السبت، أغسطس 06، 2011

البنيوية التكوينية ورواية الأطراف

يشير لوسيان غولدمان في إحدى هوامش مقالته: " مدخل إلى قضايا علم اجتماع للرواية " إلى ملاحظة في غاية الأهمية تخص مدى صلاحية الفرضيات التي بنى عليها منهجه النقدي الموسوم بالبنيوية التكوينية، وكذا المقولات الأساسية لعلم اجتماع الرواية حيث يقول: " علينا أن نشير إلى أن نطاق صلاحية هذه الفرضية يجب أن يحصر، في نظري، لأنها إذا كانت تنطبق على مصنفات ذات أهمية في تاريخ الأدب كأهمية ( ضون كيخوتة ) لصرفانتيس، و( الأحمر والأسود ) لستندال/ و ( مدام بوفاري ) و ( التربية العاطفية ) لفلوبير، فإنها لا يمكنها أن تنطبق على ( دير بارم ) لستندال إلا جزئيا جدا ولن يمكنها أن تنطبق بتاتا على نتاج بلزاك الذي يشغل مكانة بارزة في تاريخ الرواية الغربية. لكن تحاليل لوكاتش، كما هي تتيح، على ما يبدو لنا، مباشرة دراسة اجتماعية جادة للشكل الروائي "، هذه المقولة حين نظيف إليها قول جورج لوكاتش: " إنه لا توجد بين أيدينا سوى بعض الأعمال الأدبية الكبيرة كعنصر يمكن من وضع نظرية للرواية " تجعلنا نطرح سؤال مركزيا حول مدى صلاحية تلك التنظيرات الثرة التي قدمها كل من لوكاتش وغولدمان للتطبيق على روايات الأطراف أو بعبارة أخرى على الرواية الغير أوروبية، مع العلم أن كلاهما( أي لوكاتش وغولدمان ) قدما ما قدما من تنظيرات وفي ذهن كل منها الرواية الأوروبية دون سواها.

وغولدمان يشير في أكثر من موضع إلى أن تنظيراته تخص بالدرجة الأولى الرواية الأوروبية دون سواها في ارتباطها بنمط الإنتاج الرأسمالي الأوروبي، وهذا يعني من جملة ما يعنيه أن المقدمات النظرية التي صاغها، لا تنطبق تمام الانطباق – على الأقل – على الأشكال الروائية التي تشكلت في ظل شروط اقتصادية واجتماعية مغايرة لما عرفته المجتمعات الأوروبية، والأمر نفسه ينطبق على تلك المقولات النظرية التي صاغها لوكاتش حول الرواية كملحمة بورجوازية – كما ظل لوكاتش يؤكد بإلحاح – أنتجتها الطبقة البورجوازية الطامحة لتمرير مشروع سياسي واجتماعي يفرض انقلابه على القيم الإقطاعية.

أكد لوكاتش على الدور البارز الذي لعبته البورجوازية في تشكل الرواية كجنس أدبي حديث، وهو قد بنى عمله اعتمادا على مراجع فلسفية لها تأثيرها الذي لا ينكر على الفكر الأوروبي " أخذ الأطروحة العامة من هيغل، وقدم المسوغات والمبررات من صراع الطبقات الماركسي. كما أنه استفاد من الاغتراب الهيغلي (اغتراب العقل الكلي عن ذاته) بعد أن طعمه بالاغتراب الماركسي (اغتراب الإنسان عن إنتاجه) ليخرج من كل ذلك بأطروحته المشهورة بأن الرواية ليست إلا ملحمة البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة الأوروبية، وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي جعلت منها الطبقة السائدة في المجتمعات الأوروبية"، وعلى اعتبار أن البورجوازية طبقة أوروبية فرضت انتصارها عالميا بعد تمكنها من فرض قيمها على أوروبا، وحين نسلم بمقولة لوكاتش أن الرواية من خلق هذه الطبقة؛ قد يصح هذا القول على الرواية الأوروبية، ولكن ماذا عن بقية الأقطار غير الأوروبية، وعن تشكل الرواية في هذه الأقطار ومدى ارتباطها بالبورجوازية، ماذا نقول عن الطبقة البورجوازية في أقطار أخرى كاليابان مثلا الذي كان القرن العشرين فيه هو قرن البورجوازية التي استطاعت أن تقف على قدميها، وتفرض قيمها على المجتمع الياباني، رغم أن " الرواية اليابانية ما تزال حتى اليوم تعيش في أجواء بعيدة جدا عن المفاهيم والقيم البرجوازية. وهذا يعني بالضرورة أنه ليس ما قام لوكاش وأنصاره بتنظيره يصدق على كل الأقطار، على فرض التسليم بصدقه في أوروبا".

نفس الأمر ينطبق على مقولات غولدمان، مع فارق جوهري بين الاثنين وهو أن الأخير كان مدركا لهذا الأشكال المنهجي الذي قد يصاحب نقل مقولاته خارج البيئة الأوروبية التي انبنت هذه المقولات النظرية أساسا في ظلها ومن أجلها. هذا الإشكال المنهجي يتجلى في ثلاث نقاط رئيسية هي: مفهوم وطبيعة البطل الإشكالي، التناظر بين البنية الروائية والبنية الاقتصادية، والتناظر بين الوعي الفردي والوعي الجماعي. وهي المقولات الأساسية التي بنى عليها غولدمان عمله التنظيري.

الفرد الإشكالي ( وهو بطل الرواية ) حدده غولدمان، اعتمادا على مقولات لوكاتش، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية معينة مرتبطة بانقلاب مفهوم القيم وتغلب القيم الزائفة ( قيم التبادل)، على القيم الأصلية ( قيم الاستعمال )، محددا فترة انبثاق هذا المفهوم بالفترة التي صاحب صعود البورجوازية الأوروبية، والتطورات التي صاحبت النظام الرأسمالي، ولكن الفرد الإشكالي حين ننقله – كمفهوم – من البيئة الأوروبية إلى بيئة أخرى، كالواقع العربي، أو أي واقع آخر، لا يلتقي مع الواقع والتاريخ الأوروبي إلى في نقاط معينة، نجده – أي الفرد الإشكالي – يأخذ دلالة مختلفة، لأننا، حتى حين نسلم بمحددات الفرد الإشكالي والتي تخبر عن جوهره من خلال مقولات: الرفض، الاغت010101 راب، التمرد، والبحث الذي لا ينتهي عن القيم السامية ( الأصيلة بتعبير لوكاتش )، فإنه " أي الفرد الإشكالي، لا يرتبط، منطقيا بزمن تاريخي خاص وبالغ التحديد لأنه، في دلالته العميقة، يمكن أن يكون موجودا في زمن سابق على زمن الإنتاج الرأسمالي من اجل السوق"، فالصفات التي تحدد الفرد الإشكالي يمكن العثور عليها في نماذج كثيرة وفي مجتمعات متعددة، وفي فترات تاريخية متباينة، فالفرد الإشكالي يمكن أن يرد لفئة الخاصة ( العلماء ) في التاريخ الإسلامي، أو فئة المتوحدين بتعبير ابن باجة والذين يمثلون حكماء النوع الإنساني، الذين يعيشون غربتهم ( اغترابهم) عن فئة العامة كقدر محتوم، لأنهم لا يستطيعون النزول عن سمو " العقل النظري" إلى المراتب الدنيا التي يعيش في ظلها العامة من الناس.

ومن هنا فإن الشروط التاريخية التي تنتج الفرد الإشكالي تظل مفتوحة على احتمالات لا حصر لها. لهذا ينحصر جهد غولدمان حين نرحله لبيئة أخرى غير البيئة الأوروبية في سؤال يظل مشتركا، ويحيل مباشرة إلى الرواية كجنس أدبي: لماذا تجلى الفرد الإشكالي في جنس الرواية دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى السابقة ؟.

وهو سؤال يمكن البحث عن إجابة له بعيدا عن التناظر الذي أقامه غولدمان بين بنية الشكل الروائي والبنية الاقتصادية للنظام الرأسمالي.

النقطة الثانية التي تثار عندما نعمل على نقل مقولات غولدمان بعيدا عن البيئة التي أنتجتها، هي قضية التناظر بين البنيتين الروائية والاقتصادية، والتي ألح عليها غولدمان بشكل مفرط في تنظيراته للبنيوية التكوينية، وهذا التناظر يطرح سؤالا مهما: هل يلغى التناظر بين البنيتين السابقتين بالشكل الذي حدده غولدمان أية إمكانية لظهور الرواية في بلد غير رأسمالي؟.

الواقع يؤكد على نفي العلاقة المفترضة بين البنية الاقتصادية والبنية الروائية، فالرواية العربية مثلا تشكلت نتيجة ظروف لا ترد جميعها للمحدد الاقتصادي، ونفس الأمر ينطبق على روايات أخرى في مناطق أخرى لم تعرف النظام الرأسمالي إلا في شكل جنيني عندما بدأت تبدع رواياتها بتأثير من واقعها الذي كانت تهمين عليه طبقات ما قبل بورجوازية في ظل نظام ما قبل رأسمالي، وهذا ما يؤكد عليه فرانكو فيراروتي في كتابه: " مفهوم الإيديولوجية عند لوسيان غولدمان " حيث يقول: " إن تكون بنية الطبقات في المجتمع ما قبل الرأسمالي يتجه بداهة إلى مصالح الخاصة، لكن هذه لا تتحقق مباشرة في الاقتصاد لأن المشاركة في الإنتاج تتحقق من خلال جهاز الدولة، أو من خلال الإيديولوجيات الدينية..أو لنقل إنها تتحقق، بشكل أساسي، من خلال البنى الفوقية والمقولات العقلية الموافقة "، وهذا ما يجعل الرواية التي أنتجت في بلدان الأطراف، وبعيدا عن المركز الرأسمالي الأوروبي، تبحث عن مرجعياتها في البنية الفوقية التي تحددها الإيديولوجيات المهيمنة، سواء إيديولوجية الدولة، أو الإيديولوجيات الدينية، أو من خلال مقولات الحداثة الاجتماعية التي بدأت في العالم العربي مثلا تسفر عن وجهها بداية من القرن التاسع عشر، دون أن تجد طبقة قادرة على حملها والدفاع عنها.

وغير بعيد عن فكرة التناظر التي كلف بها غولدمان، حين نساءل رواية الأطراف عن طبيعة التناظر الموجود بين الوعي الفردي والوعي الجماعي، نجدنا أمام إجابة مغايرة لما حدده غولدمان، تنفي دور الطبقات الاجتماعية في خلق العمل الروائي ومن قبله في خلق الرواية كجنس أدبي، بقدر ما تؤكد على دور القيم والأفكار الحداثية في خلق جنس الرواية، فالرواية العربية مثلها مثل روايات المجتمعات الرأسمالية الطرفية لا تحيل " على المثقفين، من حيث هم أفراد أو مقولة اجتماعية منغلقة على ذاتها، إنما على مقولات فكرية تلاءم الجنس الروائي وتوافقه، مثل المتعدّد والمتبدّل والمتحولّ، أي على مقولات الحداثة الاجتماعية في أشكالها المختلفة، التي دعا إليها ودافع عنها نسق طويل من المثقفين "، هذه المقولات التي أوجدت الرواية كإنجاز حداثي في مجتمع لم ينجز حداثته في المجال السياسي والاقتصادي واكتفى بتمثل بعض مقولات الحداثة على المستوى الفكري فقط.

هذه مجموعة عوائق منهجية تعترض أي باحث وهو يحاول تطبيق المنهج الغولدماني على الرواية غير الأوروبية، وربما هذا هو السبب الرئيس الذي جعل الكثير من النقاد العرب الذين يعلنون تبنيهم للمنهج البنيوي التكويني في تحليلاتهم ودراساتهم، يكتفون باستلهام المبادئ العامة للبنيوية التكوينية، دون مباشرة تطبيق مقولاتها النظرية على الواقع الروائي العربي، حيث نجد في مثل تلك المحاولات ثراء نظري في مقابل بؤس تطبيقي، وحيث تصير الرواية مجرد تعلة وذريعة لإثبات صحة المنهج.

conter