الأحد، مايو 31، 2009

الرفض الشعبي والحركات الاجتماعية

تتمظهر الحركات الاجتماعية ذات الطابع الاحتجاجي في العالم العربي كردات فعل عن الخيبات والانكسارات والهزائم المتتالية التي يرزح تحتها الموطن العربي والتي تشعره بالخزي والمهانة في كثير من الأحيان، ولكن هذه الحركات الاجتماعية التي تستند أحيانا لحركات جمعوية ومجتمع مدني مسنود من طرف فئات وشخصيات راغبة في التغيير، لم تتجاوز بعد مرحلة رد الفعل، أي أنها لم تتنقل لمرحلة المبادرة بالفعل وظلت منذ فترة طويلة أسيرة الانفعالية والتفاعل مع المستجدات، أي أنها لا تزال أسيرة مرحلة الاستجابة للتحديات المطروحة علينا كمجتمع وكأمة في مرحلة عصيبة من تاريخها.
أرى انه قد حان الوقت للانتقال لمرحلة أخرى من مراحل تطور هذه الحركات الاحتجاجية، فعلى الحركات الاجتماعية الهادفة إلى التغيير والعاملة لأجل بلوغه أن تتجاوز مرحلة رد الفعل التي هي عليها الآن وتنتقل لمرحلة الفعل الواعي والهادئ والمتواصل الذي يؤسس لممارسة سياسية بديلة للممارسات المتكلسة التي أفلست في نظر الإنسان العربي البسيط المطحون تحت وطأة الواقع وتسارع الأحداث التي لا يدرك كيفية التعامل معها بفاعلية.
الحركات الاجتماعية نشأت في الوطن العربي كردات فعل عفوية عن الظلم والاضطهاد الممارس على الإنسان العربي سواء من طرف الأنظمة السياسية أو من طرف القوى الأجنبية وبالتالي فهي تتسم بالمرحلية والمناسباتية وهذا ما يجعلها عاجزة تماما ( في الوقت الراهن ) عن التأسيس لطروحات بديلة تكون لها إمكانية التطبيق وإمكانية طرح البديل المقنع سواء بالنسبة للنظام السياسي أو بالنسبة لجموع المواطنين الذي يؤيدون هذه الحركات دون أن تكون لهم ثقة كاملة في قدرتها على إحداث التغيير المطلوب والذي يعد مطلبا أساسيا لكل الفئات الاجتماعية المتضررة من الوضع الراهن.
ما يعاب على هذه التنظيمات أيضا هو عدم قدرتها على التأسيس ليوتوبياها الخاصة التي تحدد الهدف بدقة وترسم طريق الوصول إليه، إنها تكتفي في الغالب بالشعارات وبالرفض الذي هو ميزة الشارع العربي في هذه المرحلة المتشضية من تاريخنا الاجتماعي والسياسي. وهذا العجز عن تسويق يوتوبيا تعبوية تحضا بالحد الأدنى من القبول الجماهيري ومن الإمكانية الواقعية للتطبيق ناتج عن الفسيفساء الإيديولوجية التي تندرج ضمن هذه الحركات دون أن تنصهر فيها لتشكل لرؤية تتسم بالانسجام الإيديولوجي رغم تعدد المشارب الفكرية التي تنهل منها هذه الحركات، وهذه الحالة التي تعانيها هذه الحركات تفقدها الانسجام المطلوب لأي حركة شعبية ذات أهداف محددة وذات رؤية فكرية متسقة .
كما أن هذه الحركات الاحتجاجية الراغبة في منازعة السلطة السياسية بعضا من هيمنتها على المجال السياسي تفتقد للوسائل المادية التي تمكنها من تحقيق أهدافها، والرفض حين يفقد وسائله المادية التي تمكنه من التحول لفعل تغييري يكون مجرد وهم ورغبة لا تلتقي بمعادلها المادي في المجتمع ، وهذا للأسف حال الحركات الاحتجاجية في العالم العربي رغم كون دائرتها في اتساع ورغم الرغبة التي تبديها في مناوئة السلطة، والقدرة التي تكشف عنها باستمرار في تعبئة الجماهير، إلا أنها تظل في مرحلة جنينية قد تبشر بتغيير قادم دون أن ترسم ملامحه بدقة.

السبت، مايو 30، 2009

أسئلة الثقافة بين التجديد والتقليد

سفيان ميمون
minoune78@yahoo.fr

مشكلة الثقافة في إحدى زواياها تكمن في وقوعها بين شقين : شق الرسالة وهو تحديد دور لها لا يتعدى نقل قيم معينة والمحافظة على أسلوب محدد في الحياة ترسم كثيرا من جوانبه العناصر الثقافية التي اتخذت أشكالا معينة في الماضي كالعادات وأنماط التفكير وطرق الوعي بالقضايا الدينية أو القضايا التي يكون للدين موقف منها، وشق التحرير أي تحرير الذات الثقافية من عبء ماضوي وإعادة بناء الذات انطلاقا مما أنتجه العصر من قيم حديثة كانت لدى كثير من الأمم والشعوب قواعد متينة للبناء والتشييد .
هذا المشهد الذي يرسمه واقع الثقافة وتبرزه الممارسات الثقافية الراهنة يوحي بأن ممارسة الثقافة كرسالة إنما هي مجرد إيديولوجيا يحاول القابعون وراءها تعميم تفاصيلها وترسيخ أجزائها ، بينما ممارستها ضمن قالب " تحريري " هو بعد عن الأيديولوجيا وتحرر من سلطة المقدسات " اللغة والدين والعادات .." وتحكيم للعقل ، لكن أي عقل ؟ إنه العقل العلمي الذي أنتج قيم التنوير وصنع الحداثة بمفهومها العام ، لكأننا أمام سجنين للفكر متشابهين متماثلين : سجن الماضي بقيمه وأنماطه ، وسجن الحاضر بمعطياته ومفرزاته !!
يتحدث المتحدثون عن الرسالة ويصفونها بالنبالة فمتى يصدق عليها هذا الوصف ؟ الواضح أن نبل الرسالة متصل بنبل القيم التي تنقلها هذه الرسالة ، ونبل القيم متصل بدوره بطبيعة المصدر الذي تنقل عنه هذه القيم ، فحينما يكون الدين الإسلامي مصدرا تنقل عنه قيم على سبيل الرسالة من جيل إلى جيل أو من جماعة إنسانية إلى أخرى تكون هذه القيم ذات شأن على مستوى التداول الاجتماعي وتمنح المكانة العلية في المجتمع ، فلا أحد ينكر قيمة القيم التي أتى بها الإسلام إذ نبلها من نبله وشأنها من شأنه ، وهو أمر متفق عليه اجتماعيا لدى العامة من الناس كما لدى النخبة أيضا .
إن القيم التي تنقل على سبيل الرسالة تتخطى الدين كمصدر إلى مصادر أخرى أوسع وأرحب منها التاريخ والممارسات الاجتماعية التي دأب الناس عليها من عادات وتقاليد وقيم القبيلة والوطن والفئة ...، هذا النقل يغذيه اعتقاد سائد أن استمرار الأمة وإعادة بعثها لن يكون بغير الاستناد إلى قيم الأمة ذاتها وأن الخوف كل الخوف في استبدال هذه القيم بقيم أخرى دخيلة يكون حالها كحال من يغرس غرسا في تربة عقيمة ،اعتقاد صائب وخوف مشروع فلم اعتراض طريق هؤلاء القوم إذا ؟! بينما هم يعملون على إحياء الأمة بإحياء قيمها ، أوليسوا جديرين بالمساندة ؟ أما على المجتمع أن يمد لهم يد المساعدة ؟ الأمر ليس بهذه البساطة لدى الحداثيين ، إنهم ينكرون الركون إلى الوراء بينما يتقدم الزمن وتتفتح البشرية على فضاءات للفكر جديدة وتكتسح مجالات في العلم والمعرفة فلا ينفع بعد هذا ركون إلى وراء ، أو نظر إلى الخلف .
رسالة الحداثي تختلف إذا عن رسالة التراثي ، فبينما يرجع التراثي إلى التراث باحثا عن قيم تلائم أصالته ، يحمل الحداثي هم التحرير أو قل رسالة التحرير ، تحرير المجتمع من قيود التخلف ، ولكن وقبل ذلك تحرير المجتمع من قيود التراث الذي ألقى بثقله على المجتمع وأضحى عبئا ثقيلا يصعب زحزحته خاصة وأن له حراسه الذين يدافعون عنه بكل شراسة نازعين عليه كل سمات القداسة .
لم تكن إشكالية التقليد والتجديد مطروحة كما هي عليه اليوم إلا بعد عصر النهضة إثر الاصطدام الحضاري بين الشرق والغرب حيث فرض الغرب تجربته التقنية والقيمية كمثال حضاري راق أسال لعاب كثير من أبناء الشرق الذين راحوا يقلدون تجربته في مجالات الحياة كافة في الوقت الذي يعيبون التقليد على من خالفهم الرؤية من الذين اتجهوا نحو تقليد القدامى .
التقليد إذا هو السمة البارزة التي اتسم بها الشرق بعد الصدمة الحضارية هذه بينما قصدت نخبه الحداثية التجديد ، ولكن لا جديد ، فقد اختصر الإبداع في استنساخ قيم الحداثة ومحاولة تطبيقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ، كما ظل التقليد سمة المقلدين من التراثيين ، فسيان بين تراثي مقلد وحداثي مقلد .
لقد كان اتجاه الحداثيين نحو التجربة الغربية بعد عصر النهضة لغرض تحرير ذهنية الإنسان العربي المسلم مما علق بها من شوائب فكرية وقيمية من خلال تبني قيم الغرب المتطور ، ولكن هذا الاتجاه انتهى بهم أيضا إلى ذات التقديس الذي كانوا يذمونه لدى التراثيين .
لعمري كيف نتصور الأمر، بل كيف نصوره ؟ هل هو رسالة ذلك الفعل المتجه نحو الماضي لنقل قيمه أم أنه قيد ؟ هل هو تحرير ذلك الفعل المنبهر بمفرزات الحاضر الآخذ بقيمه أم أنه قيد وأسر ؟ .
لم تكن نزعة التقليد لدى الشرق سوى انعكاس واضح لتلك الصدمة الحضارية التي ولدت عقدة حضارية خطيرة أصبحت ( أي هذه العقدة ) المتحكم الرئيس في سلوك الفاعلين الثقافيين والاجتماعيين ، مثلما تخلف الصدمة لدى الفرد عقدا نفسية يعسر على المختص النفسي معالجتها .
لقد ارتبطت العقدة لدى التراثيين بالخوف على عناصر التراث من عناصر ثقافية وافدة تدعمها تجربة ناجحة في مجال التقنية ، كما ارتبطت لدى الحداثيين بالانبهار الشديد بالقيم التي ركبها الغرب وأدت إلى تطوره وازدهاره ونبذ التشبث بالقيم التي ظل يتداولها الشرق دون أن يجني من ذلك شيئا بل وبقي بفعلها على حالة التخلف قرون عديدة .
العقدة في مبناها ومعناها أسر وقيد ، فكما هي أسر للفرد حيث يتصرف بمقتضاها ويصبح على حالة نفسية تستدعي العلاج فإنها كذلك أسر للجماعة حيث يتحدد بفعلها سلوكها الاجتماعي والثقافي ، ولما كانت النخب الثقافية خلايا مكونة للجماعة فإن سلوك هذه النخب – حداثييها وتراثييها – تتدخل في تحديده هذه العقدة الناتجة عن صدمة الالتقاء بين الشرق والغرب.
ربما يعد تحريرا ذا حدود ذلك الاتجاه الذي يسلكه كثير من مثقفينا نحو التوفيق بين قيم التراث وقيم الحداثة إذ يفتحون مجالهم الثقافي لقيم التراث كما يفتحونه أيضا لقيم المعاصرة ، وتزداد قيمة اتجاههم هذا حينما يؤصلون نظرتهم ثم يطعمونا بما جد في مجال العلم والمعرفة ، وبذلك يعملون على التحرر من سلطة التراث المطلقة كما يعملون في الوقت نفسه على التحرر من سلطة الحداثة ، وهم على هذه الحال إنما يؤدون رسالتهم الحضارية من خلال الانتقاء النوعي للقيم بإلغاء المجال الزماني لها بينما يوفرون لها مجالا مكانيا معايير القبول فيه : التنمية والتطور متصلة بالذات والهوية .
تحرر نلمس نسبيته في ندرة الإبداع الثقافي ووقوع هذه الفئة من النخبة ( فئة التوفيقيين ) موقع الممثل لطرفي الصراع ( التراثي والحداثي ) من جهة وآدائها لوظيفة التخفيف من حدة الصراع بإيجاد حل وسط يؤمن بهذا ويقبل ذاك .
لكن ورغم نسبية التحرير الذي يمكن أن تجنيه الثقافة من اتجاه هذه الفئة لأن طرحها فيه شيء من السطحية والبساطة فإن مجرد القبول الذي يلغي الرفض هو اتجاه فعلي نحو التحرر من سلطة الشيء ، والشيء هنا هو قيم ثقافة ما أصيلة كانت أم معاصرة .
في العرف الثقافي نجد الجواب على سؤال: إلام تستند الرسالة ؟ ومم يكون التحرير ؟ ذا بداهة ووضوح، فالرسالة هي الأمانة في نقل القيم والتحرير هدم لتلك القيم، وذلك حينما تكون حال الثقافة حال صراع بين تياري الأصالة والمعاصرة ، ولكن يمكن لنا أن نتمثل تيارا واحدا يجمع بين الرسالة والتحرير على الأقل في تصوره هو ، فالتراثي الذي ينقل قيما دأب عيها أجداده يرى أنها المخلص والمحرر للجماعة من جملة القيود التي أفرزتها سيرورة الحياة الاجتماعية ، وكذلك الحداثي الذي يحاول نقل قيم الغرب على سبيل واجب اجتماعي ورسالة حياتية يرى في هذه القيم السبيل إلى التحرر الاجتماعي والثقافي ، فالرسالة والتحرير يمكن أن يكونا على صف واحد لدى فريق واحد .
لكن اعتقاد الجمع بين الرسالة والتحرير يأسر جماعات النخبة في وهم الحقيقة حيث يعتبر كل فريق أنه ينقل الحقيقة إذ ينقل نوعا من القيم ويعمل على التحرير من ذات المنطلق بمحاولة زحزحة قيم لصالح قيم
" الحقيقة " هذه ، وهنا يبدو لنا أن الرسالة بدءا هي تحرير لقيم معينة بمحاولة تحريكها نحو المكان الذي
" يجب " أن تشغله ، كما أن التحرير في ذاته رسالة يحملها الحالمون بالتغيير، المتطلعون نحو الأفضل
في الثقافة ، الأفضل في الحياة .
يبدو إذا أن ثمة إمكانية للتآلف بين آداء الرسالة الحضارية وممارسة التحرير الحضاري لدى فئة بعينها من النخبة بعدما سلمنا تفكيرنا ووجهنا نظرنا لعلاقة الإلغاء المتبادل بين الرسالة والتحرير لدى نخبنا الفكرية والثقافية : إلغاء الرسالة للتحرير وإلغاء التحرير للرسالة .
إن عمليات الإلغاء والقبول والائتلاف والاختلاف عمليات ثقافية وفكرية لا يمكن إلغاؤها فهي ضرورة اجتماعية وثقافية لها فعلها الإيجابي أو السلبي في توجيه المجتمع والثقافة ، لذلك كان حريا بنا توجيه هذه العمليات بوعي ودراية فنقبل ونرفض ونختلف ونأتلف ونلغي ونتجاوز ونحلل و نركب وفقا لهذا الوعي الذي يضع نصب عينيه المجال الثقافي العام دونما تمييز بين ماض وحاضر أو بين أصالة ومعاصرة ، ولكن يأخد الثمين فيثمنه ويترك الرديء ويزدريه ، وبهذا فقط نستطيع أن نرسم خطا للانطلاق نحو التقدم ، فليس التقدم كنزا نحفر عليه في الماضي ولا هو هبة تمنحنا أياها الحداثة وقيمها ، وليست هذه نظرة توفيقية بالمعنى الذي سبق ، ولكنها نظرة تلغي الإلغاء الثقافي دون أن تقف عند هذا الحد بل تدعو إلى تحريك أدوات الإبداع الثقافي والفكري من نقد وتركيب وتفكيك وبناء وتجاوز .....، وبذلك وحده يكون للرسالة معناها كما يكون للتحرير أيضا معناه .

الثلاثاء، مايو 26، 2009

في المسألة اللغوية


منذ البداية – أي ما قبل الاستقلال – لم تكن العلاقة بين المثقفين المعربين من جهة والمفرنسين من جهة أخرى، علاقة وفاق أو تكامل كما يفترض أن تكون، بل إنها كانت علاقة تضاد وصدامية في كثير من الأحيان، رغم بعض الصداقات الشخصية التي كانت تربط بين أطراف من هذه الفئة وأطراف من الفئة الأخرى.فالازدواجية اللغوية هي خصوصية من خصوصيات المجتمع الجزائري الذي يعيش انكسارا لغوية وقطيعة لغوية داخل النخبة، نخبة معربة ونخبة مفرنسة وطبيعة هذه العلاقة بين المثقفين الجزائريين قد أدت بعد تعريب الجامعة إلى الوصول لصيغة توفيقية رعتها الدولة، لم تحسم الخلاف والاختلاف وإنما حددت مجال لكل فئة، الثقافة والإعلام والتعليم للمعربين، والصناعة والفلاحة والهياكل القاعدية للمفرنسين، "باختصار مهندسون مفرنسون وعقائديون معربون "لقد كانت اللغة العربية في وضعية المغلوب على أمره خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وكان تداولها جد منحصر ومحدد بين فئة قليلة جدا من المتعلمين الذين تلقوا تعليمهم في المدارس التابعة للزوايا أو سافروا للمشرق، أو في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بداية الربع الثاني من القرن العشرين؛ في المقابل عملت الإدارة الاستعمارية على التمكين للغة الفرنسية بين الجزائريين من خلال المدرسة الكولونيالية، ومن خلال جعل الفرنسية وسيلة للرقي الاجتماعي بين الأهالي، هذه الحالة التاريخية التي عاشتها اللغة العربية في الجزائر المستعمرة، جعلت من الدفاع عن العربية كمحدد من محددات الهوية الجزائرية، مطلبا شعبيا ومطلبا سياسيا للحركة الوطنية، فقد " ارتبطت عملية الدفاع عن العربية بالدفاع عن التراث والدين الإسلامي والهوية الوطنية في كل برامج الحركات الوطنية والثورة الوطنية فأصبحت تراثا ثقافيا وإيديولوجيا سيوجه سياسة الدولة الثقافية نحو التعريب ووضع تصور لتعميم استعمال اللغة العربية "، هذا التصور الذي لم يلتقي بالواقع إلا في مجالات معينة مرتبطة بالمجال الثقافي والإيديولوجي، خصوصا مجال الإعلام، أما المجالات الأخرى الاقتصادية تحديدا، فإن اللغة العربية ظلت بعيدة وعاجزة عن إيجاد موطأ قدم لها ضمنها رغم توظيفها من طرف منتجي الثقافة النخبوية كلغة حداثية قادرة على استيعاب التطورات المتسارعة في مجال الفنون والآداب ، إلا أنها كانت ومازالت ذات مردودية اقتصادية وتكنولوجية ضعيفة في مجالات التحديث والتصنيع ونقل التكنولوجيا، وهي المجالات التي راهنت عليها الدولة الجزائرية عقب الاستقلال من اجل التقدم والازدهار، وهذه المراهنة على مجالات تسير وتدار باللغة الفرنسية هي التي جعلت من عملية التعريب التي مست الجامعة وقطاعات أخرى تفقد معناها، كما غدت النزعة الاستعلائية لفئة المتفرنسين اتجاه زملائهم المعربين مما ساهم في تأزيم العلاقة بين الطرفين، حيث على المستوى الثقافي مثلا يعرف الحقل الثقافي الجزائري شرخا حادا بين ما يكتب بالعربية وما يكتب بالفرنسية، رغم عمليات الترجمة التي يقوم بها بعض المثقفين لانتاجات زملائهم الذين يكتبون بلغة أخرى، سواء من الفرنسية إلى العربية أو العكس، رغم ما يشوب عمليات الترجمة من انتقائية وزبائنية في غالب الأحيان، حيث أن اختيار النصوص المترجمة لا يستند عادة إلى القيمة الفكرية والأدبية للنص المترجم بمقدار ما يستند إلى محددات أخرى غير ثقافية غالبا. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن اللغة الفرنسية في الجزائر تتجاوز وضعها كلغة عملية لتندرج ضمن التناولات السياسية للقوى الخارجية، وتحديدا لفرنسا التي تسعى ومن خلال الفرانكوفونية إلى بسط نفوذها بشكل أكبر داخل المجتمع الجزائري، فالفرانكوفونية كسياسية لغوية وضعتها الحكومة الفرنسية بغية التمكين للثقافة والفكر الفرنسي، أي لإشعاع فرنسا في غيرها من البلدان، تتجاوز مسألة اللغة الفرنسية في حد ذاتها والتي لازلنا نعتبرها غنيمة حرب، لتتجلى كوسيلة لفرض الهيمنة تتوسل باللغة، وعن طريقها يتم تحصيل منافع اقتصادية ومصالح سياسية معينة. الحالة السابقة الذكر التي وجدت اللغة العربية نفسها في ظلها رغم الدعم السياسي الذي حظيت به من أعلى هرم السلطة والذي تجلى في عملية التعريب التي مست الجامعة ومجالات أخرى مرتبطة بالإعلام والنشر، وقانون تعميم استعمال اللغة العربية ( المعطل التنفيذ )، هذه الحالة قد فسحت المجال واسعا أمام اللغة الفرنسية لتكون لغة الاقتصاد ولغة هرم السلطة، والاهم من هذا وسيلة للرقي الاجتماعي والوظيفي كما كانت عليه خلال الفترة الاستعمارية، هذا الوضع يجعل من المسألة اللغوية في الجزائر مجالا للصراع الاجتماعي، بنفس القدر الذي يشكل به الثراء اللغوي للجزائر وبعيدا عن التوظيفات السياسية مجالا لازدهار الإبداع الثقافي وللتعبير عن الذات، سواء باللغة العربية أو باللغة الفرنسية الحاملة لثقافة عربية أو امازيغية كما كان الشأن مع الجيل الأول للروائيين الجزائريين (مولود فرعون، مالك حداد، كاتب ياسين ) الذين كتبوا نصوصهم باللغة الفرنسية وبها عبروا عن ذواتهم وهويتهم.

الاثنين، مايو 18، 2009

التماثل الاجتماعي وتغييب الفردانية


هناك ميل فطري لدينا كجماعات وكأفراد للتقولب الذي يلغي الخصوصيات الفردية أو يحجبها لصالح التماثل الجماعي، وهذا الميل لا يزال مسكوتا عنه في خطاباتنا الفكرية المنتجة حول المجتمعات العربية، وإنطاقه يحتاج لدراسات معمقة لم تنجز بعد.هذا الميل الجماعي للتقولب يقابله في بعض الأحيان وليس دائما نزوع فردي نحو التفرد والتميز، ولكن هذا النزوع لا يعلن عن نفسه أمام الجماعة بمقدار ما يعلن عن نفسه أمام الذوات المفردة.الجماعة بالنسبة لنا سلطة تحيل دوما على العنف بمعناه المادي والرمزي، وهي سلطة جبارة لا يمكن مجابهتها، مثلها مثل الدولة والقبيلة والمؤسسة الدينية والعصبة التي تتمظهر من خلالها الجماعة وتمارس تأثيرها الكبير على الفرد إلى درجة إلغاء ذاتيته والحجر على أفكاره حين تتعارض مع أفكار الجماعة التي تمثلها المؤسسات الاجتماعية والسياسية و الأعراف والعادات والتقاليد.الدولة تسعى لقولبة المجتمع عن طريق وسائلها الإيديولوجية (المدرسة، الإعلام الرسمي ).المؤسسة الدينية أيضا تسعى لفرض قولبة خاصة بها تقوم على ثنائيات حدية صارمة: الفضيلة مقابل الفساد، الدين مقابل الإلحاد ، الخير مقابل الشر.ثنائيات لا تترك مجالا للخيار لدى الجماعة، كما أنها تجعل الفرد يحجم عن رفضها علنا على الأقل.
هذا الغياب للفردانية في ثقافتنا العربية ساهم بشكل فعال في الحد من القدرة على الإبداع والابتكار سواء على مستوى الإبداع الأدبي و الفني أو على مستوى السلوكيات اليومية التي تظل مؤطرة بما ترتضيه الجماعة رغم حالات الخروج الكثيرة عن موديل الجماعة في اللباس والعلاقات الخاصة والأفكار أيضا، ولكن هذا الخروج لا يتم بشكل طبيعي، لأنه يقابل عادة بتجريم الجماعة من خلال القيم والأعراف السائدة أحيانا، وبالتسفيه أحيانا أخرى، وهذا ما يضع الفرد في مواجهة غير متكافئة تنتهي غالبا بانكفائه على ذاته وخضوعه لمتطلبات الجماعة.
الثقافة العربية تمجد قابلية الفرد للذوبان في الجماعة والاحتماء بها لدرجة لم يتأسس عندنا بشكل واضح المعالم مفهوم الفردانية، وهذا الوضع إن لم يشكل عائقا كبيرا في طريق التنمية في الفترات السابقة التي اتسمت بوجود بنيات تقليدية تحكم كل مفاصل الدولة والمجتمع في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، فإنه في وقتنا الحاضر ومع الاصطدام بقيم عالمية تفرض حضورها بقوة في واقعنا وديارنا، قد صار عائقا في طريق التنمية بمعناها الذي يتجاوز المجال الاقتصادي، وفي طريق الابتكار والإبداع الذي يتأسس على مفاهيم مثل الحرية والاختلاف التي تعد مفاهيم وقيم أساسية في أزمنة الحداثة التي تستدعي الفردانية وكل ما يتساوق معها من مفاهيم، وتنفر من القولبة والتماثل.

الأحد، مايو 17، 2009

القيم الدينية والعقلانية وإشكالية التنازع


إشكالية الديني والعقلاني هي إشكالية التوافق المفقود في الفكر العربي على امتداد مسيرته التاريخية الطويلة، هي إشكالية لم نصل بعد لحلها بسبب تطرف كل تيار وتعصبه لما يراه صوابا.صحيح أن هناك الكثير من المحاولات التوفيقية، التي تمت على امتداد التاريخ العربي الإسلامي لإيجاد توافق مفقود، بين أنصار العقل وأنصار النص أو النقل، إلا أنها لم تأتي بنتيجة ملموسة. في حين أنه في الأصل لا تعارض بين الاثنين، فكما يقول أبن رشد: الدين حق، والحكمة حق، والحق لا يضار الحق.ولكن الفكر العربي المبني على الثنائيات الحدية التي تنفي أحداها الأخرى بالضرورة أوقع العقل العربي والإسلامي في مأزق حضاري رهيب لم نستطع تجاوزه رغم كل الجهود المبذولة.وبما أن القيم الاجتماعية هي نتاج سيرورة تاريخية، تبدأ من المجتمع وتنتهي إليه فإن النظر إليها بمنظار واحد ووحيد أمر غير مقبول بتاتا ، لأن المجتمع بصفة عامة يميل للقولبة والتماثل، ويستجيب أكثر للدعوات التي تحترم يقينياته ومعتقداته في نفس الوقت تجد حلولا لأزماته ومآزقه، أي أن أفراد المجتمع البسطاء مثاليون وبراغماتيون في الوقت نفسه، وهذا تناقض ظاهري على المستوى الفكري، إنما على المستوى السلوكي العام، تتعايش المثالية التي تجد مرجعها في الدين والهوية ، والبراغماتية التي تسعى لتلبية رغبات وطموحات الأفراد حتي غير المشروعة ، دون إحساس بهذا التناقض فالتعبير عن التناقض يكون من طرف النخب الفكرية، وإدراك هذه النخب لذاك التناقض الاجتماعي يجعل لكل فئة من هذه النخب أنصار وموالون ، أي أن المفكر أو الداعية الذي يشتغل في ظل هذا التناقض على اتجاه واحد، يستطيع إيجاد الكتلة الاجتماعية المكونة من أفراد وجماعات، التي تتبنى أطروحاته كما هي بواحديتها، وبانغلاقها أيضا. وهذا الأمر يجعل القضايا المطروحة علينا لا تجد حلها الذي يرضي كل الأطراف ولو بشكل نسبي، رغم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك.
الدين مكون أساسي في الوعي الاجتماعي، وهو الأقدر من ضمن كل المكونات الأخرى التي تتشكل منها الهوية الوطنية التي تصاغ على هديها القيم الاجتماعية، هو الأقدر على التجييش وجلب الأنصار.
يمكن أن نعطي مثالا عن هذه الحالة: دعوة الأستاذة بن براهم لتقنين الدعارة. الهدف الذي أعلنت عنه بن براهم كذريعة لدعوتها هو حماية المجتمع من الفساد الذي يستشري فيه ، وهو مبرر عقلاني محض لم يراعي مشاعر عامة المواطنين الذين يرون في الأمر تكريسا للفساد بقوة القانون، وهو نفس رأي رجال الدين كما عبر عنه رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الرحمان شيبان. ردود الفعل الشعبية كانت في غالبيتها ترى في هذه الدعوة مروقا لا يمكن تقبله وهذا الرأي هو نتيجة الدور الكبير والخطير الذي يلعبه الدين في
حياة أفراد المجتمع أي أنه رفض من منطلق ديني محض دون الاهتمام بالجوانب الأخرى، التي يمكن أن تكون حاملة لبعض الفوائد، لهذا خبا النقاش دون أن يحدث تغييرا ملموسا، لأنه رفض بشكل كبير من طرف القوى الإسلامية والمحافظة، كما أن المواطنين عبروا بصمت في كثير من الأحيان عن الرفض، ولم يتبنى الطرح النقيض سوى قلة من العلمانيين الذين نظروا للأمر بمنظور عقلي براغماتي محض مجرد من أي صلة ممكنة أو محتملة بالدين.والنتيجة التي نصل إليها من خلال ذاك النقاش، هي أن الديني ما زال قادرا على التحكم في المجتمع ولو من خلال قنوات الدين الرسمي ( وزارة الشؤون الدينية، وجمعية العلماء المسلمين، المجلس الإسلامي الأعلى)، الديني بعد أن كسب المعركة يبدو انه مستعد أكثر للتعبير عن مواقفه بصراحة وصلابة اكبر وأيضا بنوع من الانغلاق، وهذا ما عبر عنه النقاش الأخير حول زيارة الشاعر العربي الكبير ادونيس للجزائر وما أثارته محاضرته المعنونة ب : "من أجل ممانعة جذرية وشاملة " التي دعا فيها لتحييد الدين، حيث كان رد جمعية العلماء المسلمين حادا وقاسيا وتفسيقيا للشاعر وللمكتبة الوطنية التي استضافته، ونفس الأمر بالنسبة للنقاش الدائر حول إلغاء عقوبة الإعدام، حيث الديني حاضر برفضه لكل المقترحات التغييرية سواء على مستوى الأفكار أو القوانين.
وحين نحاول مقاربة الفكرة التي طرحتها الأستاذة بن براهم مثلا من منظور ديني واجتماعي ماذا نجد من معطيات؟
بعض الإحصاءات الغير رسمية تقول أنه يوجد بالجزائر العاصمة وحدها 8000 بيت دعارة غير مقنن) شقق مفروشة، ملاهي ليلية، فنادق تسمح بدخول الأزواج غير الشرعيين بالإضافة للحدائق العامة)، وبالتالي فتقنين هذه الظاهرة في مقابل محاربة الفوضى، التي تخلقها تلك الدور غير المقننة يعتبر مقبول منطقيا، ومرفوض في المقابل دينيا. الدعارة هي أقدم مهنة في التاريخ صحيح أنها كانت موجودة قبل الإسلام وفي صدر الإسلام وبعده، ولكن بشكل غير مقنن، الإسلام لم يقننها بل عمل على محاربتها نصا لكنها ظلت موجودة واقعا. قننت في دول كثيرة، حماية للمجتمع من تفشي الأمراض الجنسية وتفشي الأمراض الناتجة عن الكبت، مثلا الأستاذة بن براهم دافعت عن أطروحتها بحجة أن الكبت وراء بروز ظاهرة البيدوفيليا واختط
اف الأطفال والاغتصاب وزنا المحارم، بالإضافة للعلاقات الجنسية العادية خارج إطار الزواج. تبدو هذه الحجج مقنعة من الناحية العقلية، وحين نظيف لها متغير العدد، أي مدى انتشار الظاهرة، تصير الدعوة للتقنين أكثر إلحاحا، خصوصا في ظل تنامي ظاهرة العزوبة ومظاهر العري والفسق في المجتمع، وغيرها من المظاهر التي تؤجج الرغبة، ولكن حين نعود للمتغير الديني، نجد المجتمع يميل دوما للستر عملا بالمبدأ الديني: إذا عصيتم فاستتروا
لهذا فالمجتمع يرفض نشر غسيله، وفضح ممارساته الغير شرعية بقوة القانون، يريد أن يمارس كل الموبقات، لكن في سرية تامة، تسمح له بادعاء الطهر والملائكية، حين يتطلب الموقف منه مثل هذه الادعاءات. هي ازدواجية المجتمع، فالقيم المجتمعية تكون عادة مثالية وبراغماتية في الوقت نفسه، دون أن يحس الفرد العادي بالتناقض الذي يكتنف هذه التوليفة. لهذا فالمجتمع يميل تحت ستار ديني لإبقاء الظاهرة في عداد المسكوت عنه، وتقنينها يخرجها للعن لتأخذ شكلها الطبيعي والصحي، والجارح أيضا لقيم هذا المجتمع.

الجمعة، مايو 15، 2009

التصوف النخبوي والسلطة السياسية


علاقة المثقف بالتصوف تجلت من خلال تجربة التصوف الإسلامي في الجانب الفردي لهذا التصوف، وانفصلت هذه العلاقة بتحول التصوف من حالة فردية إلى تصوف جماعي مهيكل ضمن مؤسسة تشكل الزوايا إطارها التنظيمي، ومن هنا فإن الفكرة القائلة بمهادنة التصوف الإسلامي للسلطة السياسية تبدو فكرة غامضة بعض الشيء ولا تستند على دعائم قوية ، فإذا كان ابتعاد المتصوفة عن السلطة مقولة يمكن المجادلة حولها، فان النقد الذي وجهه المتصوفة للسلطة كان قويا وذا تأثير كبير مما دفع بهذه السلطة إلى التضييق عليهم وإعدام الكثير من رموز التصوف الإسلامي فضلا عن تكفيرهم.

ولكن يجب أن نميز بين نوعين أساسيين من التصوف يختلفان اختلافا جذريا في كيفية تعاطيهما مع السلطة السياسة، وهما التصوف الجماعي والتصوف الفردي.
فالتصوف الجماعي الذي هو مرحلة أخرى من مراحل التصوف لاحقة على التصوف الفردي، قد اوجد بعض التحالفات مع السلطة السياسة موظفا سلطته الروحية في التأثير على العامة لصالح النظام القائم وموظفا مؤسساته الطرقية والزوايا في هذا المجال، وبالتالي فهذا النوع من التصوف لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتباره معارضا ولا حتى ناقدا للسلطة السياسية بل انه تصوف قابل للتعايش مع أي شكل من أشكال الأنظمة السياسية حتى ولو كانت أنظمة مغتصبة للسلطة والأرض أو محتلة، كما حدث في الجزائر أثناء الفترة الاستعمارية، حيث بعد كسر شوكة الطرق الصوفية التي قادت المقاومة الشعبية تم تحويل تلك الطرق والزوايا المهيمنة على المجال الروحي إلى أداة تبرير للوجود الاستعماري في الجزائر.

وإذا كان موضوع تحالف الزوايا في الجزائر مع الاستعمار موضوع شائك ويشكل نقطة خلاف كبيرة بين المهتمين والدارسين فان الرأي الغالب هو القائل بوجود هذا التحالف
.
أما النوع الثاني من التصوف وهو التصوف الفردي فقد كان له دور كبير في المعارضة السياسية.

وهذا النوع من التصوف هو الأسبق ظهورا في الساحة الإسلامية، وقد ارتبطت حالات التصوف بميل حاد نحو نقد تجاوزات السلطة السياسية والتنديد بلا شرعيتها، حدث ذلك مع الصحابي أبي ذر الغفاري ومع للحلاج والجنيد ومحي الدين بن عربي وغيرهم

حيث أظهر هؤلاء جميعا معارضة قوية وشرسة للنظام القائم، فأبو ذر الغفاري ظل حتى وفاته معارضا للدولة الأموية في بداية نشأتها واعتبر معاوية بن أبي سفيان مغتصبا للحكم وليس خليفة.

أما الحلاج فإنه شكل مثالا عن مقاومة المتصوفة للاستبداد السياسي من خلال تبني أفكار راديكالية اتجاه النظام الحاكم.

فالحلاج الذي كان على علاقات متقدمة بحركة القرامطة الثائرة ضد الخلافة رفض الانخراط في زمرة مداحي الخليفة نظرا للظلم الاجتماعي الواقع ضد فئات واسعة من الأمة باسم الخلافة، وانتصارا منه لتلك الفئات الاجتماعية المظلومة انظم لحركة القرامطة المعارضة والتي أقامت أول دولة “اشتراكية” في التاريخ. والتي كانت بالإضافة إلى حركة الزنج أو ثورة العبيد التي زامنتها، قادرة على تشكيل تهديد حقيقي للخلافة.

لست هنا بصدد مناقشة أفكار القرامطة التي آمن بها الحلاج ودافع عنها لان الكثير من الأفكار الثورية والنبيلة سرعان ما تنحرف عن مسارها، ولكن ما أردت قوله

هو أن الفكرة التي تسعى إلى الربط بين المتصوف /المثقف من جهة و مهادنة السلطة / النظام القائم مع الاحتفاظ بحق نقده من جهة ثانية هي فكرة تعوزها الكثير من الدلائل ويمكن المجادلة حولها خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتصوف الفردي الذي شكل وعلى امتداد تجربة التصوف الإسلامي نموذجا لمعارضة السلطة، سواء السياسية أو الدينية في بعض الأحيان، وقد دفع المتصوفة / المثقفون ثمن هذه المعارضة غاليا.

المثقف علمانيا


حين أتحدث عن المثقف فأنا اقصد تحديدا المثقف العلماني وليس المثقف الديني، لان هذا الأخير يمكن إدراجه ضمن فئة الفقهاء أو الدعاة، نظرا لاختلاف طبيعة كل طرف ( مثقف علماني/ فقيه )، حيث الأول يشتغل على ما هو نسبي ودنيوي، في حين يشتغل الثاني على ما هو معياري ويتسم بشيء من الثبات.
صحيح أن العلمانية
في العالم العربي والإسلامي ذات سمعة سيئة بين الأوساط الشعبية، وصحيح أيضا أن الأنظمة العربية التي طبقت العلمانية سواء بشكل معلن مثل تونس أو بشكل غير معلن كالجزائر قد طبقتها بشكل مجتزأ يبدو في ظاهره معاديا للدين، وبالتالي فهي أساءت إلى العلمانية بمقدار ما أساءت للدين من خلال توظيفه كذريعة لتبرير الاستبداد.

ولكن أرى وهذا رأيي الشخصي أن قدر المثقف أن يكون علمانيا فيما يدعو إليه لأنه يحمل بالأساس قيما إنسانية لا تحصر نفسها بشكل كبير ضمن إطار الثقافة التي ينتمي إليها إنما يحمل أفكارا قادرة على الانتشار في بيئات اجتماعية ودينية مغايرة رغم ما يلحقها من تغير عند انتقالها من بيئة لأخرى.
المثقف ليس رجل دين ولا فقيه بالرغم مما يفترض أن يحمله من قيم دينية هي قيم اجتماعية بالأساس، ولا هو برجل سياسة بالرغم من القيم السياسية التي يحملها ويدعو لها. مع أن المثقف العربي الحديث هو سليل الفقيه، وكنت في أول إدراج بمدونتي قد أشرت إلى هذه النقطة راجيا العودة للتوسع فيها لاحقا.
لذلك عندما نتحدث عن جوهر المثقف فنحن لا نتحدث عن فقيه كما أننا لا ندعو لسجن المصحف والأفكار الدينية في المساجد ودور العبادة لان هذا نوع من الاستبداد الذي يجب على المثقف محاربته فدعوته لحرية كل طرف في نشر أفكاره والدفاع عنها يجب أن تكون لبنة أساسية تدخل في جوهر تكوينه، ولهذا نجد غوستاف فلوبير وهو نموذج لمثقف يعي مكانته ودوره جيدا يقول مقولة صارت شعارا لاحقا: " قد اختلف معك في الرأي ولكني سأقاتل من اجل حرية رأيك".

وهذا هو دور المثقف المرتجى أي الدفاع عن الحرية والقيم الإنسانية النبيلة سواء كانت تلتقي مع القيم الدينية أو تبتعد عنها. فالمثقف هو من ينتصر للقيم الدنيوية، وهذا ما يأخذه عليه الإسلاميون الذين ينتصرون للقيم الدينية أساسا.
مع أنني لا أحبذ استعمال كلمة الإسلامي لأنها تلغي ضمنيا مجموعة كبيرة من الأفراد بمجرد إطلاقها على فئة معينة. لهذا الكثير يستعيضون عنها بكلمة الاسلاموي والتي تعين توظيف الدين الإسلامي ونصوصه المقدسة لأغراض صراعية مرتبطة بتقاسم النفوذ مع تيارات أخرى ذات مرجعيات غير مقيدة بالنص الديني، فنحن نجد أنصار تيار الإسلام السياسي مثلا يقومون بتوظيف قراءات معينة للنص الديني من اجل الوصول للسلطة التي هي وحتى في الفكر الإسلامي وعلى امتداد التجربة التاريخية للمسلمين سلطة دنيوية وليست سلطة دينية.
ومن هنا يحدث التناقض فمقولة الإسلام دين ودولة هي مقولة حديثة والنظام السياسي في الإسلام صاغته اجتهادات فردية وليس الوحي الإلهي، حتى الخلافة ليست فرضا دينيا.

الخميس، مايو 14، 2009

الفلسفة ضحية إلغاء العقل لصالح المرجعية النصية


يقول ابن رشد عراب العقلانية الحديثة:" الدين حق والحكمة حق والحق لا يضار الحق"طبعا المقصود بالحكمة هنا الفلسفة بالمفهوم الحديث والتي تتوسل بالعقل لإثبات براهينها.هذه المقولة الرشدية كانت في سياق رد ابن رشد على الغزالي الذي سفه تاريخا بأكمله من الفكر الفلسفي الإسلامي بحجة انه طريق إلى الضلال.
وابن رشد كفقيه وفيلسوف قدم أفضل شرح إسلامي لأرسطو، رأى عكس رأي أبي حامد الغزالي، بأن لا تعارض بين الدين والفلسفة إلا في عقول العامة وفي عقول المنغلقين على الرؤية الدينية المحضة والسطحية.وبعد ثمانية قرون من زمن ابن رشد (1126-1198م) والغزالي ( 1058 – 1111) ، نجد أن الغزالي انتصر في الفكر العربي في المقابل اندحر فكر ابن رشد العقلاني كاستمرار لنكبته التي هي في النهاية نكبة الفكر العربي الإسلامي برمته الذي لا يزال ينظر للعقلانية وإعمال العقل كطريق للضلال خصوصا حين يكون إعمال العقل على مشارف النص الديني، وهذا ما أوصل الثقافة العربية إلى حالة جمود مستمرة منذ عدة قرون.نحن نلاحظ أن فترات ازدهار الحضارة العربية الإسلامية كانت هي فترات إعمال العقل وفترات ازدهار التفكير الفلسفي وبروز مدارس وأعلام الفكر العقلاني بعيدا عن قلعة العلم الشرعي، تلك القلعة المنغلقة على ذاتها داخل ما يسميه محمد اركون بالسياج الدوغماتي المغلق، فترة المعتزلة وعلم الكلام كانت لحظة مشعة بلغ إشعاعها خارج بغداد ودار الحكمة وامتد في الزمن إلى وقتنا الحاضر، دون أن يكون لتلك الفترات الراقية في تاريخنا الفكري (ورغم إشعاعها بعيدا في التاريخ والجغرافيا) أن تؤسس لثقافة عربية تنتصر للعقل وتتوسل بأدواته لأجل الرقي والتقدمإن كل حالة ضعف تكون نتيجتها خوف على الهوية، وبما أن هويتنا كمسلمين تحيل بشكل مباشر على المرجعية الدينية (قرآن وسنة) فان الخوف على الهوية نتيجة حالة الضعف التي لحقت بالعالم العربي الإسلامي، قد تمت مجابهته بالعودة إلى النص الديني والانغلاق عليه كمرجعية وحيدة لأمور الدين والدنيا وتجاوز للعقل وللتفكير الفلسفي الذي يطرح الأسئلة دون أن يعطي الإجابات الحاسمةلان إجابات العقل المتفلسف تبدو نسبية وخاضعة للحظة التي أنتجت فيها، في حين أن إجابات النص الديني معيارية وغير مرتبطة بزمانها في غالب الأحيان، فهي (أي إجابات النص الديني عن إشكالات الحياة والدين) تقدم نف
سها كحكم مطلق متجاوز للزمان والمكان لان أصل القرآن متجاوز وغير مقيد بزمان ومكان ( زمن نزول الوحي وظروفه ) ومن هنا كانت أحكامه أو ما يستنبط من أحكامه، متسمة بهذه الميزة، مع أن تاريخ الفقه الإسلامي يعطينا أمثلة ناصعة عن تغير الأحكام بتغير عوائد الزمان ، حدث ذلك من الشافعي وهو ينتقل من العراق إلى مصر وحدث ذلك مع الكثير من الفقهاء الذين فهموا حيوية النص الديني وقدرته على الاستجابة المتجددة لتحديات الأزمنة المتغيرة.حين نطرح السؤال بهذه الصيغة: العقل أم النقل؟نكون أمام ثنائية حدية تلغي احد الطرفين لصالح الآخر، وبالتالي أرى أن طرح القضية بهذا الشكل هو طرح خاطئ ويهيئ النفس والعقل لإلغاء احد الحدين مسبقا، وهذا الأمر فيه تعسف ومغالطة كبيرة رغم أن جل المقاربات التي تناولت هذه العلاقة الملتبسة بين العقل والنقل تصل في النهاية إلى صيغة توفيقية أو بعبارة اصح تلفيقية تنتصر للنقل وتفتح بابا للعقل. في حين أن النص الديني نفسه وأنا هنا استشهد بالنص الديني كمرجعية مشتركة لنا كمسلمين، النص الديني ينتصر لإعمال العقل بمطلقيتهولكن الفهم الفقهي للآيات التي تدعوا لإعمال العقل، قد عمل على تقميط تلك الآيات وحصر دعواتها المنتصرة للعقل داخل مجالات معينة يعتبر الخروج عنها مروقا يعاقب عليه بالتفسيق والتكفير، والتاريخ يعطينا أمثلة كثيرة عن هكذا حالات من التكفير الذي لحق بالكتاب والفنانين وحتى رجال الدين النتيجة أن مقولة: من تمنطق تزندقمازالت تحكم فكرنا بشكل ينفي العقل إلى الزوايا المظلمة ويفسح المجال للنص الديني بفهمه الظاهر والسطحي ليكون المرجع الوحيد لحياتنا مع أن هذه الحالة الغير سوية هي تجاوز للنص الديني في حد ذاته الذي يدعوا لإعمال العقل

الاثنين، مايو 04، 2009

رواية الجيل الجديد وروح المغايرة

ما يمكن الإشارة إليه قبل التطرق لرواية جيل الشباب، هو أن الرواية الجزائرية وحين نتناولها من منظور الأجيال الأدبية يمكن تقسيمها لجيلين فقط، نظرا لان جيل الثمانينات لم يكن سوى استمرارية بشكل من الأشكال لجيل السبعينات سواء على المستوى الفني، أو على مستوى طبيعة الرؤية للعالم التي تبناها كلا /الجيلين في أعمالهم الإبداعية، ولم يسجل أي تطور جذري خلال سنوات الثمانينات يمكن اعتباره قطيعة مع رواية السبعينات، لهذا نقول وبشيء من الحذر المنهجي عن الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية تحديدا، قد عرفت لحد الآن جيلين فقط إذا اعتبرنا أن الجيل الأدبي لا يحيل على معنى زمني بمقدار ما يحل على طرائق تعبير وتطور فني ورؤيوي للعمل الأدبي لأن ظهور هذه الأجيال مرتبط ارتباطا أساسيا بحدوث ظواهر اجتماعية معينة· ولكن يبدو واضحا أن الأجيال الأدبية تضم أفرادا يسهل على الباحث تعداهم، ورغم أن فترة الثمانينات من القرن العشرين قد عرفت بالجزائر تغيرات سياسية واقتصادية عميقة، غير إن الرواية الجزائرية وباستثناءات قليلة ظلت غارقة في الرؤية التي أنتجها الآباء المؤسسون للرواية الجزائرية دون أن يتمكنوا من إنتاج نصوص تشكل قطيعة مع تلك النصوص والرؤى، هذه القطيعة لم تحدث إلا مع نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي حين برز جيل من الروائيين الشباب يكتبون الرواية لأول مرة غالبا وينتجون نصوصا ذات حساسيات أدبية ومعرفية مغايرة، وهذا ما يسميه داود محمد /بانبثاق حقل روائي جديد/·
هذا الانبثاق لحقل روائي جديد بالجزائر كان نتيجة لتلك التحولات العميقة التي عرفتها الجزائر على جميع الأصعدة بداية من سنة ,1989 تلك التحولات التي كانت بنوعية وقوة غير معهودتين من قبل· فكالإعصار المدمر عمت موجة الإرهاب مختلف أقطار البلاد، وقد كان الفاعل الثقافي الهدف المفضل والمطلوب من لدن هذه القوة الهدامة العمياء· وفي مثل هذا الموقف وجدت الذات الكاتبة نفسها في مواجهة قوى مختلفة، مضادة ومعادية، بيد أنها تشترك في محاولة نفي تهميش المثقف أو إسكاته على أقل تقدير· هذه الظروف المستجدة التي كانت نتيجتها إسكات وتهميش المثقف الجزائري بالإضافة لتعرضه للتصفية الجسدية، والقتل المعنوي، كانت محفزا للأدباء الجزائريين من اجل المقاومة عن طريق فعل الكتابة، والوقوف عن طريق الكتابة كشهداء على تلك المرحلة المتمزقة من تاريخ الجزائر المعاصر·
حيث شهدت فترة نهاية التسعينات مجموعة من النصوص الروائية سواء بالعربية أو بالفرنسية تناولت المصائر الفردية والجماعية في ظل ظروف اجتماعية وأمنية تجعل من الموت المفجع طقس يومي منذ بداية العنف المسلح ضد كل فئات الشعب الجزائري وضد الدولة الجزائرية ورموزها·
ما يميز هذه النصوص المغايرة هو كون معظم منتجيها شباب يكتبون الرواية لأول مرة بعد أن تمرسوا على الكتابة في الصحافة لفترة معينة ( حميد عبد القادر، بشير مفتي، ياسمينة صالح، كمال بركاني··· الخ )·
وهذا الجيل من الروائيين الجزائريين الذي اشترك مع روائيي الجيل السابق في الحقل الروائي الجزائري جنبا إلى جنب تميزت كتابته عن الجيل السابق بعدة ميزات نوردها في النقاط التالية:
- نشرت هذه الأعمال كلها ضمن دور نشر خاصة ( البرزخ، الفضاء الحر، القصبة، الشهاب، منشورات مارينو)، أو عن طريق جمعيات ثقافي (الاختلاف، رابطة إبداع، الجاحظية )، أي لم تحتضنها مؤسسات الدولة بصفة مباشرة، مما يمنحها استقلالية كبيرة في النشر والتوزيع، ومن ثمة استقلالية في طرح المواضيع بحرية أكبر·
-هذه النصوص تحمل في مضمونها أطروحات جديدة، تعيد النظر في العديد من القضايا الفكرية والإيديولوجية التي سادت وتكرست في الساحة الثقافية، كما أنها عملت على إعطاء قراءات مغايرة للتاريخ تشتبك مع القراءة الرسمية وترفض تبنيها
ابداعيا·
- جل تلك النصوص الروائية التي صدرت خلال أواخر عشرية التسعينات وبداية الألفية الجديدة تجرب كتابة جديدة يمكن تسميتها /بعنف النص /، لأنها تعيد النظر في الكتابة التقليدية المعروفة بتلاحق أزمنتها وأحداثها، فهذه النصوص الجديدة تتميز بتكسير زمن الحكي والتشظي على مستوى الذاكرة والذات الكاتبة·
- هذه الكتابة الجديدة التي ينتجها الروائيون الشباب تتميز باعتنائها الكبير بفئة معينة من المجتمع الجزائري وهي فئة المثقفين، هذه الفئة التي شكلت كبش فداء للصراع الدائر بين الدولة والجماعات الإسلامية المسلحة·
- جل تلك الروايات تميل لان تكون بوحا ذاتيا تتماهى فيه حياة الكاتب الروائي مع شخصية الراوي في العمل الإبداعي، فجل تلك الروايات لم تكن في النهاية سوى سيرة ذاتية ولو بشيء من التحوير لحياة الكاتب نفسه·
وبمقارنة هذه الخصائص التي تميز رواية الجيل الجديد من الأدباء الجزائريين مع ما كان يميز روايات الجيل السابق وبصفة عامة المتن الروائي الجزائري منذ لحظة التأسيس في سبعينيات القرن الماضي، يمكننا الحديث على ضوء هذه المقارنة عن روح جديدة ومغايرة تمام المغايرة لتلك الروح الإبداعية التي ميزت المتن الروائي الجزائري قبل سنة .1989
ـــــــــــــــــــــ
نشرت هذه المقالة اولا بملحق الأثر الثقافي الذي يصدر أسبوعيا عن جريدة الجزائر نيوز

conter