الأحد، يوليو 27، 2008

فوبيا الليل

سار في الشارع الطويل لا يكاد يتقدم خطوة أو خطوتين حتى يلتفت إلى الجهات الأربعة، كان يحس أن الجميع ينظر إليه وأن كلامهم فيما بينهم تهامس ماكر عليه، أرهف السمع لعله يلتقط بأذنيه اسم جاسم لكنه لم يصل إلى ما أراد، فلا أحد في هذا البلد ينطق هذا الاسم على لسانه، لأن أمه استوردته من إحدى دول الخليج حيث كانت تشغل هناك طبيبة بإحدى المستشفيات، وأغلب الظن الذي صار يراوده عن سر هذا الاسم الغريب والناشز أن أمه أحبت رجلا بهذا الاسم فأرادت أن تخلده في ولدها البكر، أنه يحس أبدا وهو طفل صغير أن والدته تكن أي حب لوالده فقد كانت لا مبالية اتجاهه بشكل شاذ جعله يستغرب لاحقا تلك المعاملة التي كان والد يصبر عليها على مضض.
كان الشارع قد التوى إلى اليمين حيث يوجد على أحد جانبيه مطعم فاخر ارتاده مرات كثيرة مع عمه حسين قبل أن تصير حالته إلى ما آلت إليه بعد أن سرح من الخدمة العسكرية، وما زال إلى اليوم يحن إلى طبق السمك المشوى على الجمر الذي كان الطبق المفضل له وللعم حسين، ودون أن يفكر وجد نفسه يحجز إحدى طاولاته، لم يتردد وطلب طبق السمك الأثير لديه الذي راح يتناوله بشراهة، لكنه وقبل أن يجهز على آخر ما تبقى في الصحن أمامه تذكر شيئا مهما، تحسس جيوبه كمحاولة أخيرة للتأكد من خلوها من أي فلس، تذكر بكثير من الغبطة سبب شجاره صباحا مع بائع الخضار واتهامه إياه بأنه يغش في الميزان، والحقيقة أنه لم يتذكر انه لا يملك فلسا في جيبه إلا بعد أن طلب كيلوغراما من الموز، فافتعل ذلك الشجار وتلك الحجة حتي يتخلص من الموقف، وهو الآن يقف في نفس الموقف للمرة الثانية في هذا اليوم.
مسح الطاولة حتى من الفتاة، فكر أن يطلب نوعا آخر من الطعام لكنه تذكر أنه بحاجة لبعض الرشاقة والخفة بعد قليل، نهض واتجه في وقار نحو صاحب المطعم الجالس خلف مكتبه الصندوقي قرب الباب الموصل إلى الخارج، نظر إليه وابتسم ابتسامة عريضة وهو يتظاهر بتحسس جيوبه ثم نظر إلى الباب وأعطى الريح لساقيه.
كان يسير في الطريق المؤدية إلى عيادة الطبيب النفساني الذي يعالج عنده منذ قرابة السنة وهو يشعر بالكثير من السعادة للانتصار الذي حققه اليوم على بائع الخضار وصاحب المطعم.
نظرات الطبيب وحدها هي التي أذهبت عنه تلك السعادة فقد كانت تلك النظرات الماكرة تشعره بالكثير من التوتر والارتباك، كان ينظر إليه كمجنون، وهو من جانبه كان يفتعل الكذب عليه من حين لآخر ليتمتع برؤيته يصوغ تشخيصه لحالته اعتمادا على معلومات خاطئة، بيد أن الطبيب كان يكتشف كذبه في معظم الأحيان، وفي كل مرة يكتشف كذبه يرسل محوه نظرات ثعلبية ماكرة من خلف نظارته تشعره أنه أتفه مخلوق على وجه هذه البسيطة، تلك النظارات التي كان يحسها دائما مائلة وغريبة الشكل وغير متلائمة مع الموضة، شعر في المرة الماضية بسعادة كبيرة حين أدرك أن الطبيب السمين لا يستطيع الرؤية بدون تلك النظارات الغريبة الشكل، فكر أن يسرق هذه النظارة ويبيعها في سوق الدلالين، لكنه لم يجد الطريقة التي يغافل بها هذا الرجل السمين فقد كان يخاف أية مغامرة لا يكون النجاح فيها مؤكدا؛ وكان الطبيب يحس بخوفه من أشياء كثيرة فيسأله:
- مالذي يخيفك ؟
- الليل..
ويهمهم دون أن يضيف أية كلمة، فكأن الليل يعبر عن كل تلك الهاجس التي تعتريه.
- ولماذا تخاف من الليل؟
- لا أحب الظلام أشعر في الليل أنني قد افقد عقلي في أية لحظة، وأحلم دوما أنني عندما استقض في الصباح سأخرج إلى الشارع وأتمشى بين الناس عاريا دون أي ملابس.
- أنت تعيش وحدك بالبيت وتنام وحيدا؟
- نعم كل أيام الأسبوع، مع عدا يوم الخميس، لأن زوج صبرينة يسافر كل خميس وعي تدعوني لكي أنام معها، ولكني لا أنام مع طلوع الفجر.
سجل الطبيب بعض الكلمات صغير أمامه وطلب منه أن يذهب ويعود بعد أسبوع، لكنه قرر بينه وبين نفسه أنه لن يعود أبدا ، فقد كانت الهلوسات الليلة تزداد من يوم لآخر وشعوره بأنه قد يصير مجنونا في أية لحظة يزداد سيطرة عليه.
حل الليل سريعا ، شعر بذلك وهو ينظر إلى نفسه في المرآة، قضى وقتا طويلا أمامها عله يلحظ أي تغيير على ملامحه، فهي حسب اعتقاده دليل جنونه، نام بكل الهموم والملابس والخوف من الجنون فلم يكلف نفسه حتى عناء نزع الحداء.
كان يشعر بخوف كبير ولم يفكر في شيء غير الأصوات التي تزوره كلما نام والتي سرعان ما ينضم إليها صراخه هو الآخر، كان يسمع صراخ أطفال، ورجل ضخم دو ملابس غريبة ولحية كثة مغبرة يضعهم تحت سكينه وينحرهم وهو يهلل بكلمات غير مفهومة؛ وأصوات نساء يبكين وبعضهن يغرقن في ضحك هستيري، وفتيات صغيرات نصف عاريات في أحضان أولئك الرجال ذوي الملابس الغريبة واللحى الطويلة، تبكين كتعبير وحيد عن رفض الاغتصاب.

لم يكن يرى رجالا غير الرجال غريبي الملابس وكان هو وسط الجميع يقف دون حراك ينظر إلى الجميع ولا احد ينظر إليه وكأنه لا مرئي وشفاف، يصرخ بكل قوة وعنف عندما يرى أن الأطفال توقفوا عن الصراخ وصاروا كلهم مبتسمين ابتسامات متشابهة، ولكن رؤوسهم كانت بعيدة عن أجسادهم؛ يصرخ ويصرخ، لكن قبل أن ينتبه احد لوجوده وسط تلك الساحة المعمدة بالدم يفيق مفزوعا من نومه، ويتكور على حول نفسه فزعا من رأى وخوفا من الظلام المسيطر على الغرفة، يخاف حتى أن ينهض ليشعل النور.
كان قد قرر أن لا يعود لعيادة الطبيب مرة أخرى، لكنه تراجع عن قراره وهو يبتسم للفكرة الرائعة التي خطرت في باله منذ مدة، فقد قرر أن يقوم بزيارة أخيرة، ليس من اجل الاستماع لخزعبلاات الطبيب السمين ولكن ليسرق نظارته الغريبة الشكل ويبيهعا في سوق الدلالين.
دخل وكان الطبيب السمين كالعادة ينظر إليه نظرات تشعره أنه أحقر مخلوق على وجه هذه الأرض، لم يطل به المقام كالعادة، فقد تظاهر أن نوبة حادة قد أصابته، وهو بارع في تمثيل هذه الحالات، وطلب من الممرضة أن تحضر له زجاجة مشروبات غازية وإلا سيكسر كل شيء، لبت الممرضة رغبته بأمر من الطبيب، وهنا هدأ وراح يبتسم ويعتذر للطبيب عن هذا الأمر الخارج عن إرادته، ولكن الرجل السمين لم يول اعتذاراته أي اهتمام وراح يدون بعض الملاحظات في كراس صغير أمامه، استغل فرصة استغراق الطبيب في الكتابة وخطف النظارة بسرعة وأعطى الريح لساقيه، رغم انه متأكد بأن الطبيب السمين لن يستطيع اللحاق به لأنه صار أعمى، إلا انه ظل يركض حتى خرج من الشارع الذي توجد به العيادة ودخل الشارع المجاور، وأكمل الركض إلى أن وصل إلى سوق الدلالين وهناك فقط توقف وهو يشعر بالكثير من السعادة بعدما تأكد من نجاح العملية، باع النظارة بثمن بخس وعاد إلى المنزل؛ نظر إلى نفسه في المرآة فلم ير أي تغير على ملامحه مع انه كان يحسها قد تغيرت كثيرا.
نام دون أن يطيل النظر إليها فقد قرر أن يكسرها غدا لأنها تخدعه، صار متأكدا أن ملامحه تغيرات كثيرا وانه غدا سيخرج إلى الشارع عاريا إذ لم تعد ملامحه إلى طبيعتها، لكن شيئا واحدا لم يتغير بداخله وهو خوفه من الليل والظلام والوحدة وكذا فزعه من تلك الأصوات والصور التي تأتيه كلما خلد للنوم، صور تلك المجزرة الجماعية التي كان الشاهد الوحيد عليها هو العسكري السابق الذي قتل جميع رفاقه في كمين، وتمكن هو من النجاة والفرار ومشاهدة تلك المجزرة الرهيبة التي وقعت في ليلة مقمرة.
نام لاقل من ساعة؛ ثم نهض مفزوعا صارخا بأعلى صوته كمن يطلب النجدة من خطر ما يكاد يداهمه، نهض مفزوعا، وقع أرضا ثم نهض، نظر حوله بتمعن فأحس انه يعيش لحظة التحول الكلي في ملامحه وان جسده يتشيء ويفقد علاقته الحميمة مع روحه، وأن كل شيء أمامه وفي ذاكرته ينشطر، نظر إلى نفسه في المرآة وإلى كل شيء في الغرفة ، شعر أن كطل شيء صار متشابها، وحينها أدرك انه حتما سيخرج بعد قليل على الشارع عاريا فقد فقد لأول مرة إحساسه بالخوف من الظلام، ابتسم وانبطح أرضا بالطريقة العسكرية، التفت إلى الجهات الأربعة فلم يرى شيئا وحينها ألصق أذنه بقطع السيراميك وراح يسترق السمع لشقة الجيران الواقعة في الطابق الثاني من العمارة أسفل شقته مباشرة ، كان يسمع أصواتا متداخلة، يسترق السمع أكثر عله يميز شيئا من تلك الأصوات، دون فائدة فقد كانت كلها متداخلة بشكل يصعب فرزه وتبين شيء منه، فقد سمع كلاما وقورا لطفلين يتحاوران معا ، بالكاد استطاع تميزه وسط كل ذلك اللغط.
رفع أذنه ثم أعادها لموضعها محولا إلصاقها جيدا بقطع السيراميك حتى يسمع جيدا، أحس أن الأصوات تزداد ارتفاعا وتداخلا. ولكن الشقة كانت فارغة.

الاثنين، يوليو 14، 2008

ياسمينة صالح في " بحر الصمت "

هل يمحو الاعتذار عمرا خاطئا؟!
هي الرواية الأولى لكاتبة تخطو خطوات ثابتة نحو احتلال مكانة متميزة داخل المتن الروائي الجزائري المعاصر، ياسمينة صالح التي برز اسمها على الساحة الثقافية الجزائرية في النصف لثاني من ثمانينيات القرن الماضي كقاصة واعدة تمتلك أسلوبا جميلا ومغريا بالقراءة، وأفكار واضحة تطرحها من خلال قصصها التي كانت تنشرها في تلك الفترة عبر الصفحات الثقافية لبعض الجرائد الوطنية، وقد كانت تلك الصفحات الثقافية المنبر الذي اطل علينا من خلاله الكثير من الكتاب والمبدعين قبل أن يجدوا طريقهم للنشر في وقت لاحق، بعد نضج
التجربة ومواءمة الظروف.
ذلك الحضور المميز لياسمينة صالح جعل الكثير من النقاد والمهتمين بالشأن الإبداعي يتوقعون لها مستقبلا مشرقا في عالم لقصة، خصوصا أنها من الأصوات النسائية القليلة التي استطاعت خلال فترة وجيزة أن تصنع لنفسها اسما في عالم القصة الذي كان يهيمن عليه بشكل كبير الحضور الرجالي، بالرغم من حداثة السن وحداثة التجربة.
لكن الذي حدث أن اسم ياسمينة صالح اختفى بشكل مفاجئ وتام من الساحة الثقافية، اختفت دون مبررات مما جعل البعض يرجح فرضية كونها استسلمت وخضعت لتلك التقاليد البالية التي تقف حجر عثرة في وجه إبداع المرأة خصوصا حين يكون هذا الإبداع يقول الحب ويوحي برغبات الجسد.
غير أن تلك المبدعة الشابة عادت بعد غياب أكثر من عشر سنوات، أكثر تألقا وتميزا في إبداعها، عادت هذه المرة من باب الرواية؛ عادت بـ" بحر الصمت " عنوان روايتها الأولى والفائزة بجائزة مالك حداد للرواية الجزائرية في دورتها الأولى (200 / 2001 ) التي تنظمها رابطة كتاب الاختلاف وترعاها الروائية الكبيرة أحلام مستغانمي.
بحر الصمت رواية تستعير قاموس العشق النزاري لتوظفه سرديا، وهي رواية مستغانمية ( نسبة لأحلام مستغانمي ) لأنها متأثرة حد التماهي برواية ذاكرة الجسد سواء من ناحية الأسلوب الذي يعتمد على جمل قصيرة، وشاعرية ذات نبرة غنائية، أو من ناحية الموضوع الذي هو عودة إلى حرب التحرير الجزائرية من بوابة قصة حب مستحيل وتراجيدي.
تقوم الرواية على تناظر زمني ين الحاضر والماضي، الحاضر بطيء ومثقل بالصمت والحزن العريض، في حين الماضي حركي وأحداثه المتسارعة ترسم صورة للجزائر قبل وأثناء حرب التحرير.
السعيد هو الشخصية المحورية في الرواية، الرواية التي تقع أحداثها في ليلة واحدة، أبطالها السعيد وابنته والصمت الذي يمتد بينها كبحر لا منتهي رغم تواجدهما في غرفة واحدة، ولكن الماضي هو الشيء الوحيد الذي يظل طاغي الحضور، الماضي الذي يصفي حساباته مع السعيد عن طريق الصمت ونظرات الإدانة التي ترمقه بها ابنته، الابنة التي لا اسم لها في الرواية ولا ملامح محددة لها أيضا، فما هي سوى نتيجة لتلك الخطايا التي ارتكبها الأب العجوز طوال حياته قد تجسدت أمامه في نظرات تلك الابنة التي تدينه بكل قسوة، تدين أبوته التي لم تكن لتمنحها هي وأخاها الرشيد الذي قرر الانتحار عن طريق جرعة زائدة من المخدرات، أي إحساس بالأبوة؛ كما تدين تاريخه غير المشرف وتسلقه السياسي على حساب الآخرين الذين ضحوا بحياتهم من اجل مبادئهم، في حين ظل هو لينعم بالامتيازات الريعية التي نتجت عن الثورة.
الرواية تتكون من 19 فصلا تروى بضمير المتكلم الذي هو السعيد الشخصية الرئيسية في الرواية، كل فصل يبدأ بتلك المواجهة الصامتة بين أب عجوز وابنة متمردة وناقمة على والدها، أما الأحداث فهي عبارة عن فلاش باك، اشتغال على الذاكرة واستعادة لتاريخ كامل تتقاطع فيه الأحداث الشخصية مع تاريخ الوطن.

عبر كل فصل من فصول الرواية يعود بنا السعيد عبر ذاكرته التي جعلتها الشيخوخة وتأنيب الضمير أكثر صفاءا وأكثر قدرة على استحضار كل التفاصيل الصغيرة لماض لم يكن نبيلا ولا مشرفا بالنسبة للبطل؛ في الماضي حيث الجزائر المستعمرة حيث يعيش السعيد سيدا إقطاعيا صغيرا يستعبد الفلاحين في أرضه التي ورثها عن والده ، مكانته في القرية جعلته مغرورا رغم إحساسه الداخلي بالخواء، وبأنه إنسان فاشل،كان فشله في الدراسة سببا في وفاة والده كمدا وحسرة؛ في تلك لقرية التي تعيش على أخبار الحرب وترتقب وصول شرارتها إليها، وعبر ذاكرة السعيد المنسابة كشلال هادئ وصاف نتعرف على شخصيات أخرى: قدور عمدة القرية والخادم الأمين لمصالح فرنسا بالمنطقة، بلقاسم اللقيط الذي يوظفه السعيد كفزاعة لترهيب الفلاحين الذين يعملون في أرضه والذي سيتحول لاحقا إلى بطل قومي بعد انضمامه للثورة وهي تحل بالمنطقة على غرار كل مناطق الوطن، وعمر المعلم بمدرسة القرية، وهو شخصية محورية رغم المساحة الصغيرة المخصصة له في لرواية، لأنه لعب دورا محوريا في سير وتحريك الأحداث، حيث كان لقاءه بالسعيد والصداقة المتشنجة التي جمعتهما سببا في كل التغيرات والانعطافات المهمة التي حدثت في حياة السعيد، أول هذه الانعطافات وأهمها: جميلة، أخت عمر، تلك المرأة/ الحلم / الوطن التي حولت السعيد من رافض للثورة لأنها تهدده مصالحه الإقطاعية إلى مقاتل في صفوف الثورة، ليس حبا في الوطن ولا دفاعا عن قضية أنما من اجل جميلة التي كان شقيقها عمر منسقا بين الثوار، منذ تلك الليلة التي رأى فيها السعيد جميلة ظلت هي وحدها المسيطرة على تفكيره وسلوكاته كلها، وبالتالي كان عليه أن يحافظ على حياته من أجل حبيبته في الوقت الذي كان فيه رفاقه يتسابقون على الشهادة، أما هو فالشهادة في هذه الحرب بالنسبة له كانت شيئا عبثيا وبلا قيمة ما دامت ستبعده عن تلك التي هزت كيانه من نظرة واحدة، حتى عندما علم بأن قائده في الكتيبة هو عاشق آخر لجميلة التي عشقها الكثيرون، وهي لم تعشق ولم تحب سوى رجل واحد هو الرشيد قائد الكتيبة والرجل الحاد الملامح والطيب والمندفع من اجل الوطن، وحبيبة كان يرى أنه لا يستحقها دون أن يمنحها مهرا بقيمة الاستقلال، لهذا كانت الشهادة قريبة منه ومطلوبة أكثر من الحياة، ربما لأنها وحدها خلدته في قلب جميلة التي بالرغم من قبولها لاحقا الزواج من السعيد إلا أنها لم تحب سوى الرشيد ولهذا خلدته في اسم ابنها، ذلك الابن الذي كان اسمه سببا في نقمة أبيه / السعيد عليه.
في هذه الرواية سرد لاحباطات الروح بالنسبة لإنسان يبدو أمام الجميع شخص محترم، ناجح ووطني وذو مقام رفيع بين الناس، لكن حين نتعرف عليه من الداخل عبر ما يرويه هو نفسه عن حياته نكتشف شخصا آخر: نذل، جبان ووصولي استطاع في اللحظة الحاسمة أن يترك مكانه في المؤخرة أثناء الثورة ليتبوء الصدارة ويستولى على نجاحات الآخرين وحتى أحلامهم المتمثلة في جميلة التي لم تكن سوى كناية عن الجزائر بلد الحزن العريض والأحلام العظيمة والإخفاقات الكثيرة.
كانت هذه هي الرواية الأولى لياسمينة صالح، صدرت سنة 2002، ثم تلتها برواية " أحزان امرأة من برج الميزان "، ثم برواية ثالثة بعنوان " وطن من زجاج"
حيث حاولت ياسمينة في روايتها الأخيرة هذه التخلص من أسلوب أحلام مستغانمي الذي أسرها في روايتها الأولى، هي التي كانت عاشقة لدرجة الوله لروايات أحلام مستغانمي، حيث صرحت في إحدى اللقاءات الصحفية أنها لم تتقدم بروايتها "بحر الصمت" لمسابقة مالك حداد سوى لأن أحلام مستغانمي – راعية الجائزة – ستقرأ نصها.
ياسمينة صالح رغم تنويعها في أسلوب الكتابة إلا أنها لا تزال مخلصة لموضوع أثير لديها، وهو الكتابة عن رجل يحمل اللعنة بداخله، تلك اللعنة التي تحل على جميع من يقترب منه، ليظل هو في النهاية يجتر خيباته، ويعاني من تأنيب ضمير لا يرحم.

الأربعاء، يوليو 02، 2008

نظرية المؤامرة


لماذا نسارع نحن العرب دوما لتعليق فشلنا على الاخرين، ولعن الظروف التي جعلتنا هدفا لكل طامع وحقود يعمل ليل نهار من أجل القضاء علينا وتشتيتنا وإضعافنا، هل نحن حقا بهذه الاهمية التي تجعل الدول العظمي تتامر علينا وتوظف المال والجهد في سبيل ابعادنا عن مسارات التقدم والازدهار.
كثيرا ما نسمع رجال السياسة عندنا يرجعون كل كارثة تحل بنا إلى أيادي أجنبية تعمل على زعزعة استقرار البلد، كما نسمع مفكرينا أيضا يقولون بنفس النظرية لتبرير فشل المشاريع الفكرية الكبرى التي راهن عليها المثقف العربي كثيرا كالنهضة، الوحدة العربية، القومية، الدولة الأسلامية...إلخ.
يشترك في هذا المثقف الأسلامي والاصلاحي والعلماني والتقدمي، فجميعهم يرجعون أسباب الفشل إلى تدخل الأيادي الأجنبية وعملها على كسر سيرورة التقدم والنهوض التي يدعو لها ويقودها التيار الفكري الفلاني لصالح تيار اخر يعمل ضد مصالح الأمة.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فترة سطوع نجم التقدمية واليسار العربي كان المثقف الإسلامي أو الإسلاموي كما يسميه اليساريين يرجع أسباب فشله في احتلال مواقع مهمة على الساحة الوطنية والقومية لأيادي أجنبية إلحادية ( يقصد موسكو والأممية الاشتراكية ) التي تعمل من خلال عملائها في السلطة وفي أوساط المثقفين على محاربة المشروع الأسلامي الذي يهدد مستقبلها ليس في العالم العربي فحسب ولكن في كل العالم، فالمثقف الإسلامي ومشروعه السياسي والاجتماعي ضعيف، لأن هناك قوى عظمى تحاربه، وعاجز عن إيجاد موطأ قدم له لأن اليساريين يسيطرون على السلطة أي يمتلكون وسائل العنف الشرعي التي يوظفونها في اضطهاد أنصار المشروع الإسلامي.
وعندما انقلبت الموازين بداية من أواخر سبعينيات القرن الماضي وسطع نجم الإسلام السياسي الذي اكتسح الساحة السياسة والإعلامية من خلال ما يمتلكه من نفود اقتصادي ومالي مكنه من السيطرة على الشارع بداية التسعينات، في نفس الفترة التي هوى فيها نجم اليسار بعد السقوط المدوي للمعسكر الاشتراكي، كانت التهمة جاهزة على أفواه وأقلام المهزومين والمندحرين: أن الأصولية الإسلاموية المدعومة من دول البترودولار ( يقصدون السعودية تحديدا ) والتي تعمل لأجل تحقيق أهداف أمريكية سطرها خبراء البيت الأبيض والبنتاغون، هي السبب في ضياع حلم القومية العربية والاشتراكية ومجتمع العدالة الاجتماعية الذي بشر به المثقف اليساري العربي الذي ما زال متمسكا بأوهامه القديمة في عودة أطياف كارل ماركس.
ركزت عن عقدة المؤامرة التي تسكن المثقفين العرب الذين يفترض فيهم نظرا لوظيفتهم الاجتماعية كمثقفين إعمال العقل والنظر ببصيرتهم قبل بصرهم للأشياء، تلك البصيرة الغائبة في ظل عقل يستقيل عن أداء وظيفته.
ولكن لماذا نبرر نحن العرب فشلنا دائما بالاستناد إلى نظرية المؤامرة المستحكمة في الذهنية العربية؟
عقدة المؤامرة من الناحية النفسية تقوم بدورين أساسيين:
أولا: تمنحنا إحساسا بأهميتنا في هذا العالم، وهي أهمية مفقودة في الواقع غير أننا لا نستطيع الإعتراف بذلك، لأن في الاعتراف بهواننا جرح لنرجيستينا المفرطة، وهذا الإحساس بالأهمية يغذيه الإعتقاد بأن الاخرين يتامرون علينا ويكيدون لنا موظفين كل ما يملكون من قدرات مادية ومعرفية فقط من أجل إبقاءنا على حالة الضعف والتشتت التي نحن عليها.
فالبرغم من ضعفنا إلا أننا نشكل خطرا على الاخرين وتهديدا حقيقيا لهم، فأهميتنا تنبع من القوة الداخلية التي نملكها ( قوة الأسلام، قوة الثروة البشرية، قوة الموارد التي نمتلكها.....)
وامتلاكنا لهذه القوة - وهي قوة حقيقية غير مستغلة ومهمشة بشكل كبير- يولد لدينا أحساسا زائفا بأهمية لا وجود لها في الواقع.
ثانيا: نظرية المؤامرة تمنحنا نوعا من راحة الضمير أو عدم لوم الذات على الفشل الذي نمنى به في كل مشاريعنا المصيرية تقريبا، فليس العيب فينا ولا في قدراتنا ولا في ما بذلناه من جهد في سبيل تحقيق أهدافنا في التقدم والازدهار، إنما سبب الفشل يعود لقوى خارجية لا قبل لنا بالتصدي لها في الوقت الراهن، فتامرها علينا وعملها على الوقوف في وجه مصالحنا هي التي تملك امكانات مادية وتكنولوجية وبشرية كبيرة، هو سبب الفشل.
بمعنى أننا دائما نرجع أسباب الفشل لعوامل خارجية وليست ذاتية.
المقولات الأساسية لنظرية المؤامرة التي تسكن الذهنية العربية كثيرة على رأسها الصهيونية واليهود والماسونية وامريكا والغزو الثقافي....الخ؛ في كل كارثة تحل بنا، هزيمة أو فشل أو فتنة أو أازمة، نسارع دوما للبحث عن الأيادي اليهودية والصهيونية وراء ذلك، وسواء كانت هذه الأيادي موجودة فعلا ولها دور، أم كانت بعيدة كل البعد فالتهمة جاهزة، لأننا ببساطة عاجزين ورافضين لتحمل مسؤولياتنا أمام أنفسنا وأمام الاخرين.
نحن كعرب بارعين فقط في تحميل الاخرين مسؤلية كل الأشياء القبيحة التي حدثت والتي يمكن أن تحدث لنا. إخفاقاتنا السياسية الاقتصادية والاجتماعية وأزماتنا كلها مبررة سلفا.
واخر ما أثارني في هذه القضية ودفعني لكتابة هذا المقال هو ما يتداول في بعض المدونات من محاولات صهيونية حاقدة لألهاء الشباب العربي عن قضاياه المصيرية وأدخال المدونين في صراعات بينية تخدم العدو الصهيوني، من خلال مدونات تعمل لحساب الموساد وتحت إشراف خبراء في علم النفس والاتصال هدفهم اختراق عالم التدوين بعدما حققه من نجاحات واستقطاب لفئة مهمة من الشباب.
فيكفي أن يختلف مدون مع اخر ليتهمه بانه عميل صهيوني، فالمدونة الفلانية صنعية يهودية والمدون العلاني يعمل لصالح مؤسسة يهودية مقرها حيفا ( كمال قال احد المدونين ردا على مدون اخر تهجم عليه او على صديقة له )، وهذا فصل اخر من فصول نظرية المؤامرة في عالم افتراضي اسمه مكتوب.

conter