الخميس، يوليو 12، 2012

الدولة وموظفيها وسياسة الشد والجذب


الحكومة الجزائرية بسياستها الغير حكيمة تسبب الكثير من التشنجات الاجتماعية والإحساس بالغبن لدى فئات واسعة من الذين يتقاضون رواتبهم من  خزينة الدولة، فرفع الأجور بشكل غير مدروس للفئات الأكثر احتجاجا ومطلبية جعل بقية الفئات المهنية تلجأ دوما للإحتجاج من أجل تحصيل ما تراه حقا ضائعا، مقارنة بغيرها، وهذا ما خلق حالة طمع متسارعة الوتيرة لدى كل الموظفين عند الحكومة. الأساتذة والمعلمين كانوا السبب الأول في خلق هذه الحالة غير السوية، لأنهم ، رغم جبنهم وخوفهم من الدولة، استطاعوا عن طريق سلاح الإضراب والإحتجاجات رفع رواتبهم بشكل خلق إحساسا كبيرا بالغبن لدى الموظفين الآخرين، وإحساس بالحسد لدى فئات من المواطنين، بعدهم أساتذة التعليم العالي والأطباء، ثم الأسلاك العسكرية والأمنية التي استفادت من رفع الأجور دون إحتجاج، لأنها ذراع وعصا الدولة. والنتيجة لا أحد راض، لأن زيادة الأجور امتصها ارتفاع الأسعار، والضحية الأكبر في عملية الجذب والشد بين الدولة وموظفيها هو المواطن الذي ليس له دخل قار أو دخله محدود، فهو يتحمل الزيادة في الأسعار دون أن يحصل على زيادة في راتب لا يملكه أصلا. ولأن عبقرية المسؤولين الجزائريين لا تتفتق إلا لتفتك بالسلم الإجتماعي فقد كانت الرغبة في تصفية سلك الحرس البلدي بإدماج بعضهم - صغار السن وذوي الكفاءات - في الأسلاك الأمنية الأخرى، خصوصا سلك الشرطة، وإحالة بعضهم الآخر على التقاعد المسبق بمعاش مخجل، سببا في شعور البقية بالخطر، مما دفعهم نحو التحرك الجماعي، الذي كانت نتيجته المخجلة للدولة الجزائرية ما حدث مؤخرا من مشادات عنيفة بين  أعوان مكافحة الشغب وأعوان الحرس البلدي المحتجين.
          هذا التحرك خطير في دلالته، لأنه في حالة ما إذا نجح، واستطاع أعوان الحرس البلدي تحسين رواتبهم وتحقيق مطالبهم الأخرى، سيشجع أسلاك أمنية أخرى، الشرطة خاصة، على الإحتجاج لأجل تحصيل ما يرونه حقوقهم الضائعة أيضا، فغالبية أعوان الشرطة، خصوصا  الفئات الدنيا منهم يعانون من إحساس رهيب بالغبن والضيم الذي يعانونه، فهم  يعملون كثيرا في ظروف سيئة للغاية ويحصلون على رواتب زهيدة، مقارنة برواتب الأسلاك العسكرية المختلفة، أو حتى مقارنة برواتب المعلمين مثلا.
إن هذه السياسة التي تتبعها الحكومة الجزائرية فيما يتعلق بتحسين الوضع الإجتماعي لموظفيها، هي سياسة خطيرة على السلم الإجتماعي، لأنها ليست سياسة بالمعنى المتعارف عليه للسياسات الحكومية، إنما هي مجرد رد فعل على الإحتجاجات المطلبية، وشراء للسلم الإجتماعي، ولو مؤقتا، مما رسخ في ذهن المواطن الجزائري فكرة أن ما يراه حقا له لا يؤخذ إلا بالقوة، أي بالإحتجاج والإضرابات وقطع الطرق العامة، وذلك نتيجة ضعف الدولة أمام هذه الإحتجاجات واستسلامها في النهاية، رغم ما تظهره من رفض وحزم في بداية الإحتجاجات، لكن نفس المحتجين غالبا ما يكون أطول من نفس الحكومة، وبما أن هذه المطالبات الفئوية التي تتكاثر وتتزايد بشكل مطرد لدى غالبية الفئات المهنية المرتبطة أجورها بشكل مباشر بخزينة الدولة، لم تتحول لمطالب ذات صبغة سياسية واكتفت، لحد الآن بالجانب الاجتماعي للمطالب، فالنظام الجزائري لا يرى فيها خطورة على " استقراره "، وبما أن خزينة الدولة تسمح بإسكات هذه الإحتجات بزيادات في الرواتب، فهو، أي النظام الجزائري، وعن طريق الحكومة، يلجا دوما للحل السحري: الزيادة في الأجور.
ولكن هل الزيادة في الأجور هي الحل؟، وهل تستطيع الخزينة العمومية تحمل كل هذه النفقات في حالة تراجع أسعار البترول، وهو ما يحدث الآن، بشكل متسارع. لا اعتقد ذلك لأن الزيادة في الأجور لم يرافقها تحسن في المستوى المعيشي، بقدر ما رافقها زيادة في أسعار المواد الأساسية، وفي أسعار العقار، وفي أسعار الكراء وغيرها، وهذه الزيادات الرهيبة هي التي تجعل فئات واسعة من أفراد المجتمع عاجزة تماما عن العيش بكرامة، خصوصا فئات البطالين ومعدومي الدخل وذوي الدخل المحدود الذين تتراكم على كاهلهم مطالب الحياة بشكل لم يعودوا قادرين على تحمله. وبالتالي فإن الإحتجاجات ذات المطالب الإجتماعية التي استطاعت الحكومة إسكاتها بزيادة في الأجور، أي بشرائها، ستخلف احتجاجات تتجاوز المطالب الاجتماعية إلى المطالب السياسية المتعلقة بتغيير نظام عجز ويعجز باستمرار عن تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن هذه المرة ستكون الإحتجاجات من طرف فئات لا تملك ما تفاوض عليه، أي لا يمكن شراؤها.  

conter