الخميس، سبتمبر 25، 2008

إمكانية الحوار السلفي العلماني؟؟

في محاضرته بالمكتبة الوطنية الجزائرية بداية هذا الأسبوع، دعا المفكر المصري حسن حنفي لضرورة إيجاد طريق ثالث، يكون قادرا على إيجاد نقاط التقاء بين السلفيين والعلمانيين العرب، دعوة حسن حنفي المسيجة بالكثير من حسن النية، لم تكن قادرة بحسب الردود الأولية عليها من توفير جو من الاستعداد المتبادل لقبولها، رغم ما حملته من رؤية علمية ومعرفية عميقة، نظرا لما يتسم به الدكتور حنفي من قدرة على مقاربة موضوع شائك كهذا، موضوع العلاقة المتشنجة بين العلمانيين والسلفيين، الذين يمتد بينهما تاريخ طويل من اللاتفاهم والريبة والشك المتبادل.
فهل حان الوقت لتجاوز هذ
ا التاريخ المرير الذي سالت فيه دماء، وحبرت حوله ألاف الأوراق، ورهن مستقبل الأمة بين تيارين لا مجال لالتقائهما، نظرا للمرجعيات المتضاربة التي ينهل كل واحد منها، حسن حنفي أكد في محاضرته انه لا فرق جوهري بين التيارين، فحين يقول السلفي مثلا: الحلال والحرام، يقول العلماني: النافع والضار. وكلا الامرين يؤديان معاني متقاربة في الدلالة، غير ان الاول يحيل على المقدس في حين يحيل الثاني على الواقعي والدنيوي.
هنا يرى حسن حنفي صاحب كتاب " اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية " أن تلك الخلافات ليست جوهرية ولا عميقة بالشكل الذي يتصوره البعض، إنما هي من الاختلاف الذي جعله الله رحمة بين المسلمين، أي من ذلك النوع من الاختلاف الذي يمكن إذا نحن قدرنا على إدارته بالشكل الذي يخدم قضايانا المصيرية أن يكون نافعا وذا جدوى في حركة النهوض الحضاري، على عكس ما هو عليه الآن، حيث يمثل هذا الاختلاف الجذري في الرؤى عقبة أمام إيجاد توافق ولو نسبي بين النخب الوطنية، على الاختيارات والأولويات الأساسية للأمة.حيث يقول حنفي في مقال له حول نفس الموضوع بموقع قناة العربية:
" إن الخصومة الدائرة الآن بين السلفيين والعلمانيين إنما تساهم في تفتيت الأوطان من الداخل، وهي في أشد الحاجة إلى التمسك بالوحدة ضد مخاطر التفتيت من الخارج، والوقوف أمام المخطط الأميركي الصهيوني لتفتيت الأوطان... والصراع بين السلفيين والعلمانيين في حقيقته ليس صراعاً فكرياً. فهناك سلفية علمانية وهناك علمانية سلفية. هو صراع على السلطة، ونيل الحظوة لدى الحاكم، والتسرب إلى أجهزة الدولة ومَواطن السلطة فيها اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية بل وقضائية ".
إذن، هل هو صراع مفتعل يتخذ من الفكري ساحة له، في حين أن حقيقته هي صراع حول مغانم معينة يسعى إليها كل طرف، أم أن طرح الدكتور حنفي جانب الصواب، وركز على نقاط التقارب التي ذكر الكثير منها في محاضرته سالفة الذكر، وتجاهل نقاط الاختلاف الجوهرية التي تجعل كل طرف من طرفي الخصومة يرى نفسه ضحية لاستبداد الآخر.
إن التاريخ العربي الحديث يعطينا أمثلة كثيرة لتسلط كل تيار على الآخر حين تتاح له الفرصة لفعل ذلك، اليساريون العلمانيون في بداية الستينات وحتى سبعينيات القرن الماضي حين كانت الدولة اشتراكية تميل إلى العلمانية الغير معلنة، وحين كانت لهم يد ممدودة من والى السلطة السياسية، ضيقوا على الإسلاميين واضطهدوهم في مصر والجزائر وسوريا وتونس والمغرب، وغيرهم من الأقطار العربية، ولكن حين دارت الدائرة وأبان التيار الإسلامي السلفي عن قوته بداية من الثمانينيات واستطاع احتلال الشارع ومنابر صناعة الرأي العام الإعلامية، فعل الشيء نفسه ضد خصومه، ربما تطرف السلفيون، أو جماعة متطرفة منهم إلى درجة ممارسة العنف والتصفية الجسدية ضد العلمانيين بتهم جاهزة تحيل على الكفر والزندقة والإلحاد، ولكن كما يقول حسن حنفي هناك علمانية سلفية كما أن هناك سلفية قريبة من العلمانية في إيمانها بالعلم والعقل.

إذن، مالذي يمنعنا نحن العرب أن نسلك الطريق الثالثة التي دعا إليها الدكتور حسن حنفي، وهي طريق الحوار والتقارب، بدل انغلاق كل طرف على يقينياته، وغلقه أبواب حصونه أمام الآخر وكأن لا خطر آخر يتهدده غير الخصم السلفي أو العلماني.
الردود الأولى على محاضرة الدكتور حسن حنفي بالمكتبة الوطنية الجزائرية أتت سريعا من طرف العلمانيين في الجزائر في حين لزم الطرف الآخر الصمت كعادته وكأن الأمر لا يعنيه؛ حيث كتبت آسيا موساي بملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوز: الأثر: إن على العلمانيين أن يكتشفوا الإسلام بأنفسهم بغية تجاوز القراءات التي قدمها السلفيون للإسلام وهي قراءات بعيدة كل البعد عن الواقع كما تقول موساي، نفس الرأي أبداه الروائي ورئيس تحرير ملحق الأثر بشير مفتي، وهو واحد من العلمانيين الشباب والحداثيين الدين يملكون تأثيرا وسحرا على جيل المثقفين الشباب في الجزائر سواء من خلال نتاجاته الروائية أو من خلال رابطة كتاب الاختلاف التي يشرف عليها رفقة آسيا موساي، بشير مفتي خلص إلى نتيجة واحدة من محاضرة الدكتور حنفي، وهي انه لم يجد نفسه في كل ما قاله الدكتور حنفي.
والنتيجة التي يمكن أن نخلص إليها من دعوة الدكتور حنفي لطريق ثالثة تجمع العلمانيين والسلفيين، وردود الفعل التي أثارتها على المستوى الفكري هي انه لا احد من الطرفين يريد التنازل للآخر ولا حتى تقبله بالصيغة التي هو عليها.

الأحد، سبتمبر 14، 2008

أزمة المثقف العربي ( 4 )

علاقة المثقف بالسياسي
كيف يمكن مقاربة علاقة شائكة وتراجيدية كتلك التي تحكم المثقف العربي بالسياسي، وتحدد العلاقة بين المجالين السياسي والثقافي، فالتاريخ العربي على امتداده يعطينا أمثلة كثيرة لمدى اتصالية وانفصالية هذه العلاقة من جهة، وتبعة المثقف للسياسي من جهة ثانية، فلم يحدث إلا في حالات نادرة جدا، أن كان المثقف شريكا للسياسي في توجيه السياسة العامة ورسم الخطوط العريضة للاختيارات السياسية والأيدلوجية العامة للدولة.
لهذا يبدوا تناول هذه العلاقة شائكا ومعقدا، لأنها علاقة غير سوية ولا صحية، فقد كان اهتمام المثقف العربي، ومازال، منصبا على ربط علاقة وثيقة مع المجتمع بغية التأثير فيه وتطعيمه بالأفكار والقيم التي ينتجها هذا المثقف أو التي يدافع عنها، وبما أن تجدر المثقف العربي في واقعه الاجتماعي ضعيف بسبب ما يسميه عبد الله العروي " بالتكوين النظري للمثقفين العرب"، فقد كانت السياسة بابا ولجها المثقف من اجل الوصول للمجتمع، وهنا وقع الاصطدام مع السياسي الذي يرغب، بسبب وظيفته في المجتمع وتمثيله للدولة وبسبب طموحاته في الهيمنة المطلقة، يرغب في احتكار منافذ التأثير على المجتمع، وقولبة هذا الأخير بالصورة التي يراها مناسبة والتي تضمن له مزيدا من الهيمنة والاستمرارية.

وبما أن حضور المجتمع والسياسة في فكر وممارسة المثقف العربي كان مهيمنا، وبالتالي كان هاجس السياسة كمجال محايث الحضور للمجال الثقافي مسيطرا على فكر وممارسة وطموح المثقف العربي، فالعلاقة بين المثقف والسلطة هي علاقة تلازم في الحضور وتنافر في الأدوار " فالمثقف والسلطة كالهواء والنار يلازم كل منهما الآخر زمن الحريق وإطفائه. إنهما يتلازمان في الضرورة والوجود. وهو المصير الذي يحكم مواجهتهما الدائمة بوصف الأسلوب الطبيعي لوجود كل منهما. فانسياق المثقف تحت عباءة السلطة أيا كان نوعها يؤدي في نهاية المطاف إلى ابتذال كل ما يقوم به. مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من فقدان روحه الحقيقي. حينذاك يكف المثقف عن أن يكون روحا. بينما لا يمكن حد حقيقة المثقف بدونه"، كما أن المثقف في احدى تعريفاته كما يوردها إدوارد شيلز، هو: "
[1] الشخص المتعلم الذي يمتلك طموحاً سياسياً للوصول إلى مراكز صنع القرار السياسي أو من خلال دوره المحوري الحاسم في توجيه المجتمع عن طريق التأثير على القرارات السياسية الهامة التي تؤثر على المجتمع ككل"([2]) ووفق هذه النظرة كانت شريحة من المثقفين ترى ضرورة اقتحام المجال السياسية بغية الوصول للمجتمع، فوفق هذه النظرة فإن " أفضل طريق لولوج المجتمع والتأثير عليه هو الدخول له من باب السياسة التي تعتبر أكثر الوسائل قدرة على إحداث التغييرات بما تملكه من سلطة ، فالسياسة تحول الفكرة إلى سياسة تطبق على أرض الواقع من خلال وضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات السياسية ، وباعتبار أن السياسة اهتماماً بالشأن العام الذي يصب فعلها في النهاية في المجتمع "([3])، وهذا الاقتحام الثقافي للمجال السياسي كان على امتداد التجربة السياسية العربية بداية من قيام الدولة الأموية ووصولا إلى الوقت الحاضر، يأخذ شكلين بارزين:
- المشاركة المباشرة عن طريق احتلال مناصب سياسية سواء بالانتخاب، أو بالتحالف مع السياسي رغم خطورة هذا التحالف الذي كانت نتيجته في الغالب هي تدجين المثقف من طرف السياسي وتحويله لمبرر ومدافع عن اختياراته وأيدلوجيته، بدل أن ينجح المثقف في التأثير على السياسي من خلال لعب دور ما يسميه علي الكنز بـ "مستشار الأمير"، وبالتالي فقدان المثقف لمشروعيته الاجتماعية بسبب تحالفه مع السياسي من جهة، وفشله من جهة ثانية في تحويل أفكاره إلى سياسة متبعة، بسبب الريبة الفطرية التي ينظر بها رجل السياسة للمثقف واعتباره له " مشروع انقلابي" ومشروع معارض، بمجرد وقوع خلاف في الرؤى بين المثقف والسياسي.
- المشاركة غير مباشرة عن طريق المعارضة، سواء بالانضواء تحت لواء أحزاب وتيارات سياسية معارضة حاملة لمشروع سياسي تسعى لتطبيقه فور وصولها للسلطة، أو عن طريق "المعارضة الفكرية الحرة " التي تجعل من المثقف مجرد إنسان يحسن التنديد بانحرافات السياسة، دون القدرة على التجدر الاجتماعي، وطرح البديل الممكن التطبيق بسبب انعدام الإطار التنظيمي الذي يدعم ويسوق أفكار المثقف، وفي كلتا الحالتين يتجلى الفشل الدريع الذي مني به هذا الاختبار غير المباشر لولوج السياسة الذي اختاره المثقف، ففي الحالة الأولى يقع المثقف المدافع عن حريته ورؤيته النقدية ضد تسلط الدولة، يقع تحت تسلط آخر باسم الحزب، وباسم الأولويات والتكتيكات السياسية المتبعة من طرف الحزب مما يوقع المثقف في مفترق الطرق: إما أن ينصاع لاستراتجيات الحزب ويعمل وفق أولويات الواقع من جهة، ووفق الإطار الإيديولوجي للحزب من جهة ثانية، وبالتالي يقع تحت هيمنة الحزب بعد أن فر من هيمنة الدولة؛ وإما أن يظل مخلصا لأفكاره التي تكون أحيانا معارضة لاختيارات الحزب، فيقع الطلاق بين الطرفين، سواء بانقلاب الحزب على المثقف أو العكس، وتجربة المثقفين العرب اليساريين مع الأحزاب التقدمية والشيوعية طوال الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات خير مثال يمكن تقديمه على هذه العلاقة المتشنجة التي وقع فيها المثقف ضحية انتماءه السياسي المعلن، وضحية التوظيف السياسي من طرف الحزب لهذا الانتماء لخدمة الحزب وحده، دون الأخذ بعين الاعتبار الدور الاجتماعي للمثقف بعيدا عن الممارسة السياسية التي ما هي سوى محدد ضمن جملة محددات لصفة المثقف.
وهذه الحالة جعلت من علاقة المثقف بالسياسي أو بالدولة بعبارة أخرى علاقة متشنجة وغير سوية في العالم العربي؛ لقد حدد حليم بركات هذه العلاقة في أربعة نماذج، وقام بإعطاء أمثلة عن الكتاب والأدباء الذين يمكن أن يشكلوا عينة تمثلية عن طبيعة العلاقة الموجودة، وهذه النماذج كما حددها حليم بركات هي(
[4]):
- علاقة اللامبالاة : ونعثر عليها لدى أدباء اهتموا بالقصص الوجدانية والقضايا الفلسفية المجردة من أمثال ميخائيل نعيمة، ورئيف خوري .
- علاقة الاضطهاد : هذا شأن معظم الدول العربية، حيث القمع السلطوي الذي يسلط على المثقفين الرافضين والمعارضين للسلطة والناقدين لاختياراتها، فالسجن والنفي والتضييق على الحرية الشخصية هي القواسم المشتركة بين غالبية المثقفين العرب

- علاقة الوصاية : أيضاً معظم الدول العربية، حيث نجد أولئك المثقفين المدجنين والذين تحولوا لمجرد أبواق للمدح، يمكن أن نذكر هنا مثال أمير الشعراء احمد شوقي كشاعر بلاط، خاضع لوصاية وحماية القصر من جهة؟، ولا مبالي بالقضايا الجوهرية التي تعارض نظرة أوصيائه من جهة ثانية
- علاقة المشاركة: غير متوفّرة في أي بلد عربي، بما فيه لبنان بلد الحرية السياسة والفكرية ( مقارنة بباقي الدول العربية )، وحتى حين يكون هناك نوع من المشاركة، فإنها مشاركة لا متكافئة، تجعل المثقف يناضل من جهة للحفاظ على الحد الأدنى من حسه النقدي، ويقدم تنازلات لأجل الإبقاء على حبل الود موصولا مع السياسي.
هذه النماذج التي قدمها حليم بركات لطبيعة العلاقة بين السياسي والمثقف في العالم العربي، هي كلها تقريبا علاقات غير سوية، وذلك يعود لسبب طبيعة الأنظمة العربية التسلطية الراغبة والعالمة على السيطرة التامة على كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وهذه النماذج المقدمة هي نماذج غير جازمة، ولا مانعة لتقسيمات أخرى لطبيعة العلاقة بين السياسي والمثقف، هذا المثقف العربي الذي يقف حائرا بين متطلبات المجتمع، وما تنتظره منه الأمة والجماعة، وبين اكراهات السياسي وأنظمته التسلطية.
المثقف بين متطلبات المجتمع وإكراهات الدولة:
هناك ترابط بين الدولة والأمة والمرجعيات الثقافية المشكلة لوعي المجتمع الذي يتكون منه أفراد الأمة " فالدولة لرجل السياسة، والأمة لمرجعياتها الروحية والثقافية، والثقافة لمبدعيها"(
[5])، ولكن حين تسعى الدولة عن طريق أجهزتها السياسية والإيديولوجية لتأميم المجتمع ودولنته وقولبته وفق اختياراتها السياسية والإيديولوجية يقع الصدام مع المجتمع ومع مرجعياتها الثقافية التي يغذيها المثقف بإبداعه، وتعبيره عن جوهرها وتمثله لوعي أفرادها وتطلعاتهم، ويكون الصدام أكثر بروزا مع المثقف كناطق باسم المجتمع؛ ومن خلال هذا الصراع الذي تكون نتيجته في الغالب لصالح الدولة ورجل السياسة نظرا لما تمتلكه الدولة من قوة قمع ومن وسائل دعائية جبارة وقادرة على تغطية وإلغاء عمل المثقف أو تجريمه حين يتعارض تعارضا حادا معها.
نتيجة لهذا الصراع يقع المثقف أسيرا بين الإخلاص لروحه وجوهره ووظيفته الاجتماعية، أي انحيازه لإفراد أمته الذين استأمنوه ( ضمنيا ) على قيمهم الثقافية التي تغذي روح الأمة، وبين اكراهات السياسي الذي يعمل (وهذا نموذجه في العالم العربي ) على إلغاء المجتمع لصالح الدولة.
كما سبقت الإشارة فإن المثقف العربي وخصوصا في الوقت الحاضر غير متجدر اجتماعيا وبالتالي قليل التأثير في المجتمع إذا لم تتح له الأدوات اللازمة لهذا التأثير، هذه الأدوات التي يمتلكها رجل السياسة، أو بعبارة أدق الدولة من خلال وسائلها الإيديولوجية وامتلاكها لقوة القمع الشرعي، وانحسار قدرة التأثير في المحيط الاجتماعي تعود كما يشرح ذلك عبد الله العروي إلى التكوين النظري للمثقف والذي يجعله "يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق. هذا ما عبرت عنه بالانتقائية التي لا تمثل ظاهرة انفتاح وتوازن بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه وعدم تأثيره فيه"(
[6])، ومن هنا تبقى حاجة المثقف إلى دعم سياسي ضرورة قصوى إذا أراد لمشاريعه الفكرية والإصلاحية أن تتحول إلى واقع ملموس.
كان الإمام محمد عبده من أوائل رواد عصر النهضة الذين أدركوا ضرورة التحالف مع السياسي لتنفيذ مشاريع فكرية وإصلاحية، فما كان له أن يحول أفكاره في إصلاح مناهج التعليم بالأزهر لواقع ملموس لولا قدرته على التأثير في السلطة السياسية وجرها إلى تبني أطروحاته الإصلاحية، لقد كان مث
ال محمد عبده مثالا نادرا في التقاء المصالح والرغبات بين المثقف والسياسي، أما القاعدة العامة التي تحكم العلاقة بين الطرفين، فهي التنافر والريبة المتبادلة ومحاولة كل طرف احتواء الآخر، وحتى حين يتمكن المثقف من التواجد في المجال السياسي فإنه غالبا ما يتم تدجينه من طرف رجل السياسة، وتكون مشاركته للسياسي في إدارة الشأن العام سلبية ومسيئة لذاته كمثقف يفترض فيه الانحياز دوما لجوهر الأمة ومصالح أفراد أمته الآنية والمستقبلية، بعض المثقفين من ذوي النوايا الحسنة والغير واعين بتلك الاستراتجيات والألاعيب التي تستثمرها السلطة من اجل البقاء وتوسيع دائرة نفوذها، كانوا يظنون " أنهم من خلال الوظيفة السياسية سيتمكنون من تقديم أشياء نافعة لأمتهم. وربما تمكنوا من تحقيق بعض الإنجازات، ولكنهم بالتأكيد فقدا نقاءهم وصفاءهم، واضطروا للتحول إلى أفراد براجماتيين، يبررون عجز السلطة، ويدافعون عن أخطائها"([7])، وهنا يفقد المثقف مصداقيته ومشروعية تمثله لمصالح المجتمع إزاء اكراهات الدولة والسياسة.
فأن يكون المثقف مخلصا لذاته أي مثقفا نقديا ورجل دولة في نفس الوقت، فهذه هي المعادلة المستحيلة في العالم العربي التي لم تتحقق إلا في حالات نادرة، استطاع فيها المثقف من خلال نضاله أن يفرض نفسه كرجل دولة ويحتفظ في نفس الوقت بحسه النقدي اتجاه الدولة والمجتمع، هذه الحالة النادرة الحدوث التي يمكن أن نستشفها من خلال تجربة مصطفى الأشراف، هذا المثقف الجزائري الذي ساهم في صياغة " الإطار الإيديولوجي " للدولة الجزائرية كرجل دولة، وفي نفس الوقت ظل من القلائل الذين ينصتون بحساسية مفرطة لنبض المجتمع، إن تجربة الأشراف " تتلخص في أن يكون المرء موظفا ورجل دولة، وان يحاول في نفس الوقت التفكير في المجتمع وإدخال قيم جديدة كمثقف نقدي"(
[8]).
هذه العلاقة السوية بين المثقف والسلطة السياسية التي مثلتها تجربة الراحل مصطفى الأشرف، ظلت للأسف تمثل استثناء في الحياة السياسية والفكرية على امتداد العالم العربي، هي بكل تأكيد ليست الاستثناء الوحيد، لكنها لم تتحول لقاعدة يمكن أن تجسر الفجوة بين المثقفين وصناع القرار في العالم العربي، وتخلق ذلك التكامل المفقود بين القوة والعقل.
إن غياب هذه العلاقة التكاملية بين المثقف والسياسي في العالم العربي، هي نتيجة يمكن اعتبارها " طبيعية " لطبيعة النظام السياسي العربي، وطبيعة الدولة التي تمثل نموذجا فريدا للدولة التسلطية والشمولية، والتي بالرغم من مظهرها الديمقراطي الذي استعارته من الغرب فإنها في جوهرها ومن خلال آليات ممارستها للسلطة ظلت محافظة على النموذج التقليدي للسلطة كما عرفته التجربة التاريخية للعالم الإسلامي، أي السلطة المطلقة التي تجتمع في يد الرئيس / الأمير / السلطان / الملك، والتي يعتقد انه يستمدها من تفويض إلهي باعتباره خليفة الله على الأرض وأميرا للمؤمنين.
التجربة السياسية في الدول العربية حديثة العهد بالاستقلال مثلت نموذجا فريدا في تعامل الدولة مع المجتمع، حيث سعت الدولة عن طريق جهازها السياسي إلى دولنة المجتمع المدني وقولبته وفق اختياراتها الإيديولوجية، ومع هذا الإصرار الذي أبدته الدولة في استقطاب المجتمع لصالح مشروعها السياسي غلبت الممارسة السياسية على أي نوع من أنواع الممارسة الأخرى، ويمكن القول أن الدولة في صيغتها الاشتراكية ( وهي الصيغة التي هيمنت على اختيارات السياسيين عقب الاستقلال في جل الدول العربية) قد دخلت في صراع ضد المجتمع بغية احتواءه واستقطاب مؤسساته الأهلية وتحويلها لخدمة الدولة، بدل أن تكون الدولة في خدمة المجتمع، حيث أنه عقب الاستقلال الذي كان مفاجئا للكثيرين ( المغرب، تونس، سوريا، لبنان ...) وكان محضرا له في دول أخرى ( الجزائر ، مصر )
طغى العمل السياسي على غيره، وانشغل الجميع تقريبا ببناء جهاز
" دولة الاستقلال " على حساب وبواسطة مؤسسات المجتمع، ووقع الخلط والتداخل ( الذي خدم الدولة ) بين وظيفة السياسي ووظيفة المثقف، في حين أن لكل واحد وظيفة معينة يستوجب عليه القيام بها، " فرجل السلطة مقيد برؤية المصالح الآنية والنظر إلى آفاقها. بينما المرجعيات الروحية والثقافية هي الآلية التي تحكم بوعي وبدون وعي المسار العام والخاص لوعي الذات التاريخي للأمة "(
[9])، وتخلي المثقف عن دوره ووظيفته الاجتماعية تحت ضغط اكراهات ومطالب الدولة وانخراطه في الممارسة السياسية بشكلها الأكثر سطحية جعله يشتغل على الآني والمرحلي ويفقد عمقه ونظرته النقدية وقدرته على التعبير عن الوعي التاريخي للأمة بعيدا عن الوعي المرحلي المتسم بالتغير السريع.
في ظل هذه الظروف التي أوجدتها المرحلة الجديدة، مرحلة قيام الدولة الوطنية انقسم المثقفون في غالبيتهم إلى أربع فئات:
- مثقفون تكنوقراط مندمجون في تسيير دواليب الإدارة، وبالتالي تحولوا إلى فئة تستعمل الثقافة كتقنية وكسلعة قابلة للتبادل، وهي فئة مهادنة للسلطة السياسية، لأنها استفادت من ريعها وامتيازات القرب منها.
- فئة مبتعدة عن العمل العام وعن الشأن السياسي والثقافي معا، نحو المقاولات والاستثمارات الخاصة، بسبب منشأها البورجوازي وما تمتلكه من ثروة.
- فئة راديكالية مستمرة في انحيازها للمجتمع، ومعارضة بشكل حاد للسلطة السياسية.
- فئة مؤدلجة ومدجنة من طرف السلطة، تمثلت في المعلمين وبعض الصحافيين الذين مثلوا جهاز دعاية لإيديولوجية الدولة الوطنية.
ومن هنا فإن الدور الأساسي الذي لعبه المثقف العربي – وهو دوره الطبيعي في الأنظمة الحديثة – هو دور الوسيط بين الدولة والمجتمع، ليس باعتباره مجرد صانع معرفة، إنما باعتبار فئة المثقفين وفق هذا المنظور تمثل نخبة اجتماعية، فنحن عندما نتحدث عن المثقفين هنا بتعبير برهان غليون: " فنحن لا نقصد الأفراد من حيث هم مبدعون ومنتجون لمختلف القيم الفكرية والفنية والأدبية. كما إننا لا نقصد المثقفين من حيث هم فئة مهنية أو أصحاب حرفة متميزة عن مثيلاتها من الفئات الاجتماعية في أسلوب عملها ورزقها. إن المقصود بالمثقفين في السياق الذي نتحدث عنه هو جزء من النخبة الاجتماعية التي تهتم، في ما وراء حرفتها وبالاعتماد عليها معاً، بقضايا المصير العام "(
[10])، هذا الاهتمام بقضايا المصير العام، أوقع المثقف كفرد مندرج ضمن نخبة اجتماعية في حالة تقاطع من السلطة السياسية، وبالتالي في حالة صراع معها من اجل النفاذ للمجتمع والتأثير فيه، وهذا الصراع سببه نظرة الدولة الوطنية التي ترى من واجبها أن تكون صاحبة السلطة الوحيدة والمطلقة على المجتمع بكل فئاته، بما فيها فئة المثقفين، وهذه النظرة تتعارض تعارضا جوهريا مع خاصية لصيقة بجوهر المثقف وهي الحرية، الحرية التي تجعله يقف على مسافة آمنة بعيدا عن كل الاكراهات والضغوطات الإيديولوجية الممارسة من طرف السلطة سواء كانت سلطة سياسية أو اقتصادية أو سلطة رمزية ممثلة أساسا في الفقهاء الذين ظلوا يمارسون دور " حراس المعبد " والمدافعين عن القيم الدينية للمجتمع بالشكل الذي يرونه صحيحا، وهذا ما جعلهم في حالات كثيرة يمثلون سلطة قمعية ضد المثقف، خصوصا حين يقع التحالف بين السياسي والديني في الدولة، وهو واقع حال أغلبية الدول العربية التي توظف الديني من اجل خدمة إستراتيجيتها السياسية المعلنة أو المضمرة، ومن اجل ترهيب المعارضين السياسيين برميهم بتهمة المروق عن الدين والتعدي على قيم المجتمع الروحية، وهي تهم جاهزة يتفنن الفقيه في إشهارها في وجه خصوم السلطة.
وانطلاقا مما سبق، فإن دور المثقف العربي كوسيط بين المجتمع والدولة، وبالنظر للتجربة التاريخية القصيرة للدولة الوطنية في العالم العربي، هو دور لم يكتب له التحقق بشكله الطبيعي، بسبب طبيعة الدولة الوطنية من جهة، وبسبب طبيعة نشأة المثقف العربي من جهة ثانية، فالدولة الوطنية في التجربة السياسية العربية هي دولة حديثة وغير متجدرة لا سياسيا ولا اجتماعيا، فعقب فبداية من عصر النهضة ووصولا لفجر الاستقلال الذي انبلج في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية كان أمام " صناع هذه الدولة " اختياران أو " أنموذجان للدولة مرشّحان للاقتباس منهما, والاستفادة من التجربة الحضارية فيهما: أنموذج الدولة الإسلامية, كما رسمت معالمها التوجيهات الدينية، وكما تحقّقت في التجربة التاريخية، وأنموذج الدولة الغربية الحديثة, كما هي قائمة بالفعل في البلاد الأوروبية, على وجه الخصوص "(
[11])، وهي بصيغتها الحالية تمثل توليفا بين مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي التقليدي، ومفهوم الدولة في الفكر الأوروبي المستمد من فكر وفلسفة الأنوار الأوروبية؛ إنها وليدة الحداثة التي لم توطن بعد في العالم العربي ووليدة التنوير الأوروبي الذي لم يحط رحاله بعد في التجربة الحضارية العربية، فالتنوير كما يعرفه كانط هو : : "خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند الإنسان) خارج قيادة الآخرين. والإنسان (القاصر) مسؤول عن قصوره لأن العلة ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير"([12])؛ في نفس الوقت الذي تظل فيه وفية لنموذجها التاريخي في الواقع العربي الإسلامي كممثلة لإرادة الله فوق الأرض وإطار سياسي/ ديني حاضن لجموع المؤمنين، وهذا ما جعل منها دولة هجينة، لا هي دولة حديثة بالمفهوم الأوروبي الذي استعارت شكله الخارجي فقط، ولا هي دولة تعتمد على مشروعية دينية كما هو نموذجها التاريخي الممتد في التاريخ العربي الإسلامي.
أما بالنسبة لولادة المثقف العربي الحديث كمفهوم وكفاعل اجتماعي، فهو ظل أسير طبيعته الأولى في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، باعتباره سليل الفقيه، رغم انه عمل ومنذ التقاءه بالحداثة الأوروبية على القطع مع تلك الصفة بشكل حاد، فحاليا " ليس من الممكن القول إن المثقف الحديث الذي ولد في المجتمعات العربية المعاصرة هو السليل الطبيعي للكاتب أو للفقيه التقليدي، ولكنه بالعكس من ذلك تماماً النقيض المباشر له "(
[13]).
ومن هنا فإن المثقف العربي الحديث لم يعد سليل الكاتب أو الفقيه، في نفس الوقت الذي ظل فيه هذا المثقف ونتيجة لطبيعته الأولى التي انقلب عليها يسعى لاكتساب سلطة روحي
ة هي خاصية ملازمة للفقيه في الوعي الجمعي لإفراد المجتمع، هذه السلطة التي يسعى إليها المثقف كنوع من الامتياز الذي يضيف لقوته في مواجهة السياسي، هذه السلطة التي تمنحه لها صفته ككاتب في مجتمع أمي ترتبط الكتابة عنده بالمقدس( كتابة الوحي، وتدوين الحديث )، وبامتلاكه للمعرفة العلمية التي ترتبط هي الأخرى عند الفئات التقليدية والأفراد الذين لم يؤتوا العلم درجات، بالعلم الشرعي، ومن هنا فإن الاشتباك بين مفهومي الفقيه والمثقف لا يزال قائما في ذهن العامة من الناس، والمثقف العربي رغم تنديده ( في إطار نخبوي ) بهذه العلاقة الملتبسة بين المفهومين، فأنه يوظفها لصالحه، في علاقته بالمجتمع والسلطة معا، دون أن ينجح في إقناع السلطة بسلطته الرمزية على المجتمع، هذه السلطة الرمزية والروحية بالتحديد، هي خاصية لصيقة بالفقيه أي بالأب غير الشرعي للمثقف.
وانطلاقا من هذه الحالة تنتفي الحاجة لدى السلطة السياسية الممثلة للدولة، لوجود ذلك التواطىء مع النخب المجتمعية في تسير الشأن العام، والذي بواسطته تضمن السلطة استمراريتها ومشروعيتها في نفس الوقت " فالسلطة في معظم دول العالم متواطئة طبقيا ومؤسسيا مع النخب العاملة في إدارة السياستين الداخلية والخارجية، وفي الدول الشرقية عامة والعربية بشكل خاص يختفي التواطؤ بين الدولة والنخب المنتجة، حيث تملك الدولة كل مكونات الحياة السياسية ـ نستخدم هنا تعبير الحياة السياسية بمعناه المختفي والمجرد وليس بمعناه العياني ـ لذلك ليست لديها الحاجة إلى التواطؤ فالبيادق لا تملك الخيار "(
[14]).
وانطلاقا مما سبق فإن علاقة المثقف العربي بالسلطة السياسية ظلت محكومة بوضيعتين:
- وضعية التابع: وهي الوضعية الغالبة حيث نجحت السلطة السياسية في تدجين المثقف وتحويله لبوق من أبواقها الدعائية، ومنفذ لبرامجها واستراتيجياتها، من خلال توظيف جهده الفكري ومعارفه في إصباغ طابع الشرعية على هذه السلطة وتبرير اخفاقاتها، تسلطها وإيديولوجيتها، وتمجيد نجاحاتها في حالة وجودها، أو حتى خلق نجاحات وانتصارات وهمية لنظام سياسي تظل شرعيته مهزوزة في نظر عامة المواطنين؛ وهذا أسوأ دور قام ويقوم به المثقف العربي، لأنه يبعده عن وظيفته الحقيقة في المجتمع والمتمثلة في الدعوة للتغير وقيادته، والدفاع عن القيم المجتمعية.
- وضعية المعارض: حيث ظل المثقف منددا بفشل الدولة الوطنية والنظام السياسي في القيام بواجباته اتجاه المجتمع، والوفاء بالتزاماته ووعوده بالتنمية والتقدم، وهذه الوضعية جعلته، أي المثقف، في قائمة المغضوب عليهم من طرف السلطة، التي ضيقت عليه مجال الحرية، وصادرت فكره بواسطة أجهزتها القمعية، بالإضافة إلى التنكيل به عن طريق النفي والسجن والتصفية الجسدية في بعض الأحيان.
هذه الوضعية الثانية رمت بالمثقف العربي إلى أحضان الغرب، الغرب الذي تصوره المثقف العربي كحام للحرية والعدالة، وكقلعة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذه الحالة الانقسامية التي يعيشها المثقف العربي بين انتماءه الوطني من جهة، وحاجته الدائمة للغرب كمرجعية فكرية، وكسند سياسي قادر على حمايته – إذا أراد ذلك - من تعسف النظام السياسي من جهة ثانية، تمثل مظهرا آخر من مظاهر أزمة المثقف العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- [1] ميثم الجنابي، المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع
http://www.assuaal.com/essies/essies.125.htm
طلال يوسف، التفاعل الايجابي بين المثقف العربي وقضايا الامة. أيمن - [2]
http://www.nadimalbitar.net/modules.php?name=News&file=article&sid=13
- بن يمينة السعيد، المثقف العربي والسياسي في الوطن العربي تأثير أم احتواء. [3]
http://www.ulum.nl/d11.html

4 - انظر، حليم بركات، من هو المثقف. http://www.dctcrs.org/s3625.htm

- ميثم الجنابي، مرجع سابق.[5]
6 - عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، الرباط، 1992، ص 176
[7] - يوسف مكي، في العلاقة بين السياسي والمثقف. http://www.assuaal.com/essies/essies.124.htm

8 - عبد القادر جغلول، عن عمار بلحسن، انثلجانسيا أم مثقفون في الجزائر، دار الحداثة، بيروت، 1986، ص 63.
- ميثم الجنابي، مرجع سابق.[9]
10 - برهان غليون، المثقفون ودورهم في النظام السياسي الحديث
http://www.balagh.com/thaqafa/9u0wd9k3.htm
- عبد المجيد النجار، هل عطلت الدولة العربية الحديثة نهضة الأمة . [11]
http://www.alarabnews.com/alshaab/gif/26-07-2002/a6.htm
- عن، بن يمينة السعيد، المثقف العربي والسياسي في الوطن العربي تأثير أم احتواء. [12]
http://www.ulum.nl/d11.html
- برهان غليون، مرجع سابق.[13]
[14] - سامي داوود، مأسسة النخب http://www.assuaal.com/studies/studies.126.htm




الخميس، سبتمبر 11، 2008

معك، وبعيدا عنك

الآن، كم أنا وحيد وحزين بعيدا عنك، وفي حضرة جلالة هذا الحضور الباهت الذي يدثرك قريبا مني، وبعيدا عن روحي، روحي التي كانت تحج إليك، أينما كنت في تلك المنافي الكثيرة، والديار القصية التي لم يتعبني السير إليها يوما، لأني دوما كنت احمل لك حلما، ووعدا وأشجانا، وعدتك أن أهبك وردة بيضاء، ومعصما من حرير.
وعدتك كثيرا ووعدتني كثيرا، ومنيتني طويلا أن يكون لقاءنا عرسا أسطوريا، ويكون لنا بيتا جميلا وأطفالا مشاكسين مثل عينيك المراوغتين في خفر.
والآن، معك أنا، وأنتي معي، وحيدين
، وبعيدين جدا عن لوعة الشوق التي كانت تسكننا وتسلمنا للاماني العريضة، ليس بيننا الآن سوى هذا الصمت العريض، والارتياب الذي لا ينتهي، ريبة الحب وارتياب الأشواق التي أخطأت طريقها يوما، ولامست قلوبا أخرى، لا قلبي أنا ولا قلبك أنت

قلوب أولئك الذين مروا بالقرب منا في تلك الرحلة الطويلة التي مشيناها بحثنا عن مكان للقاء، لقاء أتى متأخرا، أتى بعد أن هدأت نبضات القلب وخفت أهازيج الروح الواعدة بحب وشوق لا ينتهي.
حين التقينا يا حبيبتي بعد كل هذا العمر الذي قضيناه في انتظار شيء ما، ووعد قطعناه للحنين، اخلف الحنين موعده معنا، وتاهت الأشواق عن مكان لقاءنا الحميم والبارد جدا
الآن يا آية الحب الكبرى في زمن لا حب فيه، لا حب دائم يسكنه، ولا شوق مقيم يعتريه، زماننا هذا، الذي أنا وأنتي فقط فيه والصمت بيننا، ضحايا رحلة العمر الطويلة في انتظار هذا اللقاء، في انتظار شيء ما خالج القلب، وتاهت وذهلت عنا خلجاته الآن، كم كانت طريقنا سعيا لبعضنا قاسية وقادرة على إفراغ القلب من أشواقه، تبددت الأشواق بعيدا، تقاسمتها القلوب العابرة رفيقة الدروب الوعرة.

الأربعاء، سبتمبر 03، 2008

أزمة المثقف العربي ( 3 )

الاتجاهات الفكرية لعصر النهضة
"نحن بحاجة إلى استعادة روح رجال النهضة وما تميزوا به من جرأة وصدق وتفاؤل" هذا ما نصح به المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي المفكرين العرب الراغبين في دخول الحداثة والإفادة مما توصلت إليه خلاصة التجارب العالمية في التقدم والتحديث والتنوير، أورد العروي هذه النصيحة في ختام كتابه: " مقدمات ليبرالية للحداثة" الصادر في بيروت العام 2000؛ فما مدى تمكن العرب من الاستفادة أولا، من ذلك الفكر الثر الذي أنتجه رواد النهضة العربية وهم يعملون كل ما بوسعهم من اجل رسم الطريق الموصلة نحو الرقي والتقدم و الانعتاق من ربقة عصور الانحطاط الطويلة والمريرة والتي خيمت على العالم العربي الإسلامي طويلا، وثانيا الاستفادة من تلك الروح المتفائلة التي ميزت الفترة التي اصطلح على تسميتها بعصر النهضة والتي يؤرخ لميلادها بحملة نابوليون على مصر سنة 1798(
[1]) والتي امتدت إلى غاية أواخر النصف الأول من القرن العشرين.
إن الفكر العربي المعاصر، وبعد ت
لك الهزات العنيفة التي عايشها طوال النصف الثاني من القرن العشرين بداية من نكسة 1967 ووصولا إلى هيمنة القوى الاسلاموية على الشارع العربي وتمكنها من فرض وصاية مقيتة على الفكر الحر بقوة التكفير التي تشهرها في وجه كل مخالف، مرورا بسقوط شعارات القومية والوحدة والمصير المشترك التي انهارت تباعا بفعل قوة الأحداث التي عايشها العالم العربي طوال تلك الفترة بداية من اتفاقية كامب ديفيد ووصولا لغزو العراق للكويت سنة 1990 وانتهاء بسقوط بغداد، حيث صار أي حديث عن وحدة عربية ومصير مشترك مجرد ترهات لا يصدقها الواقع.
في ظل هذه الظروف غاب فكر رواد النهضة وحدثت تلك القطيعة بين مثقف اليوم ومثقفي عصر النهضة، ومع هذه القطيعة انقطع الحبل السري الذي يغذي الفكر العربي بمرجعيات ثرية لا تزال صالحة لاستئناف حركة النهضة والبعث أو التنوير العربي الذي لم يكتمل؛ لهذا نجد أنه من واجبنا الآن وفي هذا الظرف تحديدا الذي يمثل لحظة مخاض عسير في تاريخ الفكر العربي، من واجبنا أن نعيد وصل ما انقطع من اجل أن تكون لنا رؤية سليمة وواعية وذات جذور اتجاه الواقع، والاستفادة من أخطاء الماضي بنقد عصر النهضة من جهة، والاستفادة من عناصره الحية من جهة ثانية، والتي يمكن بناءا عليها أن نهيأ نحن معشر المثقفين الجو العام لاستئناف الفعل النهضوي.
الاتجاهات الفكرية لعصر النهضة العربية:
بداية وقبل التطرق للاتجاهات الفكرية التي هيمنت على فكر عصر النهضة، يجب علينا منهجيا القيام بتحديد مفهوم النهضة، هذا التحديد الذي تأخرنا في إعطاءه سابقا أثناء تناولنا لبدايات النهضة وكان الغرض من إيراده هنا هو ربط المفهوم بالجو الفكري العام الذي ساد تلك الفترة التاريخية من حياة الأمة العربية والإسلامية، لان النهضة كمفهوم تتقاطع في الذهن مع مفاهيم أخرى مقاربة لها من حيث الدلالة والمعنى كالتحديث والتنمية والإصلاح والرقي والتقدم، وغيرها من المفاهيم التي كانت ولا تزال متداولة في الحقل الفكري العربي.
بعيدا عن التحديد اللغوي لكلمة نهضة والمستمدة من الجذر اللغوي " نهض" و ينهض نهضاً و نهوضا نهض و النهوض البراح من الموضع و القيام عنه . و انتهض أي قام .. و النهضة الطاقة و القوة، فالنهضة لغويا تعني القيام من مكان إلى آخر، وهي تحمل بداخلها قوة وطاقة تساعد على هذا الانتقال، أما المعنى الاصطلاحي للنهضة فهي: "نظرية الصعود من درجة إلى أعلى ، أو هي إيصال العرب إلى مستوى الحضارة الكونية و هي هبة مجتمعية تسعى إلى إكساب الحضارة القومية قدرتها على إنتاج المعارف و المهارات في تعامل متكافئ مع الحضارات الأخرى "(
[2]).
فالنهضة هي هبة مجتمعية كما اشرنا إلى ذلك وبالتالي فهي تعني أن كل أفراد المجتمع يساهمون فيها، غير أن النهضة العربية هي بالأساس نهضة قامت بها النخبة العربية، النخبة الفكرية على وجه التحديد، وأيضا ساهمت فيها ولو بنسبة بسيطة النخبة السياسية وخاصة في مصر مع محمد على باشا الذي فتح أبواب التحديث العسكري والصناعي، في حين اهتمت النخب الفكرية والإصلاحية بالجوانب الأخرى الفكرية والمجتمعية، وهذا ما خلق نوعا من التكامل بين المجهودات التي أوجدت عصر النهضة.
فالنهضة هي محصلة لعملية تغيير واسعة مست جوانب عدة من الحياة العربية، وكما يرى علماء الاجتماع، فإن أي تغيير يكون مدفوعا بعاملين: عامل ذاتي ينبع من الظروف الخاصة لمجتمع معين، وعامل خارجي يكون نتيجة الاحتكاك بالآخر وثقافته التي تؤثر عن طريق عملية التثاقف في الذات وتدفعها نحو التغيير، سواء قصد تمثل الآخر إذا كان أكثر تفوقا وهو ما حصل مع العرب لحظة التقاءهم بالغرب، أو بغية تجاوز بعض المعيقات التي تقف في وجه الذات وفي سبيل سيرها الطبيعي نحو مراحل أكثر رقيا من المرحلة الراهنة، وبالتالي فنحن عندما نطرح السؤال المنهجي والضروري لفهم أسباب قيام النهضة العربية: كيف حدثت النهضة؟
فنحن نكون دائما بصدد استحضار الآخر، والآخر الأوروبي على وجه التحديد، لان دور أوروبا كان حاسما وجوهريا في النهضة العربية التي لم تكن بسبب ذاتي، نظرا لان العرب كانوا في تلك الفترة التاريخية وما سبقها من فترات انحطاط طويلة، كانوا مستسلمين بإيمان قدري غبي لحالة التخلف والانحطاط، ولم يبادروا بالنهضة إلا عندما التقوا بالغرب المتقدم الذي اكتشفوا في مرآته مقدار تخلفهم وبالتالي فرض عليهم ذلك التحدي الحضاري الذي استوجب عليهم وعلى القوى الحية داخل الأمة أن تبادر بعمل يعيد للعرب مكانتهم الحضارية والعالمية المفقودة.
بداية النهضة كانت نتيجة محاولة التحديث القصرية التي قام بها السلاطين العثمانين وكذا الحكام الخدويين في مصر، لكن سرعان ما تلقفها المفكرون والاصطلاحيون الذ
ي وجدوا الفرصة المواتية وهم يستقبلون رياح التنوير الوافدة من أوروبا، لعمل شيء ما يساعد الأمة على النهوض واستعادة قيمها الأصيلة التي جعلت العرب في الماضي قوة حضارية كبرى من جهة، ومن جهة ثانية الإفادة من النهضة الأوروبية وعصر التنوير الأوروبي بنقل تلك التجربة النهضوية للآخر الأوروبي ومحاول استنساخها عربيا مع إجراء بعض التعديلات عليها حتى تتماشى وخصوصيات المجتمعات العربية الإسلامية.
وانطلاقا من ثنائية الذات والآخر أو العرب والغرب انقسم المفكرون العرب المبشرين بالنهضة إلى تيارات فكرية متعددة، اتفقت على ضرورة النهوض والقيام بحركة فكرية واجتماعية تعيد العرب لسالف مجدهم، ولكنهم في المقابل اختلفوا في الطريق الموصلة إلى هذه النهضة المنشودة؛ فأنتجت النهضة العربية تيارات فكرية رئيسية وأخرى فرعية داخل كل تيار، تلك التيارات الفكرية الرئيسية والتي سبق الحديث عنها بإيجاز واختصرناها في ثلاث تيارات رئيسية هي:
- التيار القومي العلماني.
- التيار السلفي الإصلاحي.
- التيار السلفي الأصولي.
بداية لابد من الإشارة إلى ملاحظة مهمة فيما يخص التيارات الفكرية المهيمنة على فكر النهضة العربية، وهي أن التيار الليبرالي العربي كان السباق والمبادر بالتغيير، وبالتالي ظل هو المهيمن على فكر النهضة وتحت لوائه انضوت التيارات الأخرى، خصوصا في المرحلة التأسيسية للنهضة العربية والتي يحددها حليم بركات بالفترة الممتدة من 1798 حملة نابوليون على مصر إلى 1914 بداية الحرب العالمية الأولى، حيث وبعد هذه المرحلة التأسيسية أي بعد الحرب العالمية الثانية كان بروز التيارات القومية والاشتراكية لافتا للانتباه، واستطاعت اخذ قصب السبق من التيارات الدينية الإصلاحية في قيادتها للحركة الفكرية العربية التي كانت استمرارا ( لحقه الكثير من التغيير ) للفترة التأسيسية للنهضة العربية.
ولكن قبل المضي قدما في تتبع مصير وصيرورة النهضة وكذا الخيبة التي منيت بها لاحقا ابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية، نعود إلى التطرق بشيء من التفصيل للتيارات الفكرية المهيمنة على فكر النهضة العربية، والتي يمكن اختصارها في تيارين رئيسيين تسهيلا للتناول وأيضا لان التيار السلفي أو الديني رغم اختلاف منطلقاته الفكرية بين السلفية الإصلاحية ( الأفغاني ) والسلفية الأصولية ( الوهابية ) إلا انه يلتقي عند نقطة مركزية وهي الإيمان بضرورة الإحياء الديني وان الولاء يكون للعنصر الديني بالأساس ثم للعناصر الأخرى التي لم يكن السلفيون اصطلاحيون أم أصوليون يرون فيها سوى عناصر يمكن الإفادة منها في تقوية العمران والاجتماع الإنساني القائم على الدين.
إذن، فقد كان التيار الديني الذي انطلق في بداية القرن التاسع عشر ميمنا بشكل كبير على بدايات عصر النهضة العربية، والذي كان يدعو لضرورة تقوية الخلافة الإسلامية في وجه الزحف الأوروبي، سواء من خلال فكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها جمال الدين الأفغاني وأتباعه وتبناها السلطان عبد الحميد لاحقا لما رأى فيها فرصة ثمينة لتقوية نفوذه على الولايات العربية الخاضعة للحكم العثماني، وأيضا لترهيب القوى الأوروبية الطامعة في اقتسام ممتلكات الرجل المريض ( الخلافة العثمانية )، أو من خلال دعوته للإصلاح الديني وتنقية الإسلام من الشوائب التي لصقت به خلال فترات الانحطاط الطويلة، وقد انقسم هذا التيار إلى ثلاث جماعات أو تيارات رئيسة هي:
- تيار أو جماعة تقليدية متكونة من الفقهاء التقليديين ذوي المصلحة في بقاء السلطنة العثمانية مهيمنة على الدول العربية، وأيضا في بقاء الظروف الاجتماعية على ما هي عليه لان أي تغيير يهدد مصالحها من جهة، ولان الدعوات الإصلاحية التي كانت تتبناها التيارات الأخرى، كان أصحاب هذا الاتجاه يرون فيها دعوة مستترة للتغريب وإفراغ الإنسان المسلم من انتمائه الديني التقليدي، هذه الفئة ارتبطت بالخلافة العثمانية، كما ارتبطت باسم أبو المهدي الصيادي ( ت 1900) الذي ساهم مساهمة فعالة في اضطهاد رواد الإصلاح أمثال الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده، وعرف بمعاداته الشرسة لكل محاولات الإصلاح خصوصا ما يتعلق بالدستور والتمثيل النيابي، وبصفته مستشارا للسلطان عبد الحميد، فقد لعب دوار كبيرا في تراجع السلطات عن العمل بالدستور وأيضا التمثيل النيابي من خلال حل البرلمان المنتخب.
- التيار السلفي الإصلاحي: والمتكون من جماعة من رجال الدين والفقه رأوا في الإصلاح ضرورة يفرضها العصر وبالتالي بادروا بالإصلاح انطلاقا من رؤية دينية لا تهمل منجزات العصر والأفكار الوافدة من الغرب، هذه الجماعة " اهتمت بإحياء الدين الإسلامي والعودة به إلى نقاوته الأولى ،والتي انتقدت المؤسسة الدينية الرسمية، وعارضت السلطة في كثير من الأحيان . أبرز ممثلي هذه الجماعة السلفية :
جمال الدين الأفغاني ( 1839 ـ 1898 ) الذي حاول أن يزاوج بين الأخذ ببعض منجزات الحضارة الأوربية ( الحكم الدستوري ،العقلانية ، ..) ، وبين الدين الإسلامي ، على أن يظل الولاء الديني هو الولاء الأساسي ، الذي ينبغي أن تقوم على أساسه
الجماعات البشرية ، وهو ما جعله يدعو إلى الجامعة الإسلامية .ويعتبر كل من الشيخ محمد عبده(1849 ـ 1905 ) ومحمد رشيد رضا(1865 ـ 1935) من تلاميذ وأتباع الأفغاني ")[3](.
يرى تيار السلفية الإصلاحية أن سبب تدهور حال الأمة هو إهمال ما كان سببا في التقدم، أي الدين وجوهره الصحيح، وقيمه الأصيلة التي كانت وراء سيادة العرب والمسلمين في فترات لسابقة، ومن هنا فإن أي تقدم لا يكون إلا بالعودة أي الينابيع السليمة والصافية للدين الإسلامي الحق، البعيد عن تفسيرات فقهاء المؤسسة الرسمية الذين يحملهم أنصار السلفية الإصلاحية الجزء الأكبر من وزر التخلف الذي تتخبط فيه الأمة، " وبالتالي فإن عوامل نهوض الأمم تقوم على: تحرير العقل من الخرافات والأوهام وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد ، وفتح باب الاجتهاد "(
[4])، وقد ظل لهذا التيار أتباع في كل العالم العربي حتى بعد فترة تراجع مقولات أمام التيارات الأخرى وابرز من مثلوا استمرار يته لاحقا جمعية العلماء المسلمين في الجزائر التي خاضت حربا ضد الصوفية ولو أنها لم تهتم بالشأن السياسي كثيرا نظرا لتركيزها على الجانب الديني والاجتماعي
- التيار السلفي الأصولي: هذا التيار تمثل في حركات الإصلاح الديني التي عرفتها شبله الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، وأيضا في الحركة السنوسية بليبيا، والحركة المهدية بالسودان، التي كانت كلها حركات دينية محضة حاولت إصلاح الشأن الديني دون الالتفات للشأن السياسي والاجتماعي، وبالتالي لم يكن لها دور كبير في حركة النهضة العربية، خصوصا في المرحلة التأسيسية، وتأثيراتها كانت محلية لم تتجاوز في غالب الأحيان الرقعة الجغرافية التي وجدت في نطاقها، مع أن الحركة الوهابية سيكون لها دور كبير لاحقا في تاريخ شبه الجزيرة العربية، بعد قيام المملكة العربية السعودية، وتبني آل سعود للمذهب الوهابي كمذهب ديني ( إسلامي ) وحيد والعمل على تصديره لباقي البلدان العربية والإسلامية.
هذه التيارات الثلاث، هي التيارات الرئيسة داخل التيار الديني الذي بادر بالإصلاح وقاد رواده النهضة العربية وخصوصا التيار السلفي الإصلاحي الذي لعب دورا كبيرا وحاسما في حركة النهضة العربية.
ولكن وموازاة مع التيار السلفي الإصلاحي كان هناك تيار آخر علماني قومي بدأ بالبروز مع المعلم بطرس البستاني ( 1819 – 1891 ) الذي يعتبر رائد التيار القومي في العالم العربي، ورائدا من وراد النهضة العربية، كان ولا يزال لأرائه وأفكاره تأثير كبير على النخب الفكرية العربية، وهو
صاحب مقولة: " حب الوطن من الإيمان"، فقد كان بطرس البستاني يرى الوطن كبديل للخلافة لهذا دعا هو وأتباعه من التيار القومي، إلى ضرورة تبني فكرة الدولة / الأمة التي تعتبر بديلا ممكنا للدولة الشمولية التي مثلتها الخلافة على امتداد التاريخ الإسلامي، وقد رفع أنصار هذا التيارات شعارات وطرحوا أفكارا معارضة في جوهرها للأفكار التي نادى بها التيار السلفي حيث " شدد هذا التيار على الهوية القومية كبديل للخلافة أو الجامعة الإسلامية ، وعلى العلمانية كبديل للسلطة الدينية ، وعلى العقلانية كبديل للإيمانية المطلقة ، وعلى التحرر الاجتماعي (وخاصة تحرر المرأة) كبديل للنزوع التقليدي ، وعلى التطلع نحو المستقبل كبديل للتطلع نحو الماضي ، وعلى الوعي القومي كبديل للوعي الطائفي والقبلي والمحلي ، كما ونادى بأفكار الاندماج الاجتماعي ، وضرورة إحياء اللغة العربية والإقبال على التعليم الحديث"([5])، ومن ابرز ممثلي هذا التيار بالإضافة إلى المعلم بطرس البستاني نجد:إبراهيم اليازجي (1847 ـ1906 ) ، يعقوب صروف(1852 ـ 1927) ، جرجي زيدان(1861 ـ 1914) ،قاسم أمين (1863 ـ1908) صدقي الزهاوي (1863 ـ 1936 ) ، محمد كرد علي(1876 ـ1953) ،رفيق العظم(1865 ـ 1924) ، شكيب أرسلان (1869 ـ 1945 ) ، أحمد لطفي السيد(1872 ـ 1936) ، ولي الدين يكن (1873 ـ 1921) ، معروف الرصافي(1875 ).
لقد كان هذا التيار من المؤيدين لضرورة زوال دولة الخلافة لصالح قيام دول وطنية مستقلة بذاتها، لهذا كانت دعوات بطرس البستاني لوطنية لبنانية مثلا ( باعتباره لبنانيا ومهموما بما يحدث في وطنه ) تقوم على أساس الانتماء للبنان بعيدا عن الانتماءات الطائفية والعرقية والدينية، ولهذا كان يرى في العلمانية غير الملحدة نظاما يمكن من خلاله تكريس الانتماء للوطن وإبعاد فتيل الأزمات التي تحدث بسبب الدين والعرق، لقد كان التنوع العرقي والطائفي في بعض دول المشرق العربي كلبنان وسوريا ومصر من جهة، ومحاولة السلطنة العثمانية إلغاء ذلك الصراع الطائفي والعرقي لصالح إيديولوجية واحدة مفروضة من طرف الباب العالي لا يؤمن بها غالبية أفراد الأمة من جهة ثانية، سببا في تبلور أفكار هذا الاتجاه القومي العلماني الذي أنتج خطابات متميزة على المستوى الفكري ومبادرات عملية على المستوى العملي من خلال إنشاء الصحف والمدارس والجمعيات السرية والعلنية التي تكفلت بنشر مبادئه وأفكاره ومع هذا الاتجاه "برزت مقولات نهضوية ذات طابع نوعي ولم تكن معروفة في السابق. منها الدعوة إلى المساواة والديمقراطية وفصل السلطات والمجالس البرلمانية المنتخبة والتمثيل الشعبي وحقوق الإنسان ورفض الاستبداد وتبني مقولات الليبرالية الاقتصادية، وحق المرأة في التعليم والعمل ونشر مفاهيم التمدن والتحديث والتقدم، والعلمانية غير الملحدة والدعوة إلى الوطنية ومعها الدولة الوطنية، والقومية ومعها الدولة القومية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها ورفض كل أشكال الاستعمار والسيطرة الخارجية."(
[6])
وغير بعيد عن هذا التيار يمكن أن نعثر على تيار فكري آخر قريب جدا من هذا التيار ولكنه أكثر راديكالية منه تمثل في:
التيار التقدمي الثوري: هذا التيار المشبع بالأفكار الاشتراكية التي بدأت تغزوا العالم بداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سواء كانت اشتراكية طوباوية أم اشتراكية علمية، كان متأخر الحضور في الحياة الفكرية لعصر النهضة العربية، ولكنه لعب دورا محوريا في فترات لاحقة أي بعد الحرب العالمية الأولى، حيث انه استفاد من مقولات تيار البستاني المتعلقة بالوطنية والعلمانية، وزاد عليها بعضا من أفكاره الخاصة المستمدة من الاشتراكية كالعدالة الاجتماعية والمساواة ومحاربة الاستغلال وغيرها من المقولات العزيزة على الاشتراكيين والماركسيين، وهذا التيار سيلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية والفكرية للعالم العربي من خلال الأحزاب الاشتراكية والشيوعية التي سوف تتأسس بداية من الحرب العالمية الأولى في العديد من البلدان العربية انطلاقا من الأفكار التي نادى بها هذا التيار، ومن أهم وابرز ممثلي هذا التيار نذكر: عبد الرحمن الكواكبي(1845 ـ1902) ، شبلي شميل (1850 ـ 1917) ، فرح أنطون(1847 ـ1922) سلامة موسى(1887 ـ1958) الذي يمكن اعتباره مخضرما بسبب معايشته كل من مرحلة النشأة والمرحلة التالية لها( مرحلة مابين الحربين ).
خلاصة
ما يمكن استخلاصه من خلال استعراضنا لأهم التيارات الفكرية التي كانت سائدة في عصر النهضة العربية، هو أنها جميعا تيارات قاربت الواقع وبحثت عن أسباب التخلف انطلاقا من العقل، فباستثناء التيار السلفي الأصولي الذي كان تيارا دينينا محضا هدفه كان الإحياء الديني وتخليص الدين مما لحق به من شوائب خلال فترات الانحطاط بالرجوع إلى النبع الصافي للإسلام، فإن التيارات الأخرى جميعا كانت تيارات عقلانية بشكل من الإشكال حاولت توظيف العقل والاجتهاد دون تجاوز الدين، وبالتالي ضرورة أن تقوم النهضة العربية على ثنائية العرفان والبرهان بلغة المتصوفة، فالعقل والاجتهاد هو القاسم المشترك بين جميع هذه التيارات التي اختلفت مع بعضها البعض في أمور أخرى كثيرة ومتعددة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] 1 - على الرغم من اتفاق معظم المؤرخين لبداية النهضة العربية على اعتبار سنة 1798 ( حملة نابوليون على مصر) بداية للنهضة العربية ، إلا أن هناك تحديدات أخرى وبدايات مختلفة حسب كل مؤرخ ويمكن إجمال أهم الآراء حول بدايات النهضة العربية في النقاط التالية: يؤرخها فاروق ابوزيد بـ 1828 الذي هو تاريخ نشأة الصحافة العربية ،ويؤرخها حليم بركات بـ 1798 وهو تاريخ الثورة الفرنسية ويطلق عليها تسمية المرحلة التأسيسية ، ويؤرخها البعض بظهور الوهابية على يد محمد بن عبد الوهاب[1703 ـ 1792] وشقيقتيها السنوسية والمهدية ،ويؤرخها البعض بتأسيس الجامعة الإسلامية على يد جمال الدين الأفغاني [1838 ـ 1897 ] ، ويبدؤها العديدون بدخول نابليون إلى مصر وجلبه لأول مطبعة عربية وهي مطبعة بولاق سنة 1803 ، ويقرنها آخرون بظهور محمد علي باشا في مصر ...الخ )

- زكي طاهر محمد العليو، النهضة في الوطن العربي ..البدايات والآفاق [2]
http://www.balagh.com/islam/1p0owuf7.htm

- احمد الزغبي: مدخل منهجي لدراسة الفكر الاجتماعي العربي الحديث. [3]
http://www.arraee.com/modules.php?name=News&file=article&sid=18412

- نفس المرجع.[4]
- احمد الزغبي مرجع سابق[5]
[6] - مسعود ضاهر، المعلم بطرس البستاني ومأساة رواد النهضة بنا!
http://www.almustaqbal.com/nawafez.aspx?StoryID=106764

conter