الاثنين، يونيو 26، 2017

عن بعبع الإلحاد


الإلحاد في كل المجتمعات يظل عبارة عن حالات فردية، وحتى في عصر الأنوار الأوروبي الذي اعتبر عصر الالحاد بامتياز لم يكن عدد الملحدين أكبر من عدد المؤمنين ولا مقاربا لعددهم ولا حتى يمثل نسبة معتبرة، فالإلحاد، إذا استثنينا التجربة السوفياتية التي تبنت فيها الدولة وأجهزتها الايدولوجيا فكرة الإلحاد وعملت على جعله واقع اجتماعي، كان وسيظل حالات فردية، وهو كاعتقاد بلا جدوى الدين ورؤيته للعالم والآخرة، لا يجعل صاحبه متجاوزا للدين كثقافة، أي
كتمثلات اجتماعية وممارسات وعادات واعراف وصيغ تعبيرية متداولة، فالملحد الجزائري حين يقول الحمد لله، وبربي انشاء الله، يقصد صيغة تعبيرية تمثل الثقافة التي نشأ فيها، وهو بذلك يؤكد الانتماء الثقافي، وهذا الانتماء هو الذي يؤسس ما تسميه العلوم الاجتماعية بالمتخيلات الاجتماعية، أي الأسس التي يقوم عليها أي مجتمع والتي تجعل أفراده متشابهين في سلوكيات وفي رودود أفعال معينة، حتى ولو كانوا يسعون إلى أن يكونوا مختلفين، فالثقافة هنا كنمط تنشئة اجتماعية تشمل الدين وتتجاوزه، وهي التي تظل عميقة الأثر في حياة واعتقاد وسلوكيات الأفراد، بشكل يجعل أي قطيعة حادة وتامة معالقيم الثقافية غير ممكنة واقعيا مهما كان الحرص عليها، لهذا لا يشكل الملحد، كحالة فردية، ومعزولة في غالب الأحيان، تحديا لأواصر الانتماء في المجتمع الذي ينتمي إليه، إلا في جانبه الأكثر تحديدا ونصوصية وهو الدين؛ إنه حين لا يؤمن بالإنبياء والرسل والبعث والحياة الآخرة،، والجنة والولدان المخلدون، ويقدم بديلا عن تلك التصورات إنطلاقا من رؤى تمتح من العلم وتتأسس عليه، أو تنطلق من إيديولوجيات معينة ترى إلى الانساني المشترك وترفض الجماعاتي الضيق الذي يشكل الدين لبنته بالنسبة لأي جماعة، فهو بذلك يصدم المعتقدات الدينية للجماعة التي ينتمي إليها، وفي الوقت نفسه لا يتعارض مع القيم الثقافية العامة إلا في جوانب ضيقة، لأنه، كفرد من المجتمع، يظل حامالا لاسم له دلالته المتعارف عليها اجتماعيا والتي قد تكون دينية، ويستعمل لغة تسللت إليها تعابير ذات جلفيات ودلالات دينية، ويقوم بطقوس اجتماعية لها تأويلاتها الدينية المتعارف عليها، ولها نصوص تسند ممارستها، كصلة الرحم، زيارة المريض، التضامن الاجتماعي دو الطابع الجماعي، كما يشترك في ممارسة طقوس الختان والزوج والاحتفالات الاجتماعية ذات الطابع الديني كالمولد والأعياد ورمضان وطقوسه، بعيدا عن الصيام الذي يظل حالة فردية أيضا. كل هذه التمثلات الاجتماعية يعيشها الملحدون في المجتمعات المسلمة، كما يعيشها المثليون جنسيا، وأتباع الديانات غير الإسلامية، أي كل الأقليات التي لم تتأسس على قاعدة عرقية أو جغرافية، وهم موجودون بين ظهرانينا دوما، داخل بيوتنا، معنا في أماكن العمل، والدراسة، نلتقيهم في الشارع، نجالسهم في المقاهي، ونلعب معهم الدامة والدومينو، دون أن نشعر بأنهم يشكلون أي تهديد بالنسبة لنا، لكن بمجرد أن يقول أحدهم أنه ملحد، يتحول إلى شيطان رجيم ورمزا لتهديد الدين، وخطرا على وحدة المجتمع وهويته وقيمه، مع أنه قبل أن يذيع إلحاده كان صديقا حميما وولد فاميليا وفحل.
 مشكلة الإلحاد وما يثيره من مشاعر غضب وعدائية اتجاه الملحدين، هو مشكل المتدينين وليس الملحدين الذين دائما ما توضع روؤسهم في سيبلا الجموع الغاضبة، إنه مشكلة المجتمعات المنغلقة التي تتمرس خلف ما تسميه محددات الهوية، وبها تدافع ضد كل ما تراه دخيلا ومهددا لتلك الهوية، مشكلة يتم اختلاقها لإظهار الإخلاص للدين، وحب التمظهر الديني، رغم كثرة السلوكيات المناقضة لجوهر الدين الحق، هي صفة تكبر في الفرد كلما كان بصدد اتخاذ موقف منظور إليه جماعيا، تمظهر يجعله يتمترس خلف الدين للدفاع عنه أو الوقوف ضد كل ما يتعارض معه، باسم الدين دائما، وهي حالة غير سوية، لكنها مطلوبة اجتماعيا لأن المجتمع لا يزال يقيّم الأفراد من ناحية الصلاح والطلاح تقييما دو مرجعية دينية، وهذا ما يجعل من مناهضة الملحدين والشواذ والمسيحجين واليهود والاحمديين والشيعة وكل المخالفين، رأسمال اجتماعي للأفراد، وهو رأسمال مفيد جدا للعلاقات الاجتماعية التي تأخذ بتلك المواقف الدينية كأساس للتعامل.

الراتب، الزواج، العنوسة


كتبت إحدى الصديقات: " سند الفتاة بعد ابيها، هو راتبها الشهري.. بدأت اتأكد حقاً".
حكاية شهريتي  تسندني، وشهادتي هي راسمالي، وما يتفرع عنها من مقولات مغالطة وكارثية النتائج مثل "بشهريتي نجيب سيد الرجال" التي بدأت تنتشر وسط عدد كبير من النساء هي فكرة تؤدي إلى تعميق تأزم العلاقات االاجتماعية بين الجنسين التي بدأت تتخذ طابعا غير سوي بالمرة من خلال الدفع بالطرفين إلى التفكير بعيدا عن المعايير التي كانت هي الأساس لوقت قريب جدا. اشتراط أن تكون الزوجة عاملة، الذي صار يضعه الكثير من الرجال المقبلين على الزواج شرطا مبدئيا، وايمان النساء بأن العمل، والراتب كلما كان أفضل كلما تحسنت فرص الزواج بالنسبة لمن بلغن مرحلة العمر الحرجة التي قد تقودهن سريعا إلى عمر البوار ؛ هذا العمر السيء السمعة والحظ، يتطلب منهن مؤهلات كثيرة ذات طابع مادي غالبا لأجل الإبقاء على فرص الزواج قائمة. اما بالنسبة للفتيات اللواتي لا يزلن في مرحلة الأمان الزواجي ( أواسط العشرين غالبا) فيعتقدن أن العمل هو السبيل للحصول على فرص أفضل في اختيار الزوج، وتركيزهن على هذه الفكرة بشكل مبالغ فيه يجعلهن أول من يخبس باقي مؤهلاتهن حقها( الجمال، التربية، السمعة الطيبة، النسب، الثقافة ...)، إنها ترى بأن الشهرية تغني عن كل ذلك، ويزداد الأمر تطرفا لدى الفئة الأولى التي ترى بأن رابتها يغنيها عن الزواج ككل، أو أقل شيء لا يجبرها على تقديم تنازلات، طبعا هذه شعارات تقال علنا، ولا تصمد أمام الواقع خاصة مع التقدم في العمر، فالنساء اللواتي يقلن مثل هذا الكلام يسعين من وراءه إلى ترميم نفسية بدأ الانهيار يصيبها وتعزيز معنويات يحبطها الواقع يوميا. 
 إن موضعة الشروط المادية في صدارة الشروط المطلوب توفرها لأجل تكوين أسرة، وهي موضعة ساهم فيها الرجال والنساء بنفس القدر، وحتى العائلات صارت ترى في ذلك أمرا مرغوبا، وأحيانا كثيرة شرطا ضروريا، وهذا ما أدى إلى تشويه النظرة للعلاقة الزوجية، والأسوأ من ذلك ادى إلى تغيير الأدوار الاجتماعية داخل الاسرة، وإلى تضعضع مرجعيات السلطة داخل البيت، فالرجل يفقد سلطته بنفس القدر الذي تساهم فيه زوجته في الإنفاق، حتى وإن لم يتم التصريح بذلك وتمت مداراته بصيع بلاغية بالية، إلا أن المواقف المتأزمة تكشف عن تراجع سلطة الرجل تناسبا عن تراجع انفاقه على البيت. هذا جانب، وهناك جانب أسوأ وهو النظرة التي صارت تمتكها النساء اتجاه الزواج كفكرة، وهي نظرة تزداد سوءا بمرور الوقت نتيجة ربطها بشكل متزايد بالشروط المادية التي أساسها الوظيفة والراتب، حيث تعتقد النساء العاملات عوما أن أي رجل يقصدهن للزواج هو يقصد راتبهن أولا، وشخصهن ثانيا، وأنه في الحقيقة، رغم كل ما يقال عن التشارك والمودة والرحمة وباقي المبررات الدينية والأخلاقية التي يحفظها الرجال كما النساء بشكل متواتر كأنها لقنت لهم من كتاب مسطور، إنه لا يريد في الحقيقة سوى إكمال نصف راتبه في أحسن الأحوال، وفي أسوأها البحث عمن تنفق عليه. تمتلك النساء هذه الفكرة بشكل يتعمق تدريجيا، وحتى النساء غير العاملات، وهن فئة نظرتهن أقل تشوها لعلاقة الزواج، يعتقدن أن حظوظ الزواج، وشروط الظفر بزوج أفضل، تعزز بشكل اكبر إذا كن عاملات.
 إن المرأة التي تفكر بهذه الطريقة إما انها قد تم اختيارها كزوجة لسبب وحيد وهو شهريتها وبالتالي تم تجريدها من كل مزاياها الأخرى بكلمة سحرية اسمها البوسط أو الشهرية، أو أنها ترى نفسها لا تساوي شيئا دون شهريتها وبالتالي تدفع الآخريتن للنظر إلى ميزتها الآساسية وهي الشهرية، وبالتالي تساهم في تخفيض قيمتها الذاتية والدفع بكل مؤهلاتها الأخرى إلى الهوامش المهملة التي لا ينظر إليها أحد مدامت الصدارة مزينة بعنوان عريض، ولاغي لباقي التفاصيل، اسمه: الشهرية.

مصطلحات جزائرية: البراني



 البراني في مخيالنا الجمعي هو دائما مجال للتطير والارتياب، إنه ذلك الذي لا يؤتمن جانبه لأنه مجهول وغريب، إنه الوافد الذي نضطر لمعايشته لكن نهمشه في الوقت نفسه، ونحصره في الزوايا الضيقة، إلى أن يثبت فعلا أنه "ولد عايلة"، لهذا يشعر البراني في المدينة والحي الذي يقطنه أو يعمل فيه، وفي المناطق التي تسود فيه الذهبية القبلية أنه مرفوض وأنه عاجز عن بناء علاقات سوية مع أهل المدينة الذين يتعاملون معه بتحفظ دائما ويحصرون معاملاتهم معه في الضروريات التي تفرضها المصلحة، إنهم يتجنبون المعاملات المالية والعلاقات الاجتماعية العميقة، خاصة بالنسبة لذلك البراني المفرد الذي يأتي تاركا اهله وعائلته في بلاد بعيدة، وهذا ما يعمق مجهولته وبالتالي يرفع حدة التطير منه، لهذا غالبا ما يجد البراني نفسه محروما من بناء علاقات صداقة متينة مع اهل المدينة نتيجة قوة الإحساس بالرفض، هذا ما يجعل البرانية داخل أية مدينة، يتجهون إلى التكتل فيما بينهم، إنهم يتعاملون مع بعضهم، يتصاحبون، ويتعاونون على المدينة وأهلها، التي تظل علاقتهم بها متشنجة؛ فبمقدار ما تمثل لهم فرصة تحقيق الذات، تشكل عبئا نفسيا كبيرا عليهم لأنهم يظلون على هامشها، خاصة وهم يواجهون بكم هائل من العبارات العنصرية التي يواجههم بها أهل المدينة كلما كان الموقف متوترا ومتشنجا: " كابتك ولايتك، البوبلاد، الزوفري، باع البحاير وجاء للدزاير" وهي الصفات التي تجعل البراني دائما على أهبة الرحيل لأن الشعور النفسي بالرفض الذي يجابه به يظل مؤثرا على نفسيته. إن رفض البراني مهما كان اصله وعرقه، متمكن في النفسية الجزائرية، وهو رفض يشمل القريب ويمتد ويتسع للأبعد فالأبعد. ويزداد حدة كلما نمى شعور ما بالتهديد والخطر الذي قد يجلبه هؤلاء البرانية.

الحرية الفردية في الاسلام

يشجع الإسلام، كنص وكممارسة، على الإمتثال الثقافي وعلى قبول السلطة ( سلطة ولي الأمر، سلطة العلماء، سلطة الوالدين.... باختصار السلطة الأبوية). إنه كنسق قيمي يرتاب أمام ما تنادي به الديموقراطية من قيم، وما تشجع عليه من سلوكيات سياسية، ويعتبر القبول بالقيم الديموقراطية تهديدا لانسجامية الخطاب الإسلامي مع الواقع المعاش للمسلمين، فالحرية الفردية التي تعتبر عمدة الديموقراطية توجد الكثير من النصوص الدينية التي تقيدها، كما أن المسلمون يرون أنها قيمة جيدة، طالما أن هناك قيم أعلى تؤطرها وتحدد مجالاتها وممكناتها، دون أن تكون هناك حدود واضحة ومقوننة يمكن أن يحتكم إليها الجميع بشكل واضح، هذه الضبابية في القبول الحذر بقيم الحرية الفردية يجعلها مقبولة على مستوى الخطاب ومصادرة  على مستوى الفعل، أو مهددة بالمصادرة بمجرد اقترابها مما يراه المجتمع، ويبرره الدين، ممنوعا وخارجا عن العرف. فالطفل المسلم غالبا ما يتم تقلينه في المدرسة: أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين؛ مقولة ضبابية ومراوغة بشكل كبير، إنها حصان طروادة لمصادرة حرية البعض دفاعا عن حرية البعض الآخر في ظل مجتمع يسيّر شؤونه بالعرف المستند على قيم أخلاقية، وعبر ثقافة تحتكم للعرف والمشافهة، وتستند على السلطة الأبوية التي تتمظهر بشكل متعالي على قيم الأفراد وتصوراتهم، وهي ثقافة مرنة، تتيح إمكانيات المراوغة ضمن مجال محدد سلفا وبدقة، ثقافة تجعل المقبول موضوع نقاش والمرفوض موضوع مفاوضة، وذلك في ظل مجتمع يعيش في ضمن فراغ قانوني رهيب فيما يخص الحريات الفردية المتروكة لحكم اللحظة، وللمزاج العام للجماعة التي ترتخي قيمها القامعة للحريات الفردية في ظروف معينة خاصة في حالات الرخاء الاقتصادي، وتتشدد في حالات أخرى إلى درجة التقييد الصارم لتلك الحريات، فعبارة حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، التي تلقن للأفراد عبر مختلف وسائل التنشئة الاجتماعية: المدرسة والأسرة ووسائل الإعلام، غالبا ما تكون مرفقة بالتأكيد على قيم أخلاقية ودينية يكون تجاوزها اعتداء على حرية الآخرين، أي المجتمع الذي يظل الحارس، دائم التيقظ، لقيمه من عبث الأفراد ومن نزوعهم إلى التمرد على تلك القيم ورفضها أو التشكيك في نجاعتها وصلاحها للعصر، فهذه المقولة تعبر بوضوح عن التأرجح والارتياب الذي يبديه الأفراد والمجتمعات المسلمة في القبول بمبدأ الحرية الفردية، وما يترتب عنها من سلوك وممارسات ومن تقبل إيديولوجيات وأفكار تتهم غالبا بأنها وافدة وغريبة عن القيم الأصيلة للمجتمع. يزداد هذا الارتياب الذي يدفع إلى التضييق على تلك الحرية حين يكون الفرد المعنى بها امرأة، فالمرأة في مخيال الفرد والمجتمع المسلم، حتى وإن لم يصرح بذلك، غير معنية بالحرية الفردية إلا في نطاق ضيق للغاية، ويزداد ضيقا من مجتمع إلى آخر.   

السبت، مارس 25، 2017

تاء الغواية

للتاء فتنة، ووعد ينغلق على الرغبة الكتيمة إن كانت مربوطة تتزين بنجمتين فوقها؛ نقطة تهدي للطريق الموصل للفراش، ونقطة تنتهي عندها الخيالات وتبدأ الآهات. للعربي نشوة حين يلتقي بالتاء في نص يقرأ عرضا أو قصدا، يموء العربي كقط جائع وهو يمر بكل علامات التأنيث المبثوثة في الثنايا وبين الحروف وعند انعطافات المعنى نحو سطوة الغواية، يمضي به البصر وهو حديد إلى آخر النص مارا بين الكلمات قافزا نطاطا متحدرجا عبر الحروف الممدودة نحو تلك التي تنغلق على نفسها فاتحة له باب الوعد عند استدارة التاء كنهد ضامر الحلمة لم يلثم بعد ولم ينكشف إلا في الحمام وأمام المرآة التي تخبر عن الأنوثة القاتلة ليرتد به البصر حسيرا كسيرا صاغرا امام انفلات المعنى عند المبتدأ الذي ضاعت أخبار نسائه حين انغلق النص على نفسه رافضا التجرد من ورقة التوت التي تستر تاءه المربوطة. يقبل العربي على القراءة بنية الفتح يستمني على الحروف والكلمات يحتضن الفقرة والجملة بنهم الجائع، يضاجع المعنى الذي يتولد في خيالاته، يرسم قصصا ويعيشها ويعايش لذتها كأنها احتلام ليلي لذيذ يشبه الواقع وما هو بواقع، كذلك هي قراءات العربي حين يقابل نصا مؤنثا مسكونا بالمعنى وفائض الدلالة التي ترسم له أنثى تطلع من بين الكلمات لتقول له قولة زليخة الباقية كوعد في أذان كل المهووسين بالرغبة: هيت لك.

ملاحظات أولية حول رواية المغارة الثانية لوسيلة سناني

كتبت وسيلة نصا حواريا بامتياز، نصا يقوم على مجموعة حكايات، تتقاطع وتلتقي لتتقاطع من جديد: ناصر، عائشة، الكاتب الانتهازي، حمامة، أمير الجماعة المسلحة، المناضلة اليسارية التي لا تعرف سوى الرفض دون فهم واضح لمعنى الرفض، المعارضة السياسية التي تدون كل يومياتها عبر الفايسبوك ... وشخصيات أخرى تكشف عن بعضها البعض عبر تقنية المقابلات الحكاية التي اختارتها الكاتبة لنصها، حيث كل حكاية تضيء الحكايات الأخرى، تبرز الشخصيات وتصير أكثر  وضوحا، ليس فقط عندما تحكي عن نفسها، وكل شخصية نالت مساحتها الكافية وصوتها لتقول عن نفسها ما تريد، إنما أيضا حين يحكي عنها الآخرون. تدور أحداث الرواية التي بنيت على شكل مرايا متقابلة بحيث كل شخصية ترى نفسها في عيون الآخرين وتدان من طرفهم أيضا، في الجزائر التي طلعت لتوها من سنوات دامية، إنها جزائر ما بعد الأزمة التي تنكرت للكثير من أحلامها التي اجهضت تحت وقع حرب طاحنة ومجانية، شخصية حمامة التي فقدت كل شيء دفعة واحدة، رغم أنها ظلت تقاوم من أجل العودة إلى ابنائها بعد أن خمدت هوجة الإرهاب، تشكل الصورة الرمزية للجزائر التي جرحت في العمق، وعائشة التي ولدت في الجبل من أب ارهابي وأم مغتصبة، هي نتاج تلك العشرية الدامية بكل لامبالاتها وتشوهاتها النفسية والجسدية، إنها فتاة بلا كرامة وبلا ضمير تعيش اللحظة بنفعية، فتاة لا تشعر بأي تناقض وهي تنتقل من بيت رجل إلى بيت رجل آخر في نفس اليوم، ولا تستثار انوثتها ولا كرامتها وهي تتعرض كل مرة للانتقاد بسبب شكلها  غير المنسجم وثيابها غير الانيقة وتصرفاتها المستوحشة التي كسبتها من خلال عيشها لـ 15 سنة بالجبل. عائشة شخصية حيوية تمركزت حولها حكايات الأشخاص الآخرين.

المغارة الثانية رواية تقاطعات، وهي رواية اسقطاعات بامتياز بحيث يمكن لقاريء أن يعثر على المقابل الواقعي لكل الشخصيات تقريبا، كأن وسيلة لا تكتب سوى عن أشخاص تعرفهم، تجتثهم من شخصيتهم الحقيقية وتدفع بهم إلى أتون السرد لتعيد تشكيلهم من جديد وقد احتفظوا بالكثير من سماتهم الشخصية التي تسهل التعرف عليهم، واكتسبوا، كشحصيات روائية، مزيدا من التركيز على نقاط رأت الكاتبة أنها جديرة بإبرازها في شخصيتهم. الرواية تقرأ بنوايا سيئة بمجرد تجاوز فصلها الأول؛ عندما تبدأ الاسقاطات تتضح والشخصيات الواقعية تطلع تدريجيا من بين الأسطر والكلمات. 

عن جيجل وعنصرية الجواجلة

 في جيجل توجد كتلة صلبة من العنصرية يمثلها عدد قليل ومحصور من الناس يعشيون في جغرافيا تضيق باستمرار، الجواجلة دي كبها (وسط المدينة) يمثلون وجها غريبا ومتطرفا للعنصرية، عنصرية تصنف الناس إلى جنسين والعالمين إلى عالمين، الجواجلة والعتارس، واحنا والبرانية او "ادي برا" بالتعبير الجيجلي المنغلق. ناس دي "كبها" الذين عرفتهم بثانوية كعولة تونس بفيلاج موسى كانو يشكلون عينة عن ذلك الانغلاق، أيضا أولئك الذين التقيتهم بالعاصمة ، وجدتهم على ضلالتهم القديمة: متكتلين مع بعض، منزوين، ساخرين من بقية  العالم، متمترسين خلف لهجتهم التي لا يبدلونها، وخلف اساطيرهم العنصرية التي تختصر العالم في جيجل المدينة وبحرها وما يوصل إليه من عوالم خارج الوطن في الضفة الأخرى، كأنى الجيجلي هو ذلك العرق المتطور الذي طوحت به الجغرافيا بعيدا عن نظرائه، إنه بحسب اعتقاده ذلك الكائن الذي قادته الظروف التاريخية الماكرة نحو بقعة هو ليس منها إلا انه مضطر للبقاء فيها، ، وانتقاما من إكراهات الجغرافيا ومكر التاريخ، يمارس تعاليه المقيت على الأطراف، وعلى العابرين بالمدينة والوافدين إليها، يختلق المحافظة كأسلوب حياة، يدعي التمسك بالتقاليد، يعيش في الغيتو العائلي عبر الحفاظ على نظم القرابة الشديدة الانحصار والانضباط والتي تمنع دخول الغريب عبر المصاهرة، فلا يزوج الجيجلي "الأصيل" إبنته إلا من قريبها أو من عائلة تثبت نسبها الجيجلي الممتد لقرون، إنه يدعي النقاء والصفاء العرقي داخل القبيلة وضمن العائلات المعروفة: فريجة، نيبوشة، لهتيهت .... التي تتشكل منها المدينة وتحتكر فضاءها وعقاراتها مانعة عنها التطور كي لا يدنسها الغريب أو يجد له موطأ قدم فيها. رغم أن العائلات الأصيلة المشكلة للمدينة القديمة، قد تفرعت خلال الفترة الاستعمارية أسرا وألقابا، وفروعا وأفخادا امتدت ديموغرافيتها من جيجل إلى خارج الوطن ( فرنسا خاصة) دون أن تمر بمحيط المدينة او المدن المجاورة التي يشعر الجيجلي دي كبها أنه غير معني بها، فهو إما أن يعيش في جيجل أو في أوروبا، وكل المدن الجزائرية لا تعني له سوى مراتع العتارس والغاشي . العائلات الجيجلية لا تنسى تاريخ انتمائها للمكان الذي اتخذت منه منصة، رغم كون جيجل مدينة وطيئة، تطل منه على العالم بتعال لا يجد ما يسنده واقعيا ولا تاريخيا، غير أنه راسخ في نفوس الجواجلة دي كبها، لا يتزعزع، لا يهن ولا يشيخ ولا تضعفه تغيرات الزمن وتقلبات المكانة والدور الذي لم يعد للمدينة البحرية التي تقلصت لمجرد بنايات قديمة وتجارة راكدة ووسويقة لا يغيب عنها السمك بكل أنواعه مهما كان الجو متقلبا. بذلك التعالي المكين في نفوس الجواجلة يواجهون العالم الذي يرفضون الامتزاج معه، يحاربون، يتعنترون على العتارس، ويمعنون في ذلك من خلال غلق المدينة أمام الوافد، وأمام ممكنات اللهو، أمام إمكانيات الامتزاج بفعل المعاملات التجارية، فيرفضون كل ما يمكن أن يجعلهم ملزمين بالتعامل الندي مع الوافدين، لهذا ظلت المدينة القديمة بائسة، صغيرة، محصورة في حوانيتها العتيقة ومقاهيها المحسوبة العدد والمهترئة الكراسي، في مقابلها وعلى مشارفها نمت الأطراف وتطورت واستقطبت النشاط التجاري والتوسع العمراني لتصير هي المدينة، ويتحول المركز القديم إلى بقعة مهملة أسفل المدينة لا يقصده إلا المضطرون.

وجاهة العائلة

تكتسب العائلة وجاهتها من ماضيها، وهو الذي يموضعها على مقربة من السلطة ومصادرها، ويمنحها سلطة حقيقة إزاء محيطها القريب الذي يتطلع إليها باحترام وطمع، ولكن الماضي وحده إذا لم يشتغل على تعزيزه باستمراره فهو غالبا ما يتحول إلى عبء ووهم لدى أفراد لا يصدقون عادة أن العز التليد لم يعد سوى أخبار غابرة يتداولها كبار السن بأسى. تعزيزا لذلك الماضي تتجه العائلات العريقة إلى الاستثمار في أبنائها عبر توجيهم إلى حيث يمكن أن يكونوا ذوو نفوذ وتأثير. في الجزائر المستعمرة كان توجيه ابن على الأقل لمواصلة التعليم وتحصيل أعلى الشهادات يعد استراتجية متبعة من قبل العائلات العريقة التي غالبا ما توجه  ابنا آخر نحو التجارة للحفاظ على الوضع الاقتصادي للعائلة وعزيزا لاستقلالها المادي، كما أنها غالبا ما تدفع بابن اخر ليكون موظفا حكوميا، كي يذوذ  عن العائلة أزاء السلطة/ الدولة، لهذا نجد عدد كبير من العائلات العريقة في الجزائر قد دفعت بأحد أبنائها إلى الانضمام للثورة وبابن آخر ليكون مجندا في الجيس الفرنسي كنوع من الاستراتجية التي تضمن لها  أن تكون في صف المنتصر دوما، فرانز فانون تكلم عن الذين انضموا إلى صفوف حزب وجيش التحرير عشية الاستقلال والذين اكدو بسلوكهم ذاك إن هذا الانضمام ليس له هدف سوى انتزاع قطعة من الكعكة بعد الاستقلال، والحفاظ على المكانة الاجتماعية وتعزيزها رغم قوة التغير الاجتماعي الحاصل نتيجة زوال النظام الاستعماري الذي وجدت في ظله تلك المكانة.
في الجزائر المستقلة، ونتيجة خطابات المساواة التي جعلت من الشعب كله " أبناء الزوالية"، عائلات قليلة فقط ظلت تعمل على  التمكين لابنائها من أجل ان يكون لهم سلطة، وبالتالي تظل، أو تنخلق للعائلة سلطة ووجاهة ومكانة اجتماعية، مع تغير  مسببات السلطة والوجاهة الاجتماعية للعائلات الجزائرية التي فقد فيها العلم مكانته تماما فلم تعد العائلة تعتبر ذات وجاهة ومكانة لمجرد ان احد ابنائها معلم، كاتب أو استاذ جامعي أو حتى رجل دين، فالعلم والثقافة قد تراجعا بشكل كامل للخلف وتركا للعائلات المنتمية للفئات الدنيا التي تسعى للارتقاد، وفي احسن الحالات فالعلم والثقافة هو مجال تنافس ابناء الطبقة الوسطى الذين لا يطمحون سوى في مستوى عيش لائق دون طموحات تتجاوز تحسين الوضع الاقتصادي مقارنة بباقي ابناء الزوالية، اما العائلات التي تسعى لتكون ذات وضع امتيازي، وهي تلك العائلات التي تنظر للدولة كهدف تسعى للاقتراب منه رغم توجسها الكبير من النظام الذي طالما لفظ الوافدين الجدد بعد انتهاء فترة خدمتهم، فهي عائلات تسعى لتعزيز وضعها الاقتصادي من خلال التجارة، حيث غالبا ما يكون احد افرادها من  الذين يمارسون التجارة، ليست تجارة الحوانيت التي تسد الرمق بالكاد، إنما ذلك النوع من البيزنيس الذي يحتاج إلى توظيف شبكة علاقات واسعة لاجل تسييره بسلاسة، ولهذا فوجود أحد أبناء العائلة ضمن سلك الجيش أو الأمن يعد امرا ضروريا بنفس القدر الذي تحتاج فيه هذه العائلة للدفع بأحد ابنائها نحو الارتقاء المهني ضمن الوظيفة العمومية، وتحسبا لتقلبات الزمن، فإن وجود فرد آخر من العائلة بالخارج ويفضل امتلاكه للجنسية، يعتبر امرا محمودا ضمن استراتجيات تحقيق الوجاهة

الأحد، مارس 05، 2017

هوس الغوايات: عن المرأة والحب والجنس


كانت الغواية في مبتداها فعلا شيطانيا، تلقفته المرأة وبثته للعالم، وكان الرجل، الذي ظل منذ خطيئة آدم الأولى، رهين الغواية الأبدية وأسير الصبابات البعيدة، ومدار الفتنة وضحية الافتتان من امرأة نجحت دوما في الإتيان بالشيطان، الغاوي الأول، مكبلا في قارورة، ليس بنية تخليص العالم من شروره، إنما لتحل محله وتنوب عنه وتستحوذ على وظيفته الأثيرة: الإغواء، وهي تعلن كل مرة، من موقع الضعيف الذي يستقوي بالفتنة والغواية،  عن الاستحواذ بـ/وعبر  جلال الأنوثة، على الغواية كفعل تمارسه المرأة نيابة عن، وتجاوزا للشيطان، الذي ظل، في مواضع كثيرا، يتراجع كسيرا حسيرا، ومفتونا، بقدرة المرأة الفاتنة، الغاوية، ذات السلطة والسلطان على أن تحل محله وتنوب عنه في شد الحبائل والنفخ في البوق.
المرأة الغاوية
         تتمظهر المرأة في المخيال الجمعي لمجتمعاتنا المسلمة كسبب مباشر للفتنة، لهذا يكثر التحذير الديني من فتنة النساء وغوايتهن، وهو ما يتم التعبير عنه بالكيد: { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}، وهذا الكيد العظيم المحذر منه قرآنيا، والمدعم بأحاديث توكيدية وترسانة كبيرة من الفتاوي والنصوص التأويلية التي تدين المرأة وترميها بتهمة الكيد، وهي التهمة التي تموضع الرجل، الذي كان هو المنتج للخطابات المُدينة للمرأة، في موضع الضحية؛ إنه المفتون في دينه بسبب جمال المرأة وجبروت فتنتها. فالكيد هنا مرتبط " بالزيغ الجنسي" في المخيال الديني الإسلامي، والذي لا يزال قوي التأثير والتحكم في سلوكياتنا، ومساهما فعالا في بناء مواقفنا من القضايا التي تجابهنا في الواقع المعاش. إن تحذير الفقهاء من فتنة النساء، وتوكيدهم على أن المرأة غاوية بالضرورة، ولهذا يجب سترها خلف الحجاب وتضييق المراقبة عليها، وحماية عفتها منها، بما أن العفة مطلب رجالي قبل أن تكون قناعات نسائية. الفتنة في معناها اللغوي  تعني الإكراه على الشيء، ولكن توظيفها حين يتعلق الأمر بالمرأة يصير ذو معنى مفارق، يصير المعنى يحيل على الجر إلى المعصية، جر يقوم على الجذب ويتوسل بالغواية لأنه يفتقد لقوة الإكراه، والمرأة الغاوية التي هي موضوع الفتنة وسببها، يبقى جسدها، المطلوب حجبه وتغطيته، هو الوسيلة والأداة لأحداث تلك الفتنة التي تشكل تهديدا لإيمان الرجال وصلاحهم من خلال دفعهم عبر ما تثيره فيهم من فتنة إلى ترك النواهي الدينية جانبا والانسياق وراء الحرام الذي هو الزنى وأيضا، بحسب الرؤية الدينية، الانشغال بالنساء ولواعج الغرام عن أمور الدين.
إن مكر النساء، ورغم قوة توظيفه في الخطابات الدينية، يظل في حقيقته  تهمة أكثر من كونه تعبيرا عن حقيقة ماثلة، وربطه بالفتنة وربط الفتنة بالمرأة تحديدا يبدو ربطا تعسفيا؛ فالمكر بمعناه العام أمر مشترك بين النساء والرجال، وإذا كان مكر النساء قد وصف قرآنيا بالعظيم إكبارا له وتهيبا من فداحة نتائجه، إلا أن القرآن نفسه لا يربطه بالمرأة ولا بالغواية الجنسية. يعطينا القرآن النموذج الأبرز لمكر النساء ممثلا في حادثة النبي يوسف عليه السلام مع زوجة عزيز مصر، وهو مثل مراوغ حيث المكر النسائي الذي يرتبط في مخيالنا بالفتنة كأداة لذلك المكر، تنقلب في القصة القرآنية لتصير مكرا نسائيا لم يحدث إلا كرد فعل على فتنة رجالية هي فتنة سيدنا يوسف لامرأة العزيز ومن بعدها لنساء مصر، فالقرآن لا يربط الغواية بالمرأة، كما أنه كنص مؤسس لثقافة الشعوب الإسلامية، لا يدين المرأة/ حواء بفعل الغواية الأولى التي أخرجت آدم من الجنة، بمقدار ما يؤكد على معصية آدم { وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}.
الحب باعتباره فعل تمرد
غواية الحب تكمن في قدرة المتحابين على الانفلات من سلطة المجتمع وقدرته على مأسسة الرغبة، وشرعنة المتعة، والدفع باللذة عبر قناة وحيدة هي الزواج. المجتمع الذي يتخذ من الدين شرعية الإخضاع يحث على الحب الخاضع للعرف، المقولب، المنزوع التمرد، والمنصاع لما يطلب من المتحابين تأديته كضريبة للمتعة، فلا متعة في مناطق الظل ولا رغبة تنبجس دون مباركة "الحلال" وطقوسه التي تعلن أحقية رجل وامرأة في ممارسة جنسية غير مدانة، إننا أمام الحب الرسمي، الذي تنتفي فيه الغواية كمحفز، وكوسيط يؤجج لهيب الشوق بين طرفي الرغبة الساعي كل واحد منها إلى حضن الآخر وقلبه آهل بالصبابة والمسرات الموعودة التي تنخصي غالبا تحت وطأة المؤسسة، حين تتحول العلاقة، التي أساسها الانفلات ورفض النمذجة، إلى عرف وسلوك متعارف، وواجبات تؤدى قهرا حتى دون الشعور بالمسؤولية التي تجعل للواجب قبولا من النفس يستحيل إقبالا على الالتزام به دون الشعور بوطأة الجبر والقهر الاجتماعي، هكذا "حب" يعيش تحت هاجرة العرف يستحيل بمجرد انتماء طرفيه إلى المؤسسة، إلى مجرد علاقة اجتماعية، مما يجعل سؤال الحب والرغبة والغواية في تلك العلاقة مطروحا بإلحاح دون إجابات حاسمة بسبب تعقد تلك العلاقات الممأسسة التي تسمى زواجا وما يتفرع عنها من علاقات ذات طابع أسري ينمي الاجتماعي على حساب العاطفي، والجماعي على حساب الحميمي، والمتعة على حساب الرغبة، وفي كل ذلك تذبل وردة الشغف في القلوب التي كانت عاشقة، لتنمو ورود أخرى للشغف والصبابة على هامش المؤسسة في ظل العلاقات الموازية؛ تلك العلاقات المدانة باسم النزوى والخيانة والتي تتحول فيها الحبيبة، في نظر المجتمع، والمؤسسة، إلى مجرد عشيقة منذورة للنكران متى اكتشف أمرها، ومنظورا إليها كعاهرة، و"خطافة رجال". مع الحبيبة التي يلوذ بها الرجل ويأوي إليها، ومع الحبيب الذي تلوذ به المرأة بعيدا عن المراسيم والطقوس، وتحايلا عن قوة المنع الاجتماعي، ينمو الحب الأصدق، الأعمق، والأكثر حميمية؛ ذلك الذي لا يحتاج لإذن كي يتحقق لأنه يستمد إذنه وشرعيته من ذاته لهذا يعيش المتحابون، بعيدا عن مؤسسة الزواج، وضد بعض الوضعيات العائلية التي ترضى بالقرب دون أن تتسامح مع انمحاء الحدود، العمق والهيام والرغبة التي تستولد نفسها من ذاتها، وتتجدد عبر  إنفاقها مقابل تحصيل المتعة؛ تلك الولاّدة للذة، راعية الصبابة التي تعصم الشغف من الفتور.
الحب المنفلت من تأطيرات المجتمع للعلاقة بين الجنسين، رغم قوة الإدانة التي يجابه بها، ورغم كونه، حتى بعد رجات الحداثة العنيفة التي أصابت المجتمعات التقليدية، لا يزال يصنف ضمن علاقات الهامش، ضمن المهمش والمقموع، ضمن مجال التمرد ورفض الانضباط، لا يزال، وسيظل يشكل بالنسبة للكثير من الأفراد الباحثين عن الفرادة والمعنى لحياتهم، مطلب الروح وغاية النفس الشغوفة بالعميق الذي يملؤها؛ لأنه وحده يعطي المعنى الحقيقي للعواطف التي نقرأ عنها دون أن نختبرها بصدق وعمق: الشوق، الرغبة، اللذة، الحزن، الخوف من الفقد، الشجن، ألم الذكرى، متعة الوصال، لذة القبول، قلق الانتظار، إنفطار القلب، الثقة وفقدانها، كرامة العاشق، الصبر والمسامحة .... كلها مشاعر تعاش مع وبالحب المتحرر من قيود المجتمع، ذلك الذي تقذف به المجتمعات التقليدية نحو الهامش، وأحيانا كثيرة نحو الزوايا المعتمة، لأن العلاقات الممأسسة تخضع لإواليات أخرى تُقرر بعيدا عن، وبالتعالي على الأشخاص الفاعلين في العلاقة، لهذا يبقى الحب كعلاقة تندد بالقولبة، علاقة تمجد الذاتية المقموعة لصالح تماثل مطلوب اجتماعيا وممجد قيميا، وتلوذ بقيم حداثية من قبيل: الفردانية، الحرية الشخصية، الاستقلالية، علمانية الحياة الاجتماعية، وهي كلها قيم ضد الجمعنة، وضد رديفها: الضبط الاجتماعي الذي يتعين بدور المؤسسات الناظمة للمجتمع والحارسة لقيمه، خاصة العائلة باعتبارها القامع الأول للحب كعلاقة حرة بين رجل وامرأة قررا اللقاء بعيدا عن سلطة ورقابة العائلة، وتجاوز النواهي الأخلاقية التي تبثها العائلة والمدرسة والخطاب الديني، وترعاها، في الكثير من الأحيان، القوانين القامعة للحرية الفردية؛ القوانين التي تحرس شرطة الآداب في بعض الدول على تطبيقها دون تمييز بين العلاقات  العاطفية وعلاقات التداول السلعي للجنس، فالحب الذي لا يقدم نفسه كإلزام اجتماعي كما هو حاصل في العلاقات الزواجية، هو الحب الذي يمنح المعنى العاطفي، رغم هامش المخاطرة الكبير، والكثافة التي تملأ النفس  والتي تتعين بردات الفعل الحماسية والمستنفرة إزاء مختلف العواطف والمواقف؛ يعيش المتحابون في حالة تهيج عاطفي مستمر، حيث يكون المحبوب في حياة المحب بمثابة الآخر الذي هو إلى الأنا أقرب؛ والذي تتجه إليه صبوات وشغف وأفكار وعواطف المحب، في المقابل تنحصر علاقة الزوجين في برمجة الحياة اليومية على أساس ما تتطلبه الحياة الزوجية من واجبات والتزامات لا تتجه للأسرة ومتطلباتها النفسية والمادية والجنسية فقط، إنما تتسع نحو الأهل والعائلة أي نحو المجال الواسع وغير المحدد الذي يحتم على الفرد، المنخرط في المؤسسة، أن يهيء نفسه للتصرف وفق مجموعة من التوقعات غير المحددة مسبقا، رغم وضوح معالمها بشكل نسبي، التي تبنيها العائلة، وجماعة الانتماء الأسرية اتجاه الفرد الذي ينخرط، نتيجة كونه، زوجا أو زوجة، في مجموعة علاقات جديدة، ووضعيات ذات طابع قهري لا تترك هامشا واسعا لحرية الاختيار والفعل، لأن الفعل والامتناع عنه أيضا، حين يتعلق الأمر بواجبات أسرية، يكون موضوع ترحيب أو إدانة بحسب استجابة الفرد للتوقعات التي بنتها العائلة وجماعات الانتماء نحوه، فالرجل/ الزوج منتظر منه أن يفعل ولا يفعل، والمرأة/الزوجة بدورها محاصرة بالتوقعات، والأسوأ أنها محاصرة بالنواهي لمجرد كونها زوجة، فحرية الفتاة تحاصر بمجرد انتقالها لوضع الزوجة، ويتم سحب جزء كبير من حريتها بحجج أخلاقية، وغالبا ذات طابع جنسي، فالمرأة/ الزوجة تكون متاحة جنسيا وعاطفيا لرجل واحد، حسب التصور المؤكد عليه اجتماعيا، وأي إمكانية لكونها قد تكون موضوع رغبة أو فاعل في علاقة عاطفية أو جنسية مع رجل غير زوجها، تتم إدانتها بقوة، والأهم تعمل العائلة، والمجتمع ككل، على الحيلولة دون توفر شروط تلك الإمكانية، لهذا تكون حرية المرأة المتزوجة مقيدة، وفي المقابل يتم تعويضها عن تلك القيود بنوع من التبجيل الاجتماعي خاصة في حالة تحولها إلى أم، أي تحولها إلى عنصر منتج للحياة في المجتمع، إنها تساهم  عبر خصوبتها في حفظ وتجديد وتكثير النسل، وهذا سبب أساسي للتبجيل الذي تحضى به المرأة المتزوجة/الأم، مع أن الأمومة كحالة مفصولة عن سببها المقبول اجتماعيا الذي هو الزواج تصير منبوذة بشدة ومدانة في مجتمعنا التقليدي، فالأم العازبة، وإن كانت الدولة عن طريق مجموعة قوانين توفر لها بعض الحماية، فإن المجتمع لا يقبلها بشكل سوي، لهذا يرتبط تبيجل المرأة كأم بالزواج، باعتباره المؤسسة الشرعية الوحيدة التي يتم عبرها قبول الوافدين الجدد على المجتمع (الأبناء).
 إن معظم الأساطير المبنية حول الزواج؛ بصيغة أكثر تحديدا معظم الحكايات التي يتربى عليها الأطفال ويقرأها الكبار بنهم لكونها تندرج ضمن وسائل التنشئة الاجتماعية، تقدم الخلاصة المطلوبة والمرضي عنها للعلاقة بين الرجال والنساء في الصيغة المتداولة: "وعاشوا في ثبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات"؛ إن المآل الطبيعي للعلاقة غير المحارمية بين الرجال والنساء هو الزواج وإنجاب الأطفال، وكل الحكايات، الأساطير، التوجيهات الدينية والأخلاقية، وبعض القوانين، تحصر العلاقة في الطريق المؤدية للزواج وتدين، وتعاقب من يجرؤ على سلوك الطرق الأخرى الضالة. إن هذا التصور الذي يمعن المجتمع في بنائه بشكل متقن وتلقينه لأفراده منذ الصغر يبدو قامعا للرغبة، ومضادا لجوهر الحب الذي يتأسس غالبا ضدا عن، ولمغالبة التقاليد والأعراف والقيم الاجتماعية التي تحرم الفرد من عيش عواطفه ورغباته دون تدخل وتوجيه من العائلة وجماعات الانتماء، وهو أيضا تصور خاصي للحب كخبرة تنمو وتنبني بالتجربة/ التجارب، فحصر مستقبل الحب أو نهايته، حسب التعبير الحزين والمفارق الذي كرسته السينما المصرية، في الزواج وتكوين عائلة وإنجاب أطفال، هو أمر فيه الكثير من التعسف، وهو ناتج عن تصور مثالي ومغرق في الأخلاقيات التي تراعي الانضباط الاجتماعي واحترام القيم الأسرية المؤكد عليها اجتماعيا والتي تعمل على حراسة الشباب، الشابات بدرجة أكثر، من الزلل الأخلاقي والطيش الجنسي الذي يرافق العلاقات الحرة أو النزوات حسب التوصيف الأكثر إدانة لعلاقات الحب التي تجد تحققها بعيدا عن الزواج، ويرى طرفاها أن الزواج ليس هو المآل الحتمي للعلاقة مع أنه قد يكون مرحلة في سيرورة تلك العلاقة، تؤكد عليها وتعمقها، وبهذا المعنى يكون نتاج ذلك الإجراء، أي تكوين عائلة، أمرا يعمل على تأكيد الحب وتعميقه، بنفس القدر الذي يعمل إنجاب طفل على توكيد الحب بين الطرفين ويعبر عن رغبتهما في الارتباط بشكل أعمق من خلال هذا الوافد الجديد عليهما، وإذا كانت المجتمعات التقليدية لا تزال ترفض، وبشدة، قبول الأطفال القادمين للعالم، من خارج مؤسسة الزواج، أو بالتعبير الأخلاقي والقانوني الحامل لإدانة كبيرة، نتيجة علاقة غير شرعية، فإنها في مقابل ذلك تؤكد على الزوج كحاضنة ومفرغة شرعية للرغبات الجنسية لكل من الرجال والنساء، وهي من خلال ذلك تعمل على حراسة تلك الرغبة، باعتبارها حاملة للخصب، من الهدر فيما لا ينفع المجتمع، لهذا يتم تبجيل المرأة كلما انتقلت إلى وضع الأم. وإزاء هذه القيم العائلية والتي تلغي الحب لصالح المؤسسة نجد بأن العلاقات الحرة يتم نفيها نحو الهامش ونحو الممارسات السرية؛ أي تلك العلاقات التي لا يعني إدانتها عدم حدوثها وإحجام الأفراد عن إتيانها، فالحب هنا يتحول إلى نوع من الممارسات المناضلة ضد القولبة المجتمعية ورفضا الانضباط العائلي، إنه، كعلاقة، بمثابة خبرة اجتماعية تقع على هامش العلاقات المرضي عنها اجتماعيا، وضدا عنها، وأحيانا، في حالة الخيانات الزوجية، هربا منها ومن ضغطها على الفرد.
يبدو الحب، كخبرة، واحدا من أكثر الخبرات الفردية انتسابا لمعنى الغواية، إنه سعي مسكون بالفرح والرهبة نحو ما تجد فيه النفس لذتها والجسد متعته، إنه ممارسة مسكونة بأفكار، وتصورات، وتجارب سابقة، عن الحب، فالإعجاب بالجميل والافتتان بالجسد المشتهى والسعادة بالقرب، والرضى بالوصال، كلها خبرات ينميها الفرد عبر التجربة والمعرفة التي تتشكل لديه بالتكرار وبالانسياق المستمر خلف غواية الحب كحالة تتسم بالتجدد وبإمكانية عيشها أكثر من مرة بشعور مختلف ومع أشخاص يتعددون وتختلف صفاتهم وطباعهم، فالحب، رغم قوة النمذجة التي تنتجها الأفلام السينمائية والأغاني وكتب الأدب الرومانسي، عن صفات المحب والمحبوب، وعن سبل وطرائق التعاطي مع الشخص المرغوب والمحبوب، إلا أن التجربة الفردية غالبا ما تتجاوز كل تلك الأفكار المسبقة والقيم الجاهزة والتي تعمقها كتب الإرشاد العاطفي وكتب نماذج الرسائل الغرامية التي تعمق النمطية في القول والفعل لدى المتحابين. يتجاوزها أولا عن طريق الخيبة التي تمنى بها التطلعات الحالمة التي تتصور بأن الحب والرغبة والجنس؛ هي أمور تحدث بنفس الطريقة، والأسوأ، بنفس الروعة، التي نشاهدها بها عبر الأفلام السينمائية أو نقرأ عنها من خلال الروايات، وهي خيبة تؤدي بادئ الأمر إلى نوع من النكوص العاطفي؛ أي رغبة في التراجع، ورهبة أمام حدوث الأشياء بشكل غير منتظر، وأقل مما هو محلوم به؛ أي شعور بأن الطريقة خطأ، أو الشريك الذي نبادله الحب ونتشارك معه الجسد ليس أهلا لما نتطلع إليه معه، إن هذه الخيبة؛ والتي هي نتاج وهم آخر ينضاف إلى مجموع الأوهام العاطفية التي تجعل من الحب موضوع اكتشاف دائم، والأهم أنه يظل موضوع بناء مستمر، لأنها سرعان ما تزول حين نسير بالعلاقة من مجال التخيل إلى مجال الواقع، وهذا غالبا ما يحدث عند التجارب الأولى، خاصة التجربة الجنسية الأولى التي تكون أكثر التجارب الإنسانية مسكونية بالتصورات والأفكار المسبقة، إنها ما يحدث ونحن مثقلون بالجهل اتجاه ذلك الذي يحدث؛ جهل تعمينا الأفكار المسبقة عن اكتشافه، خاصة الأفكار والتصورات المكتسبة نتيجة احتكاك سطحي بالثقافة الجنسية عبر الحكايات، الأخبار، الأفلام البورنوغرافية، روايات الإثارة الجنسية، وعبر الممارسات السطحية التي لا تنزل، إلا عن طريق العين، لما تحت الثياب، التعمق في التجربة وتجاوز الخيبة الأولى، هو الذي يجعل الحب ينتصر على الأساطير التي تشكلت في الوعي الفردي، بشكل مسبق، حوله، وهو انتصار للحب على المحبوب أيضا، فكل الأساطير التي نسجتها تطلعات الحالمين والعشاق المفتونين بلحظة العشق، تؤكد على الحب كحالة انجذاب قوي نحو شخص بعينه، لا تتشكل العواطف والرغبات إلا معه وباتجاهه، مما يخلق وعيا زائفا بالحب يرطبه بمحبوب واحد على مستوى الخطابات العاطفية (أغاني، أفلام، روايات، قصائد غزل ...)، في حين أن المحب لا يتجه في النهاية سوى إلى تصوراته التي يصبغها على محبوب تصادف أن صفاته تنسجم بنسبة معتبرة مع مجموع التخيلات الخالقة للشغف التي كونها الفرد عن الحب. إن الحب في وجه من وجوهه ترحال، وليس، كما يدعو ويدعي الكثيرون: إقامة مديدة في قلب وحضن واحد، بمقدار ما هو بحث عن الحضن الأدفأ والقلب الأكثر "حنية"، كأن المحب لا يحب من المحبوب سوى خيالاته وشغفه بالأشياء وتصوراته عن العشق والهوى وصبابات الرغبة، لهذا يبدو المحبوب مجرد ذريعة وسبب لعيش كل ذلك. كأن المحبوب ذات مفصولة عن الحب، يلبسها المحب ما يشتهي ويرغب ليعيش عبرها ومعها صبابات القلب وملذات الجسد أياما أو أعواما، لكنه يبقى دائما، وحفاظا على توهج ما بالقلب من مشاعر ورغبات، على أهبة الاستعداد لترحال جديد محملا بكل ذلك الشغف نحو محبوب آخر له سلطان الجاذبية وسطوة الافتتان التي تبعد المحب عن محبوبه الذي كان والذي فقد لسبب ما؛ غالبا ما نرجع السبب لما نسميه بالمشاكل العاطفية أو الخلافات الزوجية، قوة جاذبيته، وبالتالي فقد القدرة على أن يكون الحامل المثالي لتلك التصورات العاطفية وذلك الشغف الآهل بالهوس بالأشياء التي يحبها المحب ويشتهي أن يجدها في محبوبه.
ميزة الحب وغوايته التي لا تنضب أنه دائما قادر على كسر النمطية، لأنه، وعبر الخبرة، يتحول إلى فكرة تتطور باستمرار عبر التعمق في علاقة الحب الواحدة، أو الانخراط العاطفي في أكثر من تجربة، وهذا التحول نحو الفكرة يجعل من كل علاقة طقسا لا يختلف كثيرا عن طقوس العبور المختلفة، حيث كل علاقة تهيء الفرد نحو علاقة أخرى وتكون في ذات الآن مشدودة نحو العلاقة السابقة عبر جملة من الأفكار والاعتقادات، والأهم عبر جملة من الطقوس العاطفية والممارسات ذات الطابع المتعوي، كما أنها، وهذا الأهم في الحب، تنمي لدى الفرد/المحب القدرة على التعامل بشكل أكثر اتزانا مع المحبوب، نتيجة تعمق المعرفة بالطبيعة النفسية للآخر وبطبيعة التوقعات التي يبنيها كل طرف إزاء الشريك/المحبوب/الآخر.
غواية الجنس: الشبق قبل العاطفة؟ !

هناك تصور مبتذل، رغم كثرة أنصاره، ورغم كونه حقيقيا في الكثير من الحالات، يقول بأن الحب ما هو إلا محض إدعاء، وتبرير عاطفي لرغبة صميمة وحقيقية في أعماق طرفي الحب أو أحدها على الأقل؛ رغبة جنسية محضة يتم تغليفها بادعاءات عاطفية يتواطأ الطرفان على تصديقها كي لا يشعر أي منهما بأنه مجرد حيوان جنسي أو أداة استفراغ. بعض الفلاسفة من أنصار مذهب اللذة ينفون وجود العلاقة الجنسية بالمعنى الذي نعطيه لها، ويختصرونها في نرجسية مفرطة للطرف الراغب في الآخر والذي يحوله إلى، أو بالأحرى يجعل من جسده، مجرد وسيط لتحقيق  لذته وعيش الإشباع الجنسي الذي يبني على خيالات ذاتية وخبرة سابقة وشعور نفسي اتجاه الرغبة؛ وكل ذلك مفصول في حقيقته ومبتداه وسيرورته عن شريك الاتصال الجنسي الذي يلبسه الراغب كل خيالاته السابقة وتصوراته وشغفه بالأشياء؛ إنه في النهاية يتعاطى ما شخص متخيل أكثر مما يتفاعل مع شخص حقيقي، رغم كون الآخر، المستغل لتحقيق الرغبة الفردية، هو أيضا يقبل على الشريك أو القرين بنفس التصورات ويجعل منه بدوره مجرد وسيط للانتقال بالرغبة إلى مجال التحقق المتعوي، حيث تظل المتعة هي الغاية الأبعد والاستجابة الطبيعية لتشكل الرغبات ونموها في نفس وجسد الفرد، تلك المتعة التي لا يمكن تحقيقها ذاتيا إلا بشكل هش، ومتعب، وغير مرضي للنفس، عبر الاحتلامات والاستمناء والإقبال على المثيرات التي توفرها المشهدية الجنسية ووسائلها شديدة التطور والإبهار. رغم كونها في النهاية لا تفعل شيئا أكثر من أنها تعمّق الشعور بالوحدة، وفي الوقت نفسه تجعل من الخيالات والتصورات المشكلة عن الجنس والمتعة خالية من المعنى، لأن كل سبل وأدوات تشكيل تلك الخيالات وتنميتها تؤكد على الشريك وتؤكد على العلاقة باعتبارها تلاحما بين طرفين، وتحقيق المتعة الجنسية ذاتيا عبر الاستمناء وعبر الإقبال المفرط على المثيرات الجنسية، غالبا ما تكون نتيجته الآنية شعور بالإحباط بمجرد التحقق، إنها ممارسة تسلم الفرد لشعور حاد بالفراغ وعدم الشعور بالامتلاء والإشباع، رغم أن نفس الشعور يرافق غالبا العلاقات الجنسية البينية والتي تنتهي بدورها بشعور ما بالفراغ يتفاوت من شخص إلى آخر، مما يؤدي إلى تجدد الرغبة وبالتالي تجدد الطلب على العلاقة بشكل مستمر كنوع من تحقيق متعة سمتها الأساسية قابليتها للتكرار بشكل مستمر. بهذا التصور يعتقد الكثيرون، الفلاسفة وأنصار مذهب الشك، والكتاب المعادون للحب على وجه الدقة، بأن الحب غير موجود؛ وكل ما يشدّ شخص ما لآخر هو تلك الرغبة الجنسية الملحاحة، شديدة القوة والسطوة والسلطان، التي تدفع بامرأة ما لحضن رجل ليحتضنهما العري والرغبات التي تتحقق بالاحتواء والاتحاد بعد أن يتجرد كل واحد منهما من تحفظه وهواجسه مسلما نفسه لـ، ومتفاعلا بما يملك ويقدر مع الآخر. يرد أنصار الحب والمدافعون عن المشاعر الحقيقة والعميقة لطرف اتجاه الآخر، على هذا التصور الجنسي للعلاقة بأن رجلا وامرأة لا يكونان في حالة ممارسة جنسية إلا تأكيدا، واستجابة للحب وعاطفته القوية التي توصلهما لفراش واحد يختبران عبره تلك المشاعر والرغبات، فالجنس رغبة والحب عاطفة، الرغبة قد تتحقق بشكل منفصل عن الحب، وغالبا ما يحدث ذلك بالنسبة للكثير من الشركاء، يحدث بشكل واسع بالنسبة للمتزوجين أيضا والذين يتعايشون جنسيا بشكل طبيعي دون أن يكون بينهما عاطفة يمكن تسميتها حبا، أيضا العاطفة لا تؤدي بالضرورة إلى نشوء العلاقات الجنسية، خاصة ذلك النوع من العواطف القريب من الحب في مزاياه وخصائصه كالصداقة التي تنحو لأن تكون عاطفة ذات أساس ثقافي، أخلاقي بدرجة أقل، بين شخصين يجدان الكثير من القيم التي تجمعهما، وأيضا يشعران بانجذاب خالي من الرغبة، لكنه قوي، يتعين شعوريا بالحاجة إلى الصديق، وهو شعور يتعزز باعتقاد الصديق بأن صديقه/ صديقته موضوع ثقة، والأهم من ذلك شخص يمكن أن تلجأ إليه كملاذ نفسي لاستفراغ الهموم والمشاكل؛ إن الصديق شخص يمكن الاعتماد عليه، ولهذا فهو شخص قريب عاطفيا، أيضا هو شخص يمكن فهمه نتيجة الخلفية الثقافية التي ساهمت في تكوين الصداقة بين شخصين، لكن في حالة كون الصداقة بين رجل وامرأة فإنها نادرا ما تحتوي على رغبات ذات طابع جنسي، أيضا لا تحدث أية علاقة جنسية في إطار علاقة الصداقة، إلا في حالات معينة ذات طابع خاص. لهذا جين نتحدث عن الحب كعاطفة فنحن نتحدث بالضرورة عن الجنس كعلاقة ملازمة للحب، أو كهدف ومسعى، وغاية مرتجاة ومشتهاة من الطرفين،  ورغم إمكانية عدم حدوثها واقعيا، فإن الرغبة في حدثوها وتمني ذلك، جعل من الرغبة الجنسية علامة دالة على الحب، ورغبة شديدة اللصوق به كعاطفة تتجه نحو التجسيد المادي لها عبر الجنس.

conter