الاثنين، يوليو 27، 2009

في نقد التدوين

إن أهم عائق أمام تطور حركة التدوين العربية هو كون غالبية المدونين العرب لم يحسموا امرهم فيما سيكتبون عنه قبل ولوج التدوين فالتدوين بالنسبة للغالبية منا استجابة للحظة وللمستجدات خصوصا بالنسبة للمدونات ذات الطابع السياسي المنشغلة بملاحقة المستجدات السياسية الوطنية والدولية، والغارقة في النقد لأجل النقد بطريقة تخبر عن مراهقة سياسية مقيتة، رغم كون غالبية من يتصدون للكتابة عن السياسة كثيرا ما يقرنون اسمهم بصفة الدكتور أو الكاتب الصحفي وغيرها من الصفات التي يبتغون من وراءها إعطاء مشروعية ما لما يكتبونه في عالم التدوين، ومن ثمة تحصيل مكانة وسط المدونين الذين يتشكلون في الغالب من مجرد متعلمين وجدوا الفرصة المواتية من خلال المدونات لممارسة هواية الكتابة.
ينحدر غالبية المدونين من الطبقة الوسطى أو بتعبير المدون الفيل من الأفندية الصغار، و الطبقة الوسطى تعتبر من منظور ماركسي هي الحاملة لقيم التغير والحاملة أيضا لمشروع حضاري تريد تحقيقه في المجتمع، لهذا فهي طبقة قلقة، راغبة في الارتقاء في نفس الوقت تظل مسكونة بهاجس السقوط ، وهذا الوضع القلق للفئة الاجتماعية التي ينحدر منها غالبية المدونين ذو فائدة تحليلة حين نسعى لمقاربة توجهات المدونين نحو النقد السياسي ونحو الكتابة الفكرية، حيث الميزة المشتركة بين جل المدونات الحاملة لقيمة فكرية هي الرفض والنقد والحماسية، وفي نفس الوقت الميل نحو المحافظة التي تعبر عن رغبة ملحة لدى المدونين للانسجام مع القيم المجتمعية السائدة، والحرص على التماثل الاجتماعي الذي يحرص عليه كل من له مصلحة في لعب دور سياسي واجتماعي معين يحتاج لتأييد فئات واسعة من المواطنين.
فميل المدونين لتبني القيم المجتمعية السائدة وعدم الخروج عنها، يحصر العملية التدوينية في كونها إعادة إنتاج للمقولات السائدة والمكرسة في الواقع، في الوقت نفسه يتحول التدوين إلى عملية اجترار لا تظيف أي جديد للخطاب الثقافي السائد في الحقل الثقافي العربي، حيث الهيمنة الكبيرة للخطابات الدينية وللنقد السياسي الذي ينتقد بدون دليل، وهذا الميل المحافظاتي على المستوى القيمي والاجتماعي من جهة، والنقدي على المستوى السياسي من جهة ثانية الذي يسم جل المدونات العربية لم ينتج في النهاية وبعد سنوات قليلة من بداية التجربة التدوينة العربية سوى خطابات منغلقة على ذاتها ورافضة للاختلاف والحوار رغم الإدعاءات الكثيرة باحترام الرأي والرأي الآخر، فكلمات مثل التغيير، الحوار، الاختلاف، العقلانية ، التسامح، وغيرها من الكلمات ذات المدلول الفلسفي العميق التي تحيل على ذهنية متفتحة قادرة على محاورة نفسها والآخر بأسلوب حضاري هي كلمات غائبة بشكل كبير عن فضاء التدوين، لأن المدونون العرب مسكونون أساسا بصناعة إسم، ومهوسون في نفس الوقت بتلك الطهرانية المقيتة التي يرفعونها كشعارات لاضطهاد الآخر المختلف ورميه بالفسق والفجور والمروق لمجرد الإختلاف في الرأي.
فثقافة المدونين مدرسية في الغالب، وهذه الثقافة المدرسية هي التي تجعلهم يقولون ويكتبون فقط ما يحضى بالقبول من مجموع المتلقين، وهنا يتم إلغاء الذهن المتقد القادر على النقد والقادر على الاختلاف لأجل تماثل إجتماعي وفكري ولأجل قولبة للمفاهيم والقيم عموما في عالم منفلت من من الرقابة الايدلوجية للسلط القمعية
يقوم بعض المدونين بمهمة حراس المعبد المقدس، مثلا بعض الاتحادات كالاتحاد الفدرالي للمدونين ظل ولفترة طويلة يقدم نفسه من خلال ما ينشره بعض اعضاءه ومن خلال بعض الحملات التي قام بها على أنه القيّم والحارس لكل القيم الدينية والثقافية التي تحظى بنوع من الاجماع في الوسط الاجتماعي، كذلك بعض المدونين المنفردين والذين لا ينتمون لاتحاد معين او مؤسسة ما، وغالبا هم أولئك الكبار سنا يمارسون نوعا من الأبوية على الآخرين بشكل مقيت وكأنهم أنبياء الزمن الجديد، في حين انهم في نهاية الأمر لا يمثلون سوى رقم في قائمة تضم الآلاف من المدونين المتفاوتين في قدرتهم على التأثير على المتلقي.
نحن عن طريق التدوين لن نغير العالم، علينا أن نكون متواضعين بعض الشيء، ونتخلى عن يوتوبيا تغيير العالم بالكلمات، فنحن نكتب وندون لحاجة في النفس لا أكثر ولا أقل، وللتعبير عن رأي لا يلزم احدا سوانا في نهاية المطاف ، ومن ثمة للمساهمة في صناعة رأي عام ولو بنسبة ضئيلة جدا.
وهنا نعود للنقطة الأولى المثارة: مالهدف من التدوين؟
وهل قام كل مدون بتحديد هدف معين يبتغي الوصول إليه قبل ان يلج التدوين، ومن المسهدف بالخطاب التدويني ( مقول خطاب مجازا )؟

هذه اسئلة تطرح عادة على اصحاب المدونات الذين يدعون أنهم مدونون يحملون مشروع فكري ما، أما أصحاب الخواطر العاطفية وما أكثرهم فأظن ان الكتابة بالنسبة لهم هي ترفيه عن النفس وتعبير عن خوالج القلب والجسد، وهذا ليس عيبا، فوجود هكذا مدونات متخصصة في حلو الكلام أمر طبيعي لأنها تقدم ابداع في نهاية المطاف، ولكن كتاباتهم تفتقد لأيديولوجيا معينة، لهذا لا نستطيع أن نوجه لهم اسئلة فوق ما يستطعون ادراكه، او اكبر من طموحاتهم التدوينية.

الأحد، يوليو 19، 2009

الغرب، المثقف الاسلامي، المثقف العلماني

حسم المثقف الإسلامي أمره منذ البداية اتجاه الحداثة واتجاه الغرب، حسم أمره برفض الأمرين معا بشيء من المراوغة، حيث انه يقع في تناقض صارخ وهو يعلن عن رفضه المطلق للحداثة وللغرب وفي نفس الوقت يوظف المنتجات التكنولوجية الغربية وبواسطتها يعلن رفضه، فهو أي المثقف الإسلامي رفض الأفكار وقبل المنتجات التقنية التي تحمل في نهاية المطاف ثقافة معينة هي الثقافة الغربية وتفرضها بشكل خفي على مجتمعاتنا دون أن نكون واعين بكيفية تمرير تلك المنتجات التكنولوجية لثقافة معينة هي نتاج البيئة التي أنتجتها وحاملة لقيمها.
فالتلفاز والفضائيات والانثرنت والجوال والمصانع التي تضم آلاف العمال، كلها تزرع ثقافتها وقيمها المغايرة للثقافة والقيم التي ينافح عنها المثقف الإسلامي، فهذا الأخير يعلن رفضه للثقافة الغربية في حين هو أسيرها، وبالتالي يقع في التناقض الذي يداريه بتلفيقية خطابية لا تصمد كثيرا أمام النقد العقلاني الذي يوجهه ضده غريمه العلماني، كما انه يعبر من خلال فصله بين المنتجات التكنولوجية والقيم الثقافية التي تحملها عن قصور في الرؤية يغشى نظرته للغرب وعلاقته به المتسمة دوما بالتشنج.
المثقف العلماني لا يزال ضحية صدامه مع قيم المجتمع، فهو لا يريد تمثل تلك الموروثات القيمية والثقافية المتجذرة في المجتمع والتي يحمّلها وزر التخلف ومن ضمنها ما يسميه الفهم القاصر للدين ، فالمثقف العلماني يدعو لفصل الدين عن الدولة ومن ثمة عن الحياة الاجتماعية من خلال الاستناد إلى مرجعيات وضعية فيما يخص النظم والقوانين الناظمة لعلاقة الأفراد فيما بينهم من جهة وبينهم وبن الدولة من جهة ثانية، دون أن يجد الوسيلة التي تمكنه من إيصال رؤاه وطرح أفكاره بشكل مقنع اجتماعيا.
فمأساة المثقف العلماني تكمن في كونه غير متجذر اجتماعيا على عكس المثقف الديني الذي يحضى بقبول وبثقة عموم أفراد الأمة الذين يرون فيه معبرا عن جزء من هويتهم الأصيلة التي يشكل الدين رافدا مهما من روافدها؛ فالمثقف العلماني يرى في العلمانية والحداثة وقيم الأنوار الأوروبية خيارا لا رجعة فيه من أجل النهوض من جديد، واللحاق بالركب الحضاري الذي أخطانا نحن العرب موعدنا معه مرات كثيرة، وتبنيه للقيم الغربية كمرجعية يوقعه في صدام مع المجتمع ومع القوى المحافظة داخل هذا المجتمع. وقد نسي هذا المثقف أن الخصوصية الثقافية تفرض تعديلات على قيم تتسم بطابع عالمي ولكن بتمثلات مغايرة تبعا للتغيرات الاجتماعية الخاصة بكل دولة وكل أمة.
العلمانية في جوهرها وفي فهم مستنير لها لا تعارض الإسلام إنما تفتح المجال للقوانين الوضعية لتنظيم حياتنا السياسية والاجتماعية دون أن تلغي حضور الدين كناظم لهذه العلاقات من جهة أخرى
العلمانيون يركزون على فكرة رئيسية يرفضها الإسلاميون ويرتاب منها المجتمع في عمومه؛ ومضمون هذه الفكرة أن الدين هو علاقة خاصة بين الإنسان والله دون أن يكون له تجلي اجتماعي في الحياة السياسية والمدنية.
الإسلام يقر اجتهاد المؤمنين فيما يخص حياتهم فالرسول الكريم يقول: " أنتم أدرى بشؤون دنياكم "، وهو حديث دو أهمية في مقاربة موضوع العلمانية التي انطلقت في منشأها الغربي من مقولة مشابها للسيد المسيح عليه السلام: " أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وبالتالي فالعلمانية لا تعارض في جوهرها الإسلام حين نقاربها انطلاقا من خصوصياتنا، ولكن المثقف العربي العلماني اخذ العلمانية الغربية كمعطى جاهز لا يقبل التغيير ولا التبديل وكأنها قرآن منزه، وطالب بضرورة تغيير المجتمع حتى يتقبل العلمانية وهذا ضلال كبير وقع فيه هذا المثقف.
إن مشكلة المرجعيات قائمة وعميقة في الفكر العربي الإسلامي، وهي مجال خصب للصراعات الاجتماعية والسياسية بين مختلف التيارات الإيديولوجية المتصارعة داخل الحقل التداولي للأفكار وللمشاريع الحاملة للرغبة في التغيير بنفس القدر الذي تظل فيه المرجعية كسلاح في يد الفئات المحافظة التي تسعى لإبقاء الوضع على ما كان عليه.
نحن لم نستفد من التجربة اليابانية التي حافظت على روحها الشرقية وفي الوقت نفسه استطاعت التواصل الفعال مع التقدم الغربي ومجاراته، فالنهضة اليابانية انطلقت من نفس المقدمات التي انطلقت منها النهضة العربية وفي وقت متقارب، ولكنها استطاعت تجاوز حالات القصور الذاتي من خلال التفاعل الإبداعي والفعال مع الغرب ؛ في الوقت الذي عجزنا نحن عن فعل نفس الشيء.
إذا فالمشكلة تكمن في سؤال النهضة الخطأ وفي الطريق التي لم توصلنا إلى الجنة، جنة التقدم والرقي الحضاري، وفي التلفيقية التي اتسم بها خطاب النهضة والتي جعلت كل المحاولات تدور في حلقة مفرغة تحتدم بداخلها صراعات لا طائل من ورائها.
وهذه إشكالية فكرية على المفكرين إسلاميين وعلمانيين مقاربتها بعمق وجرأة حتى نتمكن من استئناف الفعل النهضوي الذي انهزم في منصف الطريق.

الأحد، يوليو 05، 2009

الإختلاف بدل التجاوز


يمكننا الحديث عن الاختلاف بدل التجاوز، لأن التجاوز في مجال الأدب والفكر عموما غير ممكن بتاتا لأنه يعني من ضمن ما يعني إلغاء التراكم الضروري لأي إنتاج أدبي وفكري، وبالتالي فحين يتحدث البعض عن رغبة التجاوز يغالطون أنفسهم وقراءهم، لأنهم يسوقون العلاقة بين الأجيال الأدبية على أنها علاقة صراعية بالأساس، تقوم على ثنائية حدية، حيث القديم مقابل الجديد، مع أن الجديد لا ينفي القديم ولا يتجاوزه إنما يبني عليه صرحه المختلف. الكثير من الأدباء الشباب وقعوا في وهم قتل الأدب مع أن هذه العملية غير ممكنة أيضا لأنها ردة فعل أكثر من كونها فعلا نابعا عن وعي بالمحددات السوسيولوجية للكتابة. يمكن إيجاد مبررات نفسية وموضوعية للرغبة في قتل الأب بتجاوزه حيث هذه الرغبة تنبرز لدى البعض، نتيجة الضغط الكبير الذي تمارسه الأبوية الفكرية على الوافدين الجدد لمجال الكتابة الأدبية، والذين عليهم أن يكسروا مزاليج الأبواب لكي يلجوا الحرم الإبداعي الذي تحرسه الأبوية المتسلطة بطبعها. ولكن بمجرد الولوج ( أثبات الحضور والتميز) يجد هؤلاء الوافدون الجدد أنفسهم مجبرين على التعايش مع الآباء المالكين لرأسمال رمزي يمنحهم سطوة وهيمنة معتبرة على الحقل الأدبي، قد يتحول بعض هؤلاء الوافدين الجدد أنفسهم إلى ممارسة نوع من الأبوية ولو بشكل مختلف عن أبوية السابقين، نتيجة تحصيلهم لرأسمال رمزي يوبؤهم مكانة مميزة داخل الحقل الثقافي، ولكن إذا كان الاختلاف هو قدر الكتابة الجديدة الواعدة في الجزائر،فإن " أبوية الجيل الجديد " هي أبوية منفتحة ولا تملك من صفات الأبوية _ بعيدا عن القمع_ غير قوة الحضور الذي ينتج قوة التأثير. اعتقد أن الأدباء الشباب القادرين على تقديم المختلف والمميز للحقل الثقافي الجزائري بحاجة إلى روح نضالية عالية حتى يتمكنوا من التأسيس لثقافة الاختلاف التي تجرد الأبوية الثقافية من قمعيتها وسطوتها التي تنظر للآخرين على أنهم قصّر أو مارقين مع أن غالبية الأدباء الشباب في الجزائر لا يملكون هذه الروح النضالية ولهذا فهم سريعا من يخرجون من الأبواب الخلفية، بعد أن يحبطهم الواقع الثقافي، أو أنهم ينقلبون إلى انتهازيين يمارسون التعتيم على الأقلام الجادة والواعدة ويسوقون أنفسهم عبر المنابر الثقافية المتاحة والتي استطاعوا الوصول أليها بطرق ليس الإبداع الجاد والمميز أحدها، حيث يعوضون افتقادهم للرأسمال الرمزي الضروري لأي سلطة فكرية ( السلطة هنا بمعنى قوة التأثير ) باحتلالهم للمساحات المتاحة للنشر والظهور، وبهذا تتحول الانتهازية وإتقان اللعب إلى طريقا لإثبات الحضور بدل أن يكون أثبات الحضور عن طريق النصوص المختلفة والواعدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه المقالة هي تعليق على نص للكاتب بشير مفتي بملحق الأثر الثقافي بعنوان: الكتابة الجديدة ورهان الاختلاف

conter