومن هنا فإن الباب المفتوح والخطير الذي يجب على المثقف ولوجه في ظل هذه الظروف هو باب النضال، النضال من اجل الديمقراطية التي أساسها الحريات العامة وحقوق الإنسان، وأساسها أيضا العلاقة التضايفية بين المثقف الحقيقي والسياسي الواعي بدور الثقافة في نهضة الأمة، لا العلاقة الإقصائية والعدائية السائدة في الوقت الراهن نتيجة غياب الديمقراطية.

الأحد، فبراير 15، 2015

عن الثقافة الساندويتش

ليست كتب الطبخ والروايات التجارية، وكتب الأبراج بمنتجات دخيلة على الثقافة، إنها جزء من الثقافة بمعناه السوسيولوجي، ووجودها برفوف المكتبات ليس بدعة ولا تعبيرا عن سخافة الثقافة التي تسمح بتسويق مثل هذه المنتجات، إنها ظاهرة صحية يزداد انتشارها في الأوساط التي تسعى لاكتساب نوع من " الدلع البورجوازي " في المأكل والمشرب وطريقة الحديث التي تستحضر أسماء المطاعم وماركات العطور أكثر من أي شيء آخر.
المشكلة عندنا تكمن في تغوّل هكذا نوع من الثقافة " الخفيفة " على حساب الثقافة الرصينة التي يمثلها الأدب والفكر وما يتفرع عنهما من دراسات متطلبة معرفيا، وبالتالي تتطلب قارئ  نوعي، ذو اهتمامات تتجاوز السطحي والبسيط الذي تقدمه الثقافة التجارية، وهذا التغول هو ظاهرة تاريخية ساهم في خلقها وتكريسها الحقل الثقافي بمجمله ( المكتبيون، الناشرون، الموزعون، الإعلام بمختلف أنواعه) ولقيت صدى لدى فئة واسعة ممن يصنفون كمستهلكين للمنتجات الثقافية المكتوبة، وخاصة لدى فئة النساء  بالنسبة لكتب الطبخ، مما وسع سوقها بشكل ضمن لها استمرارية مريحة وربحية أكبر من ربحية باقي أنواع الكتب التي تصنف في خانة الكتب الجادة.

الأدب والكتب الفكرية تحضى بطلب من فئة محدودة تنحصر بالكاد في فئة الطلبة والباحثين وبعض هواة المطالعة الجادة، وبالتالي لا يجب أن تخضع لمعيار العرض والطلب الذي تكون الربحية هي أساسه، إنما يجب أن تحضى بنوع من الدعم خاصة في مجال التوزيع الذي يجب أن تتكفل به الدولة، فالموزعون غالبا ما يقومون بتوزيع  المنتجات التي تتسم بنسبة دوران سريعة مما يجدد الطلب عليها باستمرار، وهذه ميزة تفتقدها الكتاب الأدبية والفكرية التي يكون تسويقها بطيئا، مما يجعل المكتبي والموزع، وهما تاجران، ينظران إليها بارتياب، وبالتالي يتم تجحيم مساحة عرضها لصالح الكتب الأخرى التي تحضى بطلب أكبر، مما يخلق أزمة ويوسع حجم التظلم لدى فئة المثقفين الذي يرى أغلبهم بأن كتب الطبخ والكتب الدينية والتجارية تطغى على الكتاب الأدبي والفكري في مجتمع يهمش الجاد وينساق نحو الخفيف والنافع.

المثقف هو ذلك المزعج الذي يفسد على الآخرين حفلاتهم التنكرية

إذا كان بورديو قد عرف عالم الإجتماع بأنه ذلك المزعج الذي يفسد على الآخرين حفلاتهم التنكرية، فإن هذا التعريف أكثر  ملائمة لتوصيف المثقف بالمعنى الذي أراه  وبالدور  الذي أناطته به نشأته الأولى، وقد خرج من براثن الحرب والصراع الذي يدفع عامة الناس للاصطفاف  إلى  جانب الوطن والجماعة والطائفة بغض      النظر عن كون الجهة المصطف إلى جانبها على حق أم ضلال. فالمثقف الحديث كمفهوم وكممارسة  تمثلها ثلة من " المثقفين الكونيين " بتعبير جوليان بندا هو وليد قضية درايفوس، والتي بدأت باتهام وإدانة الضابط الفرنسي دريفوس بالعمالة لألمانيا، وفي الوقت الذي كانت جموع المواطنين الفرنسيين المكلومين من ضم ألمانيا لأقليمي الإلزاس واللورين تطالب برأس الضابط الخائن، خرج إميل زولا على العالم بمقالته ذائعة الصيت: " إني أتهم " والتي اتهم فيها القضاء الفرنسي بعدم التدقيق في القضية والانسياق وراء نزعة معاداة السامية التي على أساسها تمت إدانة الضابط الفرنسي ذو الديانة اليهودية، وقد اصطف المثقفون الفرنسيون وراء زولا ودافعوا باستماتة عن براءة دريفوس، واقفين بذلك ضد الدولة وضد المشاعر القومية المتأججة.
إذا كانت نشأة المثقف الحديث، والذي قام بدور جديد مفارق للأدوار التي قام بها سلفه العظيم وشديد السطوة: رجل الدين، قد ألقت به في أتون الشأن العام  وفرضت عليه إبداء الرأي والدفاع عما يراه صوابا حتى لو كان ضد " القناعات العامة " التي تستمد سطوتها من الجموع الغفيرة المستعدة دوما  لرجم الضالين والخونة، فإن الدور الأساسي الذي ينبغي على المثقف أن  يقوم به ويخلص له قدر استطاعته هو أن يكون ضمير أمته الذي  يندد بكل الانحرافات التي قد تحدث ويبّين مكامن الانحراف  في القيم وفي السياسات وفي القناعات العامة التي قد تخفى، نتيجة هوس الحماس الوطني أو القومي ، على عامة الناس وتقودهم، بالتالي، إلى تبني اختيارات تاريخية فادحة الخطورة، وما حدث في ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية والكثير من الديكثاثوريات الحديثة، هو خير دليل على النتائج الباهظة لغفوة المثقف وتراجعه عن القيام بدور  " حارس الضمير الجمعي " وعاصمه من التيه والضلال، فالمثقف هو الناطق باسم الجوهري والأساسي في الإنسان، وبهذا فهو مطالب، بحكم وظيفته كمثقف والتي هي أسمى من أية وظيفة أخرى رسمية قد يشغلها بالمقابل، بأن يترفع عن الآني واليومي والسياسي في مباشرته وممكناته المتعددة، وأن يتجرد من سطوة " القناعات العامة " التي تعيق عامة الناس ومن ينساقون وراء هدير مطالبهم، عن إدراك جوهر الأشياء التي قد تقدم منفعة عاجلة وتخبر في عمقها عن مضرات آجلة .
من هذا المنطلق يقف المثقف في مواجهة السياسي ورجل الدين كممثلين لسلطة يناضل المثقف، بالضرورة، ضدها، إنه كاشف آلاعيبها بتعبير إدوارد سعيد الذي ينيط بالمثقف دور النضال ضد السلطة، بعد أن كانت العلاقة مثقف / سلطة وعلى مدار قرون طويلة هي علاقة تأثير من طرف المثقف واستقطاب من طرف السلطة في حالات الانسجام وبطش وتنكيل بالمثقف من طرف السلطة في حالات الخلاف الحاد، دون أن يكون المثقف مطالبا بحكم  كونه مثقفا بأن يتخذ من فضح ألاعيب السلطة وأدوات هيمنتها على الأفراد والمجتمع، وظيفة جوهرية تنفي عنه صفة المثقف في حال تخليه عنها. وباستعارة مقولة بورديو السابقة وتحويرها نقول أن المثقف هو ذلك المزعج الذي يفسد على الآخرين حفلاتهم التنكرية، والآخرون هنا ليسوا سوى أصحاب السلط الذين يتناسلون في المجتمعات الحديثة ويستقوون بما توفره الحداثة والعولمة من أدوات هيمنة وتوجيه غير مسبوقة، ومن قدرة على التسلط الناعم الذي صارت تتسم به الأنظمة الحديثة حتى في أكثر المجتمعات ديموقراطية ورقيا اقتصاديا، فالمتسلطون الذين يتخذ المثقف من فضح ألاعيبهم وكشف استراتجياتهم دورا  ووظيفة  لم يعودوا محصورين في الفئات التقليدية التي تتعين برجال الدين والسياسة الذين تعرف العامة مدى نفوذهم وتفقه شيئا من أدواتهم، إنما اتسعت دائرة الفئات المتسلطة نتيجة تغلغل الحداثة وقيمها في الكثير من المجتمعات لتشكل شبكة ممتدة من رجال السياسة والإقتصاد والخبراء المتخصصين ورجال الدين والإعلام والشخصيات العامة ... تلك الشبكة التي لم يعد الإنسان العادي، الذي يتحدث المثقف باسمه ويعبر عن ضميره ويصوغ  آمانيه ويوتوبياته المجتمعية،  قادرا على كشف آليات هيمنتها بله رفضها ومواجهتها.

ولكي يقوم المثقف الحديث بهذا الدور المجتمعي، شديد الخطورة، في عالم تتسارع فيه قدرة السلطة على التنميط والقولبة عليه أن يكون إنسانيا بالدرجة الأولى أي قادرا على افتكاك نفسه، ووعيه قبل ذلك، من الهيمنة الرمزية للجماعة التي ينتمي إليها سواء الجماعة الوطنية أو الدينية أو الإثنية، فهو غير مطالب بحكم وظيفته بأن يتحدث باسم أي من هذه الجماعات منفردة، ولا أن يضع قدراته في خدمة مشاريع  آنية الرؤية تتعارض مع ما يدعيه لنفسه من قدرة على تمثل وتمثيل الر ؤى القصوى لمن يتحدث باسمهم، أولئك الذين لم يعودوا، نتيجة تأثير الحداثة والعولمة، منحصرين في "جماعات الإنتماء " التي تتعين بالوطن والدين واللغة والعرق، إنما صارت خطابات المثقف منفتحة على  كل العالم الذي قد يتلقاها أو يتلقى ارتداداتها عبر خطابات أخرى.

الجمعة، يناير 30، 2015

الحب العربي الأصيل



الحب ليس هواية عربية ولا شرفا مدعى ولا بطولة تحكى للأجيال، إنه خطيئتنا التي نقترفها سرا، ونجاهر بها في حالات السكر التي تجرنا لشارع المحبوبة مكسوري القلب والخاطر نصرخ بكل ما فينا من جوع للحب الراحل وللمحبوب الذي توارى خلف نافذة غرفة مطفأة الأنوار ينظرنا ويسمعنا بتشفي أو بحزن بائس عاجز. إن الحب العربي نشوة وصرخة بين فخذي امرأة تعرت وقالت هيت لك، انه انحدار نحو جحيم الملذات وجنتها حيث حموضة العذاب وحلاوة المتعة ينسربان طعما لزحا بالحلق وفي العروق النافرة المستنفرة، إنه تيه وضلال ننكره في صحواتنا الاخلاقية ما استطعنا؛ بالرفض والتشنيع، فنحن الاطهار المتطهرون، والحب رذيلة لا نقترفها إلا سرا، حين نرمي العذار وحين ينزاح الإزار في عتمة الليل المهمل والمستثنى من رقابة منكر ونكير ، ومن رقابة جحيم اللاءات التي تكبر فينا كل صباح حين نلتقى الأصحاب على المقهى حيث تزدهر النميمة والمفاخرات الجوفاء بالشرف الرفيع..

إستعادة المدينة والانتقام منها


عمر قاتلاتو الرجلة فيلم فارق في تاريخ السينما الجزائرية لأنه حمل رؤيا انتقادية لسياسية الدولة التي فتحت المدن التي خلفها الأوروبيون أمام البدو وسكان الأرياف الذين حملوا قيمهم وثقافتهم للمدينة مشوهين تلك القيم التي حاولت التأقلم مع المدينة من جهة ومشوهين المدينة نفسها حين حاولوا إخضاعها لقيمهم، وهذا ما خلق وضعا متأزما ومستمر التأزم لحد الآن، حيث أننا نعيش في مدن بقيم ريفية، وقيم الريف هي قيم معادية لمعنى مديني صميم متمثل في المجال العام الذي هو ملكية مشتركة في أصل نشأته، لكنه وفي الحالة الجزائرية، ومثلها حالة الكثير من المدن العربية التي تمت استعادتها وطنيا برغبة ملحاحة في الانتقام من تاريخها الاستعماري ( الجزائر، القاهرة، الدار البيضاء )، تحول تحت ضغط تلك القيم الوافدة من فضاءات ريفية وبدوية إلى فضاء هجين ينوس بين الانفتاح والقدرة على استقبال كل جديد، وبين الانغلاق الذي يتهدده من طرف قيم المحافظة التي سعت وتسعى إلى خوصصته أخلاقيا عبر تصرفات معاديا لروحه كفضاء جامع، حيث السترة والعين الحارسة للجماعة التي تقمع الخروج عن القيم الأخلاقية، أو ما تتصورها كذلك عبر مراقبة السلوكيات بدافع أخلاقي ونشر ثقافة العيب القائمة على النواهي والأوامر. كل هذه الممارسات همشت ثقافة المدينة لصالح سلوكيات تدعي حراسة النبيل من القيم وتدافع عنها بيقين لا يقتصد في إيجاد المبررات الكافية لسلوكياته تلك، مما أعطى تلك الممارسات مشروعية بمرور الوقت، ومن ثمة صار مشروعا، بحكم الغلبة والعادة، وجود الثقافة والقيم البدوية داخل الفضاء المديني، مما شكل تشويها كبيرا في وجه وروح المدينة كثقافة وكسلوك وكقيم.

الخميس، يناير 29، 2015

الأبوية كسعي لفرض قولبة اجتماعية


تنشأ الأبوية كثقافة، ومن ثم كممارسة وسلوك اجتماعي وسياسي، من خلال سعي فرد من العائلة ( هو الأب غالبا) لإخضاع الجميع لقانونه/ رأيه الخاص، وهو نفس السعي الذي تقوم به الأنظمة الشمولية والديكثاثوريات على المستوى السياسي، مع امتداد فكرة الفرد لتشمل الجماعة/ العصبة المرتبطة من خلال تصور ايديولوجي / مصالح/ قرابة ... وكل ما يجعلها في خندق واحد إزاء المجتمع. يتمدد أكثر مفهوم الفرد ومفهوم الإخضاع بالنسبة للأنظمة التسطية ( كحالة النظام الجزائري )، حيث يصير الساعي إلى الإخضاع هو الجماعات ذات النفوذ والتي تتقاطع وتلتقي مصالحها على المستوى الأعلى، وتختلف وتتعارض على المستويات الدنيا، والتي تسعى لخلق قولبة إجتماعية هدفها الإخضاع ولكن بأدوات غير قمعية في الغالب كما في الأنظمة الديكثاثورية والشمولية، حيث تقوم تلك الجماعات النافذة والتي صارت تمتلك الدولة وتتحكم في مقدراتها الاقتصادية بشراء سكوت الأفراد والمجتمع عن الوضع الراهن من خلال عملية توزيع انتقائية للريع الذي تديره تلك الجماعات باسم الدولة، دون أن تنتظر أو تطلب من المجتمع الاقتناع والرضا بالوضع الراهن، فالهدف الأسمى والذي يضمن الاستمرارية لتلك الجماعات التي يصفها البعض نتيجة تداخل مصالحها الشديد وتراتبية علاقاتها بالعائلة، هو السلم الاجتماعي، أي إخماد الرفض الثوري للوضع الاجتماعي والسياسي الناتج عن هيمنة تلك الجماعات، التي يكون الكثير من النافذين فيها غير معروفين لعامة المواطنين، على الدولة، مع عمل أفراد تلك الجماعات المصلحية على إدارة التوترات الاجتماعية والسياسية موظفة شبكة علاقاتها المتغلغة في المجتمع، والتي أتاح لها الريع قوة تأثير رهيبة.

conter