الثلاثاء، أكتوبر 28، 2014

الذهنية المحافظة وخلق أسطورة بنت الفاميليا


تتسم المجتمعات المسلمة عموما بذهنية محافظة، ذات بنية ثقافية أبوية تمجد قيم العائلة وما يتصل بها من قيم فرعية تكون علاقة الرجل والمرأة مجالا لبروزها واشتغالها بشكل يخدم التصور الأبوي لطبيعة تلك العلاقة التي تموضع المرأة في وضع حرج يحملها مسؤولية حمل شرف العائلة، بشكل يجعل حريتها مرهونة بتلك المسؤولية التي لا تتدخل المرأة في تحديد تبعاتها، إنما يفعل المجتمع الذكوري ذلك.
غير أن التحديث المتسارع الذي مس البنى التقلدية في المجتمعات المسلمة خلال القرن الأخير قد ساهم في تهشيم الكثير من القواعد الناظمة لعلاقة الرجال بالنساء، حيث إقتحام النساء المتزايد لمجال التعليم والعمل وحصول الكثير من النساء على استقلال اقتصادي مكنهن من تخفيف الضغط العائلي عليهن، قد خلق أزمة قيم، وهي أزمة تصور لا يلتقي بسلوكه في الواقع، حيث لا يزال الوعي الذكوري يستبطن تصورات ماضوية عن المرأة؛ تصورات تصادر حريتها في التصرف في جسدها، وتنمطها في صور نموذجية: الأم، الأخت، الزوجة ... أي تصورات تجعلها كائنا ملحقا بالذكر بالضرورة وتابعا له بشكل كامل. وهذا التصور لا يصمد أمام تغيرات الواقع التي تخبر عن تحرر متزايد للمرأة وعن افتكاكها لمساحات تصرف لم تكن متاحة أمامها في الماضي القريب. هذا الاستقلال الأنثوي انعكس على شعور المرأة بحرية اتجاه ذاتها وجسدها الذي صارت ترى أن من حقها التصرف فيه وفق ما تحب وترغب لا وفق ما يقره المجتمع من طرق ووسائل التشارك الجسدي بين الرجال والنساء، إنما وفق ما يتيحه لها واقعها الجديد من حرية.
هذا واقع زعزع الكثير من المفاهيم القديمة المتصلة بالمرأة كمفهوم بنت الفاميلية الذي تسعى الذهنية المحافظة لململته وأسطرته على المستوى الخطابي واللفظي على الأقل، بعد أن انفلت من التأطير واقعيا بامتلاك النساء تدريجيتا لجرأة اقامة علاقات عميقة ومتعددة خارج مؤسسة الزواج مستغلين ما يوفره الطب من أمكانية استعادة العذرية، بشكل وضع التصور الرجالي عن بنت الفاميلية في مأزق بين مثال مرتجى وواقع لا يجود بذلك المثال إلا نادرا، فالرجل مأزوم الرجولة يبحث عن بنت الفاميلية بحسب ما يتصورها إثباتا لرجولته المأزومة والمهزوزة، وهو إن لم يجد هذه البنت فاميليا اختلقها أو اقنع نفسه بأن من اختارها هي كذلك، رغم أننا كرجال نعلم أننا نغض الطرف إكراما لأمانينا وإرضاء لغرورنا، مع أننا، في الحالات السوية غير مطالبين بغض الطرف عما نعتبره خروج عن النموذج والمثال المرتجى من طرف الذات لا من طرف المجتمع، فالاصل ان نتقبل الحرية الشخصية لنا ولشريكاتنا سواء كن حبيبات أو صديقات أو زوجات.
فالرجل يريد ويتمنى امرأة يكون هو رجلها الأولى ويدرك بينه وبين نفسه أن ذلك مستحيل في الوقت الحاضر، لكن المراة ( الأم، الأخت، الحبيبة، الزوجة ...) تدفعه للتمسك بذلك الوهم، لأنها تهينه وتنظر إليه بارتياب اذا ما هو صارحها بأنه غير مهتم بالماضي الجنسي لمن تكون شريكة حياته باعتباره ماضيها لوحدها، والحياة المشتركة تبدأ من لحظة بداية علاقتهما، فهي تدفعه ليتوجها بنت فاميليا بداية من الكذبة الاسطورية التي ترد بها كل النساء حين يسألن السؤال التاريخي: هل عرفت رجلا من قبل، فترد بلا وفي الغالب نعم ولكن معرفة سطحية او هاتف او اعجاب لا غير، أي انها تبدأ علاقتها بكذبة يعلم هو انها لكاذبة وتعلم هي أنه غير مصدق لما تقول لكنهما يدخلان في حالة توطؤ غير معلن على الكذب اكراما للنموذج المرتجى وهو بنت الفاميليا، فهي تريد ان تكون كذلك حتى وان لم تكن فعلا تتصف بالصفات المطلوبة في بنت الفاميليا. فالمرأة مهما بلغ تمردها أو تحررها الاجتماعي الذي يرفقه بالضرورة تحرر من نمط العلاقات المحافظة والتقليدية وبالتالي شعور بحرية امتلاك الجسد وحرية التصرف فيه ومشاركته مع من ترغب وتحب، لا تزال تريد ان تكون " بنت فاميلية " لأن هذه الصفة هي رأس مال رمزي توظفه في صراعها ضد الاخرين: عائلته، خليلاته المحتملات، وحتى عائلتها بشكل من الاشكال، أي انها صفة ونتيجة هيمنة الذهنيات المحافظة على المجتمع ككل، تموضها في وضع أكثر اريحية وثبات في بيت الزوجية، والرجل، الذي كلما تقدم في العمر كلما ازداد ميلا نحو تبني القيم المحافظة خاصة ما يتعلق منها بقيم العائلة التي على رأسها الشرف والإلتزام يهمه أن تتصف زوجته بهذه الصفة كرأس مال رمزي أيضا لأن زوجته هي شرفه، وسمعتها هي تاج فوق رأسه أو أشواك يسير عليها، فيجتهد في خلق الصورة النمطية لزوجته المستقبلية منذ اللحظة التي يقرر أنها ستكون زوجته، فيعاملها باحترام ويتحدث عنها بحشمة ووقار، رغم أنه قد كان يتحدث عنها وهي حبيبته او صديقته بعبارات ماجنة وبفخر بما فعل معها، لكنه حين يقررأنها ستكون له زوجة يغير ملفوظاته عنها، مجتهدا قدر استطاعته في تسويق صورة بنت الفاميليا عنها، وهذه الصورة الموثثة تفاصيلها بعناية تكاد تضاهي في دقتها وتفاصيلها واستراتجياتها طريقة صناعة النجوم والشخصيات السياسية المرشحة للعب أدوار مهمة وشغل مناصب رفيعة، وتسويق تلك الصورة يبدأ في محيطه العائلي أولا ومحيط المعارف والجيران، أي في المحيط الجغرافي الذي يشمل كل من يمكن ان تشكل ألسنة السوء لديهم تعكيرا لصوف حياته وخدشا لكرامته في حالة ما اذا كانت زوجته غير متصفة بصفات بنت الفاميليا.
إن بنت الفاميليا هي أسطورة مطلوبة من الرجل والمرأة وهي أسطورة يخلقها الرجل أكثر مما تخلقها المرأة نفسها.

السبت، أكتوبر 18، 2014

عن البطولة والبطل الروائي وبطالة السرد



تقوم فلسفة ما بعد الحداثة والتي أثرت بشكل كبير في الرواية، بالغرب خاصة، على أطروحة، يبدو أن الزمن يؤكد خطأها، قوامها نهاية السرديات الكبرى: التقدم والتنوير والثورة ... وهذه السرديات هي مجال اشتغال ومبرر وجود البطولة، لأنها تعطي الحجة الانطولوجية لوجود الشخصية البطلة في الرواية التي تبشر أو تحلم بتغيير العالم، وخلق شرط وجودي في ظل واقع اجتماعي لا يعادي إمكانية الرفض والتغيير. كان روبنسون كروزو ودون كيشوت وجوليان سوريل، وإيما بوفاري حالمين كبار في عالم يتيح الحلم وينفتح على المغامرة الممكنة النجاح، فرواية القرن الثامن والتاسع عشر هي رواية شدّاد الآفاق الذين ينجحون في إقامة عالم جديد وإن على أنقاض العالم القديم، كانت رواية الأبطال الفاعلين في التاريخ، فهي وبشكل كبير، رواية التوسع الامبر اطوري للغرب الذي سكنته تلك السرديات الكبرى: التنوير خاصة، والتي صارت رسالة تمثلتها الرواية باقتدار أكثر من أي فن آخر، فرسالة الغرب التنويرية للعالم، كواحدة من السرديات الامبريالية التي أنتجتها المركزية الأوروبية هي التي خلقت أبطال دانييل ديفو وجوزيف كوندراد وكيبلينك وغيرهم كثيرون من الذين يسميهم ادوارد سعيد: روائيو الامبراطورية. 
كانت رواية الشخصية، ومن ثم رواية البطل الذي يسميه لوكاتش، ومن بعده غولدمان إشكالي، قد ازدهرت بداية من دون كيشوت كأول بطل روائي يحلم بعالم لا تلتقي به خطاه إلا عرضا، وعرفت أوجها خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، عصر الحداثة والتنوير وسردياتهما الكبرى، لكن بداية من القرن العشرين وتحديدا منذ الحرب العالمية الأولى، لم يعد البطل يجد له مكانا في الرواية وإن حافظ على وجوده فيها كعنصر أساسي من عناصر العمل الروائي، لكنه حافظ على "وجوده التقني" في عمل يحتاج إلى مواد وعناصر، وفقد وجوده البطولي كفاعل في التاريخ وكحامل رسالة، فالبطل الروائي صار بداية من عشرينيات القرن العشرين يعيش " زمنه الضائع " وتيهه الأبدي، لهذا انتقلت الرواية لتحكي حيوات أبطال لا يملكون من البطولة غير الإسم، لأنها تصدر عن واقع لا بطولة فيه وتكتب التاريخ من الأسفل بعد أن استنفذت روايات الفرسان النبلاء وصانعوا التاريخ مبرر وجودها، فالبطل الشعبي الذي حاولت الفلسفة الوجودية بعثه عن طريق إدراجه في سياق يتسم بالتوتر الوجودي للإنسان مما يمنحه قدرة ما على لعب دور بطولي من خلال التمرد على العالم ورفضه ( ميرسو كامو وزربا كازانتكايس) لم يكن بأي شكل من الأشكال بديلا للبطل الكلاسيكي الذي يحمل رسالة ويتوجه بها إلى العالم معززا بيقين لا يكل ولا يفتر، ولم يسر بالبطولة كفعل في الواقع الاجتماعي لمزيد من التجلي. إن كل ما بلغته بطولة إنسان القرن العشرين كما تجلت في الرواية هو مزيد من الضياع الذي ينتهي بالرقص حول نار الحياة على صوت عويل الذئاب التي تحرم الروح سلامها.
وإذا انتقلنا إلى الرواية العربية فإننا سنجد وضعا أكثر هشاشة للذات الفاعلة في التاريخ (البطل)، نتيجة القمع الشديد الذي يمارسه الواقع الاجتماعي على أي نزوع فرداني، وقدرة الثقافة المجتمعية على قولبة الأفراد وفق نمط أساسي لا يملكون فكاكا من هالته وسحره الذي يصبغه عليه المجتمع. وللأمانة فإن الرواية العربية الحديثة لم تكن بأي شكل من الأشكال رواية بطل بالمعنى الايجابي للبطل الذي يعطيه دور قيادة التغيير الاجتماعي، رغم سعي روائيو اليسار العربي نحو خلق بطل ايجابي قادر على تغيير الواقع لكنه ظل في حدود الأماني الروائية دون أن يتمكن الروائي العربي إلا في حالات نادرة ( مصطفى سعيد الطيب صالح وسعيد مهران نجيب محفوظ ) من خلق بطل واجه مصيرا غير عادي وكان فاعلا فيه بشكل من الأشكال. 
إن الثقافة العربية الراهنة والتي لا زالت تعتاش أسطوريا على سير أبطال خرافيين رسختهم الحكايات والسير الشعبية في المخيال الجمعي للإنسان العربي، هي ثقافة عاجزة عن خلق البطل بعيدا عن نمطية البطل السياسي والعسكري الذي يتحدد بمقدار الانتصارات العسكرية التي يحققها دون غيرها من محددات البطولة، فمنذ غزوات الرسول وبطولات خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب مرورا ببطولات الفتح وانتصارات الخلفاء والأمراء التي تأسطرت لاحقا، إلى حروب محمد علي باشا وبطولة عمر المختار وزعامة جمال عبد الناصر ، لم يخلق بطل شاذ عن هذا النمط من البطولة في المخيال العربي، وهذا ما يجعل وجوده روائيا أمرا غير ممكن سوسيولوجيا، لأنه لا يمتلك القاعدة التي تتأسس عليها بطولاته في زمن لم تعد فيه الحرب مجال بطولة وقد اختطفت التكنولوجيا شديدة الفعالية كل البطولات. إن كل ما تستطيع الرواية العربية تقديمه من نماذج " بطولية " هو الشخصية التي تصارع من أجل افتكاك فردانيتها من تأثير وهيمنة الجماعة، فالفردانية كشرط حداثي يمكن للرواية أن تشتغل عليه لتنقذ نفسها من إسفاف السقوط والتيه الذي أغرقت فيه أبطالها وشخصياتها تأثرا بأوهام ما بعد حداثية، وقفزا على حداثة لم تنجز بعد مشاريعها ووعودها في أرضنا وديارنا.

conter