الجمعة، ديسمبر 27، 2013

عن الطالبات

الطالبات في عرفنا وأقصى تخيلاتنا غانيات مكسوات بالبهاء، هن العاشقات وهن المعشوقات وهن سيدات الدلال، ومالكات فتنة لا ينضب لها معين، هن اللواتي في صوتهن وعد الخضوع، وفي ضحكاتهن حين تتعالى صخب الفتوة والشباب. مغريات هن حين يمزجن الضحكة الغنّاء بمكر النظرات البارعة في توزيع وعود لا تتحقق، وهن المسكونات بيقين أنثوي لا يخيب أن مشيتهن الواثقة تزرع حولهن الارتباك، وتخلق في القلوب آلاف الحسرات، وهن يتقدمن بخطى فيها الرشاقة والخفة والرنين الذي يشحذ الانتباه من أمامهن وخلفهن، وهن اللامباليات، يتظاهرن، حين تحاصرهن العيون المعجبة، بالتأفف والتعفف وقلة الانتباه، وعيونهن تسرق النظرات وتوزع الأماني.
ملتحفات بخمورهن، أو تاركات شعرهن للريح يتطايره، يشتركن في عشقهن لسراويل الجنيز تحت الجلابيت السود او بدونها، وقمصان تضيق عند الصدر وتضيق لتخبر عن جسد عامر بالخصب والعطاء، وعن نهود تبعث من تحت القمصان والجلابيب وعبر الطوق المفتوح صهد الشبق والاشتهاء، وهن، في دلال الواثقات يبرعن في ضم الكتاب الذي بين اليدين للنهدين، أإخفاء لإمتلاء زاد عن لحد المرغوب وإشعالا للخيال الذي لم يبصر التحت بعد، وليس الكتاب المضمون للنهدين او المتروك مهملا على الركبتين في قاعات الدرس أو في الحافلات العامة سوى علامة تميز، ورغبة في الإخبار عن هوية تعلمن أنها تجلب السعد والحب، وتغري بالاقتراب، فالطالبات في عرفنا وأقصى تخيلاتنا هن المالكات لحرية الخروج، وللرغبة في عيش المغامرة، وللجرأة على التجريب العاطفي، إنهن في عرف البعض ممن انطقهن كبت السنين بالمتبذل من العبارة: عاهرات محترمات. أو، بالأقل من ذلك الابتذال: هن نساء يسعى الكل لغض الطرف عن هفواتهن. إنهن مقصورات الطرف التي يعد كل عشاق الجمال وطلاب المتعة انفسهم بهن، ولو تخيلا.

المتعلم وتقديس المرجعية



التسليم بما يصدر عن مرجعية أعلى ( الأب، الإمام، الأستاذ، الكتاب، وسائل الإعلام المكتوبة خاصة ) هي ثقافة سائدة لدينا كعرب وكمسلمين، وهي ثقافة موغلة في القدم ومتكئة على الاستدعاء الدائم للمرجعية والأصل، وتقديس كل ما تقادم من المأثورات والأقوال والأحكام، إنها ثقافة تعادي التجديد وتعادي الإبداع المركون عنوة في زاوية مظلمة تسمى البدعة، والبدعة ضلالة في عرف العارفين الضالعين في مراتب التقديس المرجعي للأصل وللسلف الذي ما ترك شيئا لعقول الخلف.
فابتداء من القرآن كنص مقدس وكأول المكتوبات وأكثرها تأثيرا في التكوين العقلي والنفسي للفرد العربي المسلم، وعلى امتداد تدوين ( كتابة ) الحديث، وتصنيف العلم الذي ما كان يعني في العرف العربي القديم سوى العلم الشرعي المسيّج بالقداسة والغموض الذي يستعصي على أفهام العوام؛ أولئك الذين لا يطلب، ولا ينتظر منهم سوى التصديق والتسليم بما يقرؤون او يقرؤ لهم من نصوص متعالية متشحة بالقدسية، فالنص المكتوب بالعربية ظل دائما في الفكر الشعبي الذي لم نتخلص منه رغم كل عمليات التحديث، لصيقا بالقداسة، فالعربية لغة مشدودة عنوة إلى الدين وقداسته وإلى المعرفة اللدنية، أي تلك الرؤية العرفانية التي بثتها نصوص الصوفية في الوعي الجمعي عن طريق الزوايا واحتفاليا الموالد و" الوعدات " التي تتلى فيها نصوص لا يفهمها اؤلك المريدون المنتشون في حضرة السيد العارف اللائذ بالغياب إمعانا في تعميق الإحساس بالقداسة وبالرهبة امام إرثه المتداول حكايات اسطرتها الرواية المتعددة لها شفاهة وكتابة.
إن أول ما يتعلمه الطفل العربي، غالبا، هو القرآن، والنص القرآني، بقداسته، يشكل بالنسبة للطفل أول لقاء بالمكتوب / القدسي، ونتيجة المناهج التعليمية المرتكزة على التلقين الحرفي وعلى المعلم / العارف الذي لا يقول إلا صدقا في نظر المتلقين / التلاميذ / الطلبة، فقد نتجت، وتعمقت تلك القدسية الرهيبة التي يتعامل بها لطلبة مع ما يجدونه مبثوثا في ثنايا الكتب، وخاصة الكتب التعليمية تقدم من خلال نصوصها منتوجا معرفيا يزعم لنفسه تقديم معرفة وعلم يقيني لمن هو بحاجة لذلك العلم ( الطلبة )، وهذا ما يجعل التعامل مع الكتاب بالنسبة لطلبة لم يتعلموا القراءة والنقد خلال مراحل تعليمهم السابقة على الجامعة، تعاملا يشوبه الكثير من الارتياب والرهبة والاستعداد المسبق للتسليم بكل ما يقرأ، نتيجة التأثير الرهيب لصدمة الإلتقاء الأول بالكتابة من خلال نص مقدس يعتبر التساؤل حلو صحته او معناه المضمر نوعا من التجديف، وهو القرآن.

أغنية محمد الزاني


هي اغنية عتيقة، نسائية الروح والكلمات، مغرقة في تحسرها على الحبيب الذي خان بعد أن نال من محبوبته ما أراد. كانت ولوقت قريب ترددها النسوة بالأعراس، هنا بمنطقة جيجل، وإن كان ترديدها يقتصر غالبا على سهرات دار العروس، وكأنها نوع من التوديع النسائي لحياة العزوبية بما فيها من أخطاء وهفوات ومن عشق مباح ومستباح، وكتحية إخلاص للحب االذي كان صادقا رغم أنه لم يكن في مستوى تطلعات فتاة ريفية، بسيطة الوعي، تربط الحب بالزواج بشكل تلقائي.
في الأغنية تحسر على غدر الحبيب، وعتاب شديد لا كره فيه لذلك العاشق الغادر، بل، ورغم مرارة ما آلت إليه حال تلك الفتاة العاشقة المفطورة القلب والمخدوعة في شرفها، فإنها تظل تؤكد على حفظ الود، وصيانة الذكرى من النسيان، وكأن تلك اللحظات التي عاشتها في حضن الحبيب، هي أثمن وأعمق ما عاشته في حياتها، لهذا فهي حين تكرر تاكيدها على حفظ الود والحب، وكأنها تؤكد على وجوب حفظ دكرى الحب لا ذكرى الحبيب، لأن الحبيب المخادع الموصوف في الاغنية " بالجنش " لا يستحق كل ذلك الحب وكل ذلك الوفاء، وكأنه، في هذه الأغنية، أي العاشق، مجرد تعلة، ومجرد وسيلة لعيش تلك الحالة من العشق والافتتان والاستسلام لشهوة الكشف وشبق الاكتشاف والإنكشاف روحا وجسدا في حضرة المحبوب، رغم خطورة ما ينجم عن هكذا علاقة مجرمة اجتماعيا.

لاشْ أَمحمدْ أَمحمَّد لاش أَمحمد الزّاني 
تْوسَّد دْرْع مرْتو والدَّاه النُّوم وخلاَّني 
عْويناتو عْويناتوُ عوينات الحنش في الليل 
كِنتفَكر أَمحمد الدَّمعة في الفراش تْسيل
عويناتوُ عويناتوُ عوينات الحنْش في الماء 
وْكِنتفَكر مْحمد الدَّمعة تَسْبق الكلمة 
أو و الله ما نْسيتك يا خْليلي غير إيلا برْدت الكَلْمة 
ضربوُني وجَرحوني وْسال الدَّم علَّخراضْ
ضربوني عذراعي وْزادولي عْللْخمَّاس 
لاش أَمحمد أمحمد لاش أمحمد الزَّاني 
توَسَّد درع مرتو والدَّاه النُّوم وخلاني 
زافْ الريح زافْ الريح والريحْ خَلخَل فْوادي 
و الله ما نسيتكْ يا خْليلي ولو نْعود بولادي 
زاف الريح زاف الريحْ، والريح خلخل الجوزة 
و الله ما نسيتك يا خليلي حتى نعود عْجُوزة
ضربوني وجَرحوني وحتى سالو عيْنياَّ
و الله ما نسيتك يا خْليلي حتى يبرْدو رجليا
لاش أَحْنيش لاشْ أحْنيشْ تزَفر عليَّا
وأنا صاحبي مْحمد وحماتي يهوديَّة
لاش أمحمد محمد لاش أمحمد الزاني 
توسد درع مرتو والداه النوُّم وخَلاني 
لاش أمحمد أمحمد لاش امحمد يا الطَّحانْ
فَموُّ يهدر مْعايا وقلبو مع المْرة في الداَّرْ
الدَّردوس والدَّردوس عدا على الغابة 
و كنتفكر خليلي والدمعة سرابا

سلطة الكلام



يميز باختين بين نوعين من الكلام: الكلام الآمر والكلام المقنع.
يمتلك الكلام الآمر سلطة داخلية، ومشروعية مسنودة غالبا، بالإستعداد الذي يبديه المتلقي لتقبله والتسليم بما جاء فيه. إن الكلام الآمر عادة ما يكون خطابا أخلاقيا وأبويا، إنه كلام الكبار والأساتذة والزعماء الملهمين وقادة الرأي العام.
على العكس من ذلك، فالكلام المقنع هو كلام عامة الناس، أو بتعبير أدق هو كلام أولئك الفاقدين للسلطة والمجردين من هيبة المشروعية التي تموضع كلامهم في رواق المقبولية، ولهذا فغالبا ما تكون الخطابات التي تصدر عن هؤلاء الفاقدين للسلطة، خطابات تفتقد للتقدير الإجتماعي، بغض النظر عن مستواها او أصالة ومصداقية ما تتضمنه.
إن هؤلاء، وحسب توصيف بورديو، يفتقدون للسلطة التي تنقل خطابهم من مجال الكلام المقنع إلى مجال الكلام الآمر نتيجة افتقادهم للرأسمال الرمزي الذي يموضعهم بشكل أفضل داخل الحقل / المجال الذي يصدرون ضمنه خطاباتهم، وسعيهم من أجل تحصيل رأس مال رمزي داخل الحقل يجعل خطاباتهم غالبا ذات نبرة نقدية واحتجاجية حادة اتجاه التسلط والأبوية، وهيمنة المرجعية. تلك المرجعية التي يتخذون، في مسيرة تحصلهم للرأسمال الرمزي، من توكيد الإنتماء إلى روحها، وتمثل بناءها النظري مقولاتها المفهومية، سندا ودليلا على أحقيتهم في ولوج الحقل الثقافي / الأكاديمي / السياسي / الديني ... الذي ينتجون خطاباتهم ضمنه. وفي نفس الوقت تكون تلك المرجعية موضوع نقد حاد وغير رحيم من طرفهم، على اعتبار انها تشكل الحصن المنيع الذي يصدر أصحاب المشروعيات المكرسة كلامهم الآمر من خلف أسواره.
لكن غالبا ما يكون ذلك النقد وتلك الهجمة على أسس وتمظهرات تلك المرجعية المكرسة للمشروعية، نقدا غير أصيل، وبالتالي فاقدا للقدرة على خلخلة تلك الأسس، وذلك بسبب كونه مجرد وسيلة تدافع على الخيرات الرمزية التي توفرها المرجعية، أي أنه من مصلحة أصحاب الكلام المقنع الذي يتسم بكونه أقل دوغمائية واكثر انفتاحا وتقبلا للرأي الآخر، أن يحافظوا على تلك المرجعية قائمة، لكن مع تركيز النقد الملحاح على استبداديتها وتهميشها للآخر، بشكل يضغط من اجل فتح الأبواب امام هؤلاء الوافدين الجدد بعد ان اكتسبوا الرأسمال الرمزي الكافي ليتحولوا من أصحاب كلام مقنع إلى اصحاب كلام آمر، أي إلى مالكين لمشروعية انتاج خطابات تمتلك قوة داخلية تمنحها هالة وهيبة لدى المتلقين.

الثلاثاء، ديسمبر 03، 2013

عن أحمد فؤاد نجم الذي لا يموت



بذيء اللسان والقلم كان، ككل الغاضبين لاغتصاب الحق وغيبة الوعي، كان أحمد فؤاد نجم كما وصفه أنور السادات: الشاعر البذيء. وهو رغم، وبواسطة تلك البذاءة كان أكثر من عبر عن أوجاع الروح المصرية بلغة تمتح من محكي الشوارع وصراخ الحارات العتيقة، ومن دندنة صبية المقاهي في حارة خوش التي جعل منها نجم ورفيق دربه الشيخ إمام محج المثقفين وكعبة الغاضبين الراغبين في التنفيس عن إحباطهم الطبقي الذي عبرت عنه أشعار ذلك الفاجومي النحيف الجسد والقوى ألإرادة ذلك الذي في شعره قوة تسقط الأسوار كما وصفه لويس أراغون.
لم تكن حياة احمد فؤاد نجم، وهو ابن عائلة نجم المعروفة ببر مصر، إلا حياة صعاب تُتَجاوز، ومكابدات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد تماما كما مكابدات بروميثيوس الأبدية في إيصال الصخرة إلى أعلى الجبل. وهذا ما جعل في شعره ثورة غضب لا تخفي وإن تمت مداراتها أحيانا بخفة العبارة وحلاوة المزاح الممزوج بطعم المرارة؛ وهو الطعم نفسه الذي عمقته موسيقى الشيخ إمام، التي اتكأت على أشعار نجم، ليشكلا ثنائيا من أشهر الثنائيات الفنية في التاريخ العربي الحديث، رغم صدامية النهاية التي ميزت علاقتهما، لكن الترجمات الموسيقية التي قدمها الشيخ الضرير لأشعار الفاجومي، ستضل أهم ما يربطهما، واكبر من كل خلافات النهاية، تلك العلاقة التي ابتدأت في حارة خوش، وفي ذات الحارة نمت وتناسلت اعمالهما المشتركة، تلك الاعمال الثورية، الهادفة لإيقاظ الوعي الشعبي المصري من غيبوبته ومن لا وعيه بوضعه الطبقي في مجتمع يستنفذ كل القدرة على الصبر والاحتمال التي يتسم بها الغلابى والمقهورين، في بلاد خابت فيها كل اماني ثوارها ووعود ساستها، فانقلبت وعود الثورة والوحدة العربية التي بشرت بها ثورة يوليو والتي آمن بها نجم، إلى دكثاثورية واستبداد، وقمع للحريات وتكميم للأفواه، وهو ما عاناه نجم وشريكه الشيخ إمام كثيرا وطويلا، ولعل الشيخ إمام هو أول موسيقى عربي يسجن بسبب تأليفاته الموسيقية، فكما يقول عنه رفيقه نجم: " أول موسيقي تم حبسه في المعتقلات من أجل موسيقاه وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبهم وتفضحهم".
والفضح، وببذاءة لا تخجل من نفسها وعباراتها، هو ما قام به أحمد فؤاد نجم خلال المرحلة التي يسميها كمال عبد الملك في كتابه عن نجم بمرحلة: بلاغة العنف الثوري " ، والتي هي قمة تطور الوعي السياسي لنجم، والذي رافقه تطور وتثوير لأساليب الكتابة الشعرية التي ظلت وفية للعامية المصرية كقالب لغوي قادر على احتواء كل ما جادت به قريحة الشاعر البذيء أو الشاعر البندقية كما أسماه الراحل علي الراعي.
إن ثورية ما كتبه احمد فؤاد نجم، قد جعلت منه واحدا من اكثر المثقفين العرب تعرضا للإعتقال. لكن 18 سنة من الاعتقالات لم تكسر فيه روح الدهشة والحلم والأمل، والإيمان بالقدرة على التغيير، فكونه مثقفا ملتزما ذو رؤية يسارية عميقة التجدر وشديدة التأثير في سلوكياته ونتاجاته الإبداعية، جعله لا يكف عن النضال السياسي، سواء من خلال حزب الوفد الذي انتمى اليه قبل ثورة 25 يناير، او من خلال تصريحاته التي ظلت تلهم الكثير من الشباب العرب، وهو قد آمن بالشباب وبالفن، حتى آخر نفس.
أحمد فؤاد نجم، المناضل الشيوعي وعاشق الخمرة والنسوان، صاحب الثمان زوجات الذي اكتشف بعد رحيل العمر والقوة على أنه كان حمارا، كما عبر بنفسه عن خيبته من كل تلك الزواجات، ومن حبه الأول لابنة عمته التي حال الوضع الطبقي بينه وبنها، بسبب كونها من عائلة غنية، وهو مجرد بروليثاري يئن تحت وطأة فقر الجيب وغنى الوعي. هو يرحل عنا، ويبقى فينا حاضرا كما يبقى كل العظماء الذي ينيرون دروب الوعي الانساني بكتاباتهم، وهو عبر سيرة حياته الملحمية، وعبر ما خلفه من إرث شعري، سيظل واحد من تلك المنارات الثورية التي ستحرضنا دوما على أن نؤمن بأن الوضع القائم ليس قدران وإن خيانة الوعود الكبيرة لا يمكن ان تبرر، أو يدافع عنها تحت أية ذريعة.

الاثنين، نوفمبر 25، 2013

متعلمات لن دون وعي





عوّل الكثير من اليساريين والعلمانيين العرب، وعلى مدار عشريات كاملة، على دور التعليم في تغيير الواقع الاجتماعي، وخاصة ما يتعلق باضطهاد النساء من طرف نظام أبوي يرى في جسد المرأة شرفه وأساس قوته المعنوية.
فتعليم المرأة وخروجها للعمل واستقلاليتها الاقتصادية كان يمكن أن يؤدي إلى تغيير جوهري في طبيعة البنية التحتية فيما يخص التوزيع الجنسي للثروة، وذلك بتوسيع نسبة مشاركة النساء في الإسنفادة من الثروة، هذا التغيير في البنية التحتية كان سيؤدي، وبشكل طبيعي، حسب التحليل الماركسي، إلى تغيير مقابل وجوهري أيضا في طبيعة البنية الفوقية، وخاصة ما يتعلق بالقيم والثقافة السائدة، والتي هي قيم وثقافة منحازة ضد النساء، ومن ثمة تغيير طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع من خلال تحرير، وافتكاك الحياة الخاصة للفرد من هيمنة وتوجيه ورقابة الجماعة المتشبعة بقيم أبوية تسلطية في طبيعتها. الذي حدث، وخيب الآمال اليسارية كلها، أن المرأة وهي تكتسب من التعليم قسطا وافرا وتخرج للعمل وتستقل اقتصاديا، بل وتصبح في الكثير من العائلات هي المعيل ومصدر الدخل الرئيسي، وإنتقال البنية الأسرية في الكثير من المجتمعات العربية إلى أسرر نووية، وفك الارتباط مع الأسرة الممتدة المشدودة لبعضها البعض بهيمنة رمزية شديدة الهالة لرب الأسرة.
في ظل كل هذه التغيرات البنيوية العميقة لم تتمكن المرأة العربية من تحقيق متكسبات مهمة على الصعيد القيمي، أي على مستوى نظرة المجتمع لها كفرد لا يعرف بذاته إنما بانتمائه العائلي وبمحارمه من الرجال: فهي ابنة فلان وزوجة فلان، وهذا الانتقاص من قيمة المرأة لا تكمن خطورته على مستوى التوصيف فقط والربط الإسمي بالرجال ( الأب والزوج )، إنما على مستوى القيم الناظمة لهذا التوصيف وذلك الربط ، أي على اعتبار المرأة حاملة لشرف العائلة، وبالتالي اعتبار جسدها ملكا عشائريا/عائليا وليس ملكا فرديا كما هو الحال بالنسبة للرجل، وهذا التصور هو المبرر الذي ترتكز عليه الهيمنة الذكورية كأحد أبرز تجليات النظام الأبوي، وهو الحجة الأبرز التي تساق لتبرير التضييق على النساء ومراقبتهن، وهو تبرير تتبناه الكثير من النساء نتيجة تشبعهن بالرؤية الأبوية المبثوثة في طرق التربية والتنشئة الإجتماعية. 
إن ما عمق خيبة الطامحين لترسيخ قيم الحداثة الاجتماعية في الوطن العربي، أن الذي حدث هو تمكن ما يسميه هشام شرابي بالأبوية المحدثة من نقل القيم الأبوية للأجيال الجديدة التي نشأت في ظل تلك التغيرات البنيوية المذكورة أعلاه والتي خلخلت النظام القديم للمجتمعات العربية، وتمكنت، أي الأبوية المحدثة، من جعل الفئة الأكثر عرضة للظلم وهي فئة النساء، تتبنى تلك القيم وتدافع عنها، من خلال تقديمها كقيم أصيلة في مواجهة القيم الدخيلة، ومن خلال ربطها التعسفي بالدين وبالأصالة ومن خلال ، وهذا هو الأهم، قوة التنديد والعقاب الاجتماعي الذي تقابل به كل عمليات الخروج العلني على تلك القيم المرعية من طرف الأبوية المحدثة.
ونتيجة تبني السناء المتعلمات والعاملات لتلك القيم والدفاع عنها بشكل يتعارض في العمق مع مصالحهن الفردية، ومع ما يتطلعن إليه من مساواة وعدالة اجتماعية تلغي القمع الذي تتعرض له النساء في المجتمع وتساهم في التمكين للمرأة في الحياة السياسية والاجتماعية بشكل متزن، وغير مدان أخلاقيا، كما هو حاصل الآن فقد تمكّنت، رغم كل عمليات التحديث الظاهري، الرؤية البدوية / السلفية للعالم التي تتبناها فئات هي في الأصل متضررة منها، ومن ثم فقد ذهل التحديث المجتمعي عن مقاصده في مجتمع تبقى منظوماته القيمية عصية على الإختراق والتحوير.

الخميس، أكتوبر 17، 2013

عن الأستاذ الجامعي الذي لم يعد إسمو غاني وجيبو خالي



غالبية أساتذة الجامعة لا يؤمنون بالعلم والمعرفة، غالبيتهم قادمون من أصول ريفية ومن عائلات ذات وضع اجتماعي متدني، لهذا فهم يرون في العلم والشهادة التي يأتي بها وسيلة للترقية الاجتماعية، وسيلة للعيش الرغيد ولسفر على حساب الحكومة تحت ذريعة المنح العلمية، الشهادة المؤهلة لمنصب أستاذ بالجامعة الجزائرية ما هي في الغالب إلا وسيلة لتعويض سنوات طويلة من المعاناة، له
ذا بمجرد ما ينالون الدكثوراه التي تفتح لهم باب الترقية الوظيفية على مصراعيها، ينشغلون بتعزيز وضعهم الاجتماعي، وبما أن العلم الذي يأتي بعد الدكثوراه لن يضيف الكثير للراتب في ظل توفر طرق أكثر راحة وسرعة لزيادة الدخل بدونه، فهم يرون، ببراغماتية، أنه لا داعي للتعب المجاني، فهم فخورون جدا بصفة الأستاذ الجامعي التي تجلب لهم محترمية تبعث الغبطة في نفوسهم وشهادة الدكثوراه التي تضمن لهم دخلا شهريا مريحا كانت، أو ربما صارت بعد الحصول عليها، مجرد وسيلة لبلوغ هذا الوضع، لهذا لا تستغرب من موتهم العلمي بمجرد مناقشتهم لرسالة الدكثوراه. فقلة قليلة جدا منهم تبقى مهمومة بالفكر والإبداع، وتلك هي القلة التي تعاني، غالبا، في مؤسساتنا الجامعية من التهميش والحقرة.

في مديح النزوة ... في مديح العشيقات






إلى حضن العشيقات نفر بحثا عن دفء عابر وعن وهم محبة ورشح حنان ينسرب نحو عمق الأعماق، فهن الملاذ وهن العزاء والسلوى الذي لا نقر لاحقا بفضله في التخفيف عنا، فالعشيقة نزوة وإن طالت، وهي المنذورة للنكران مهما أعطت، هي الشرف المرتبك على عتبات البيوت المقدسة حيث نكد الزوجات وحيث فراش غادره دفء الآهات واللوعة. في أحضان العشيقات المنذورة للبذل ينجبر القلب المفطور وتلملم الخيبات؛ خيبات حسن الظن في الحبيبات اللائذات بالعناد عند الخلاف وعن سوء الفهم، وخيبات الخيانات الصغيرة ووجع الخديعة. في حضور العشيقات يزهر الفرح فوق الفراش وعند عتبات البيوت التي نلجها سرا ووجلا للقاء امرأة كساها الانتظار بالشوق.

الحب العربي الأصيل





الحب ليس هواية عربية ولا شرفا مدعى ولا بطولة تحكى للأجيال، إنه خطيئتنا التي نقترفها سرا، ونجاهر بها في حالات السكر التي تجرنا لشارع المحبوبة مكسوري القلب والخاطر نصرخ بكل ما فينا من جوع للحب الراحل وللمحبوب الذي توارى خلف نافذة غرفة مطفأة الأنوار ينظرنا ويسمعنا بتشفي أو بحزن بائس عاجز. إن الحب العربي نشوة وصرخة بين فخذي امرأة تعرت وقالت هيت لك، انه انحدار نحو جحيم الملذات وجنتها حيث حموضة العذاب وحلاوة المتعة ينسربان طعما لزحا بالحلق وفي العروق النافرة المستنفرة، إنه تيه وضلال ننكره في صحواتنا الاخلاقية ما استطعنا؛ بالرفض والتشنيع، فنحن الاطهار المتطهرون، والحب رذيلة لا نقترفها إلا سرا، حين نرمي العذار وحين ينزاح الإزار في عتمة الليل المهمل والمستثنى من رقابة منكر ونكير ، ومن رقابة جحيم اللاءات التي تكبر فينا كل صباح حين نلتقى الأصحاب على المقهى حيث تزدهر النميمة والمفاخرات الجوفاء بالشرف الرفيع.

الأحد، سبتمبر 01، 2013

ركوب الدماغ


ركوب الدماغ، بمعنى العناد والإصرار على الشيء، تهمة نسائية بنسبة كبيرة، فالرجال حتى أن فعلوا ذلك، قليلا ما يتهمون بأنهم ركبوا دماغهم، لكن المرأة لأننا لا نتوقع منها أن تفعل ذلك، أي أن تصر على رأيها، عن إيمان وقناعة نجابه كل عناد وإصرار من طرفها بتسفيهه وذلك بإرجاعه إلى حالة ركوب الدماغ، هذه الحالة التي تعني من ضمن ما تعنيه أيضا: " معزة ولو طارت "، إي افتقاد المنطق، والمنطق المقصود هنا هو رؤية الرجل وقناعة الرجل وعقل الرجل، فالمرأة ناقصة عقل ودين في تصورنا، وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون قناعاتها التي تدافع عنها بعناد فاقدة للمنطق، وبالتالي فاقدة للحق في الوجود، فنحن نختصر وجود المرأة في الجسد، أما الكينونة المستقلة المساوية لكينونة الرجل فهي مزية وصدقة نهبها للنساء حين نرغب في تملقهن أو حين ندعي تحضرا ليس فينا، لكن بمجرد حدوث تعارض مع النساء سرعان ما نسحب عنهن العقل والمنطق والدين مختصرين أياهن في جسد وفتنة ومكر، فهن الناقصات عقل ودين. وبالاستناد إلى حكمة الشيوخ: دين المرأة وعقلها بين فخديها، وكل ما عدا ذلك ركوب دماغ لا أكثر.

جاذبية الحايك؟



ظل الحايك، لزمن طويل، شاهدا على الفصل بين المجالات، مجال النساء ومجال الرجال، وأداة لذلك الفصل حين يحدث التداخل الاضطراري والاختلاط بين الجنسين، إنه يحفظ للمرأة جسدها من أن يكونا نهبا لعيون رجال من غير الحريم، ويضع حدا لتطلعات الرجال في الفضاء العام ( الزقاق، السوق، وأماكن الاختلاط الأخرى )، ولأنه يخبر عما تحته في زمن كان جسد المرأة فيه خيالا لا يطال بسهولة إلا في مناسبات معينة كالأعراس أو مواسم الجني ( جني الزيتون في المناطق الجبلية، وموسم الحصاد في المناطق السهبية )، فهو يغري بالسعي لامتلاك النعومة التي تحته، وغالبا ما يحدث ذلك وفق ما يرضي عرف المجتمع؛ أي بالزواج، الذي لا سبيل غيره لبلوغ ما تحت الحايك بشكل شرعي. وهنا مكمن جاذبيته، وسر كونه علامة أنثوية توحي، وتثير حالات الانجذاب رغم تصميمه الأصم الذي يخفي تقاسيم الأنوثة بشكل متقن وفعال، لكنها، أي تلك الأنوثة، لا تمنح إلا وفق عرف وعادة تحضى بالرضى الاجتماعي.
كل ذلك كان في زمن لم تنكسر فيه العلاقات بعد ولم تلتبس القيم الناظمة لتلك العلاقات، القيم التي تحدد وبصفة حدية ما للرجال وما للنساء، قيم تحضى بقبول لا يناقش. أما الآن فالعلاقات تغيرت والقيم اهتزت رغم عنادها ضد التغيير، وهذا ما يجعل جميل الماضي ينظر إليه الآن بعيون تكشف فيه القبح والاستعباد، لأنه جمال وجد لغير زماننا ونحن نستعيده بحنين أسيان لعلمنا المسبق أننا فقط نستدعيه تخيلا وفنتازيا وغرائبية لها قدم التاريخ وحنين الذاكرة.

الأحد، أغسطس 11، 2013

عقدة الأستاذ


كلما اقتربت من أستاذ، بشكل يجعله يتصرف معي دون تكلف، أتيقن من سيطرة عقدة الأستاذ عليه، إنها العقدة التي تحكم سلوكياته وتحدد ملفوظاته في المجال العام، وتجعله يجتهد في الحفاظ على صورة لم يساهم في رسمها إنما وجدها " كادر جاهز " لابد له كأستاذ أن يكون بداخله، ولأجل نصاعة الصورة داخل الكادر المعد اجتماعيا، عليه أن يجتهد في التكلم بحساب والتصرف بحساب، من أجل أن لا يقع في غير المتوقع منه كأستاذ، يفعل كل هذا بجد واجتهاد في المجال العام الذي ينتمي إليه وفي محيطه الاجتماعي القريب، لكن بمجرد ما يبتعد قليلا عن تضييق الكادر الاجتماعي المحشور بداخله، يتحرر بشكل مفرط وكأنه ينتقم من كل الضيق الذي عاناه داخل الكادر الاجتماعي المعد له كأستاذ، إنه ينتقم من الاختناق، غير المعلن، الذي ضيق عليه مجال القول والفعل بشكل افقده روح التهور، وكل قدرة على أن يخطئ دون توقع بصبصة آلاف العيون التي تنتظر عد أخطائه، إنه يتقولب وينضبط بإفراط، لا لشيء سوى لأنه أستاذ، والمجتمع ينتظر منه، كأستاذ، أن يسلك سلوكا محتشما ومحترما، ويقول قولا حكيما، أي أن يلغي الجانب الخطاء فيه كإنسان، وهو يستسلم، دون مقاومة لإغراء تلك الانتظارات والتوقعات الاجتماعية لأنها، ورغم تقييدها له، تمنحه مكانة رمزية مريحة.

السندريللا: سعاد حسني


منذ أن غنت في برنامج إذاعي: أنا سوسو أخت القمر، وهي تعلو وتعلو وتحلو وتشع قمرا في العيون ونورا في القلوب، معشوقة عبد الحليم والخميسي وصلاح جاهين وغيرهم عشرات ممن احترقوا بروح السندريللا النطاطة كفراشة لا تستقر على موطأ قدم ولا ترتاح لحضن، هي التي كبرت أمام الكمرا. مثلت غنت ورقصت، أبهرت وألهمت عبر ثمانين فيلما خلال اثنين وثلاثين سنة هو عمرها الفني بين أول فيلم ( حسن ونعيمة 1959 ) وآخر فيلم ( الراعي والنساء 1991) الذي شاركها فيه البطولة أحمد زكي الذي كان أحد عشاقها النادرين والذي هدد بالإنتحار ذات مرة لأن علي بدرخان مخرج فيلم الكرنك لم يختره لمشاركة السندريللا بطولة الفيلم سنة 1976. تزوجت سعاد حسني خمس مرات وطلقت دون إنجاب، ودون استقرار لفترة طويلة مع أي من أزواجها الخمسة، المنتمون جميعهم للحقل السينمائي، وزوجتها الشائعات مئات المرات، فقد كانت كما قالت مرارا: "تعيسة الحظ مع الرجال" تماما كتعاسة طفولتها التي كادت تخلو من البهجة والمسرات، فهي لم تكمل تعليمها الذي يمكنها من ولوج عالم النجاح الذي طمحت إليه، لكنها، ومنذ البداية، آمنت بنفسها وبالنور الذي في قلبها: يخبرها بأنها ستكون امرأة ذات شأن. وكان شانها المنتظر في السينما أمام الكمرا التي ستتوجها نجمة مصر والعرب الأولى، هي التي لم تخلق سوى لتكون ممثلة تزرع البهجة والأمل على الشاشة: جمال هاديء لوجه صاف البشرة متسق الملامح في بشاشة عفوية ترفع الكلفة مباشرة بينك وبين صاحبه، وجه شفاف عامر بالانفعالات إن صمتت وبالصدق في نبرات الصوت حين تتكلم. بهذه المواصفات مثلت وغنت ورقصت، هي التي لم تكن مطربة ولا راقصة ولكن عمق إحساسها بالمعنى الذي يجسده موقف ما في الفيلم، كما في الواقع جعلها تكون دائما مقنعة وهي تغني: " بانو على أصلكم" أو " بمبى بمبى " او "يا واد يا تقيل"، بنفس درجة الإقناع الذي أظهرته وهي تنزع ثوب الطالبة وترتدي ثوب الراقصة دفاعا عن كرامة أمها الرقاصة في "خلي بالك من زوزو".
لم يكن صعود ظاهرة سعاد حسني عبر السينما التجارية في بداية مشوارها، مانعا لها من أن تنتقل، وبسلاسة، للسينما الهادفة مع مخرجين كبار وجدوا في العينين الزائغتين والنظرات الحائرة لسعاد حسني التعبير الأمثل عن قلق وحيرة جيل 1967، فمثلت الخوف مع سعيد مرزوق، ومع زوجها، وطليقها لاحقا، علي بدرخان مثلت أنجح أفلامها النخبوية: " الكرنك "، عن رواية نجيب محفوظ، والذي شكل، بكل ما عبر عنه من ألم وعذاب جيل تمت التضحية به لصالح نزعة وطنية زائفة، إدانة شديدة اللهجة لنظام جمال عبد الناصر القمعي. ومع علي بدرخان أيضا مثلت آخر أفلامها: " الراعي والنساء ". الذي كان فشله سببا في حالة الاكتئات التي لازمتها وأوصلتها بعد عشر سنوات قضتها وحيدة ومريضة في لندن، أوصلتها لأن تقلد قصة قرأتها وتأثرت بها عن جنرال مصري انتحر برمي نفسه من شرفة شقة لندنية في عمارة شاهقة العلو، وقد علمت سعاد حسني أن لها صديقة مقيمة بنفس العمارة، فقصدتها مقتفية آثار خطى الجنرال المنتحر، تاركة لنا صوتها الطفولي يغني: خلي بالك من زوزو.


حول الثقافة الفيسبوكية


يتحول الفايسبوك إلى أداة تعليم وتثقيف لدى فئات واسعة من الأفراد الذين يجدون مقتطفاته المعرفية والمعلوماتية سهولة اكتساب وحفظ. غير أن الفايسبوك والانثرنث عموما، هي أداة تثقيف معلوماتي، أي أنها لا تعطي المعرفة بمقدار ما تزود الفرد بالمعلومات المختصرة والمجزأة في بيانات يمكن استظهارها وقت الحاجة، حتى دون الحاجة لذاكرة تحفظها بما أن تخزينها الالكتروني يمكن من العودة إليها بشكل مستمر. وخطورة هكذا ثقافة مؤسسة على كم هائل من المعلومات والبيانات تكمن في أنها تكسب صاحبها وهم المعرفة، لأنها تمكنه من الحديث في أي موضوع دون شعور حاد بالنقص الذي يخلقه الجهل. ولأن غالبية الفايسبوكيين ذووا ثقافة متشابهة، معلوماتية وبياناتية أساسا، فهم يتواطئون على تسطيح أي نقاش من خلال حصره في مجموعة معلومات تلقى هنا وهناك حول الموضوع المثار للنقاش، دون أي بعد معرفي أو عمق نظري يعبر عن الفكر والعقل الذي يقف خلف الكلام المنشور، فهم يكتبون كلمات عابرة، سطحية وبسيطة، وبعيدة عن التركيز، والأسوأ من كل هذا غير منسجمة فكريا؛ بمعنى أن الفايسبوكي الواحد يقع في عشرات التناقضات يوميا من خلال تعليقاته ومنشوراته دون أن ينتبه لذلك، لأنه لا ينطلق من أفكار ورؤى واضحة تشكل أفكاره ويبثها عبر ما يكتب، إنما ينطلق كما قلت من معلومات متفرقة، ومتناقضة أحيانا، هي التي تشكل جل رصيده المعرفي الذي لم يتشكل من خلال وسائل التثقيف العميقة والجادة والتي تمنح للفرد انسجام فكري ومعرفي حين يتحدث، تلك الوسائل التي على رأسها الكتاب، تغيب وتستبعد بشكل متسارع لدى الفيسبوكيين، فالفيسبوكيون العرب يعتقدون أن ما يتداولونه يوميا من معلومات يشكل رصيد معرفي يمكنهم المحاججة به، في حين أن تلك المحاججات القائمة على ثقافة الفايسبوك السطحية، وتلك النقاشات التي يدخل فيها هؤلاء الشباب بفخر وثقة العارفين، غالبا ما تضعهم في موضع سخرية أمام الفئات المثقفة التي تشعر بالأسى من ضحالة فكر هؤلاء الذين لا يكفون عن ادعاء المعرفة بأشياء يجهلونها تماما.


السبت، أغسطس 03، 2013

الصوم كطقس اجتماعي





لطالما كان صوم رمضان دليل انتماء الفرد الروحي والأخلاقي للجماعة في المجتمع الجزائري الذي يربط إسلام الفرد فيه بصوم رمضان أكثر من أية فريضة دينية اخرى، فيمكن لأي فرد في مجتمعنا ان يكون تارك صلاة وناكر زكاة ورافض حج ولو على مقدرة، وأن يسكر جهارا ويفاخر بزناه، دون ان يلقى استهجانا حادا كالذي يلقاه إذا جاهر بإفطار رمضان. لأن المجتمع الجزائري، بإسلامه الشعبي الذي لا يأبه كثيرا بأحكام واجتهادات الفقهاء في جزئيات الدين، ظل مجتمعا له مقدساته الدينية الخاصة التي ينتقيها من ضمن مجموعة مقدسات اسلامية عامة، ويؤكد عليها، ولعل أبرزها الصوم الذي يعتبر دليل بلوغ الذكر المسلم ودخوله فئة المكلفين، لهذا غالبا ما كانت الأسرة تحتفل بالصوم الاول للذكر كاحتفالية بطقس من طقوس العبور نحو فئة جديدة تعزز انتماءه للجماعة وترسخ تمسكه بقيمها واخلاقياتها.
وكان الخروج عن الجماعة من طرف بعض المارقين وقطاع الطرق غالبا ما يعلن بتصرفات تسفه قيم الجماعة، لعل أبرزها الجهر بإفطار رمضان كإعلان لفك الارتباط بالجماعة وقيمها ومقدساتها، وهو ميزة قطاع الطرق وشذاذ الآفاق والمشتردين والمنبوذين. كما أن إفطار رمضان من طرف بعض الشباب الطائش ولو سرا، وذلك ما يحدث غالبا، يكون مدعاة لاستهجان جماعي وشعور أهل المفطر بالعار، وهو بداية قطيعة بين الجماعة والمفطر، تصل غالبا إلى قطيعة حادة ونبذ للمفطر في حالة اصراراه على تسفيه مقدسات الجماعة بشكل علني.
إن الصوم في المجتمع الجزائري ليس مجرد فريضة دينية بمقدار ما هو طقس اجتماعي ذو دلالات رمزية عميقة مرتبطة بالهوية وبالانتماء، رغم أن سطوة الكثير من الطقوس الاجتماعية على النفوس، قد بدأت تخف وتتلاشيء تدريجيا نتجية التحولات العميقة التي عرفها المجتمع خلال العشريات الاخيرة، خاصة في المدن وضواحيها حيث نشهد تفتيت مستمتر للأسرة الممتدة التي تعتبر حاملة لقيم ومعاني تلك الطقوس وحارسة لها.
يبقى الصوم في المجتمع الجزائري ومجتمعات المغرب العربي عموما هو القيمة الإسلامية الأعلى شأنا، واكثر ما يتمسك به الفرد والجماعة من قيم الدين الإسلامي الحنيف، على عكس المجتمعات المشرقية التي تقدم الصلاة على الصوم.

الجمعة، أغسطس 02، 2013

العلمانية في الشارع

أتصور أن الإسلاميين، وقد أخذتهم الدهشة، يقولون فيما بينهم: أيعقل أن يخرج من بين ظهرانينا كل هؤلاء الكفار، يقصدون العلمانيين.
إن مزية الربيع العربي، إذا كانت له مزية، أنه اظهر للمواطن العادي الذي كان مأخوذا بالدعاية الإسلاموية ضد الخصوم، وخاصة العلمانيين، أن هناك فئات واسعة من المواطنين يتبنون الفكر العلماني، دون أن يكونوا كفارا وأعداء للدين كما صورهم خصومهم الملتحون، إنهم مواطنون يصلون معهم بالجامع، ويجلسون معهم في المقاهي ويركبون وإياهم نفس حافلات النقل العمومي، لكن رؤيتهم لطبيعة النظام السياسي تختلف، وهم يعبرون عن تلك الرؤية في اللحظة الحرجة التي تمر بها بعض الدول العربية، خاصة في مصر وتونس، حيث التيار العلماني صار قادرا على الحشد في الشارع بشكل يساوي أو يفوق قدرة الإسلاميين، وهذا تحول كبير في علاقة العلمانيين بالجماهير، حيث أنه ولوقت قريب كان الشارع حكرا على الإسلاميين، وعلى الدولة التي تنظم المظاهرات العفوية لتدعيم مواقفها، لكن حالة المخاض السياسي والاجتماعي التي تمر بها دول الربيع العربي، مكن العلمانيين من طرح أنفسهم جماهيريا بشكل غير مسبوق بدل الاكتفاء بالتنظيرات النخبوية المفصولة عن الواقع، والنزول للشارع بشكل كشف الوجه الحقيقي للعلمانية كمطلب سياسي واجتماعي لا يعني بالضرورة التعارض مع الدين، أو تسفيه معتقدات المؤمنين، كما كان يصورهم خصومهم الإسلاميون.
إن هذا التحول المهم، سيعمل بكل تأكيد على فتح المجال واسعا أمام العلمانية غير المتطرفة، وأمام العلمانيين الحقيقيين الحاملين لرؤى ومشاريع دولة، لا العلمانيين الذين لا زاد لهم سوى تسفيه وسب الخصوم، والتجني على المعتقدات الدينية بإلصاق سبب التخلف بها، مما نتج عنه رفض لكل ما يمت للشريعة بصلة، بشكل شوه صورة العلمانية الحقة في نظر المجتمع.
لهذا فالمسؤولية الملقاة على عاتق من يؤمنون بالعلمانية كنظام سياسي واجتماعي  يضم الدين في جوهره دون أن يتجاوزه بالدعوة لإلغاءه، تكمن أساسا في تدعيم التواصل الحاصل بين العلمانيين وباقي فئات الشعب من خلال بسط جوهر العلمانية، ونفي التعارض المزعوم بينها وبين الدين من جهة، والعمل على تحييد العناصر العلمانية المتطرفة التي تسيء للفكرة أكثر مما تخدمها بسبب حصرها للعلمانية في الجانب المضاد للدين بشكل جعل خصوم العلمانية ينجحون في تكفير وتفسيق العلمانيين في نظر فئات واسعة من المواطنين عن طريق إلصاق تهمة العداء للدين بهم. 

الثلاثاء، يوليو 30، 2013

إسلامية، لا شرقية ولا غربية


"إسلامية إسلامية لا شرقية ولا غربية ": الشعار الأبرز للإخوان ومناصريهم من التيارات الدينية التي وجدت في وصول رئيس ذو توجه ومرجعية إسلامية لحكم بلد مركزي كمصر فرصة لبعث مشاريع الدولة الدينية ودولة الخلافة وتطبيق الشريعة؛ المشاريع التي ظلت لسنوات طويلة حبيسة أدبيات منظري هذه التيارات، وحبيسة صدور المؤمنين بها، الذين صبروا على تحقيق الحلم الموعود، أولئك الموعودين بالحور العين لقاء جهادهم وصبرهم وحملهم لمشروع الدولة الإسلامية على الاكتاف وبالدماء.
لكن بعيدا عن الشعارات مالمقصود بـ: إسلامية إسلامية لا شرقية ولا غربية؟
تكرار إسلامية دليل توكيد،  هو في الوقت نفسه نفي للإستغراق في إحدى الصفتين التاليتين، كما انه، وبالقدر نفسه، نفي لإمكانية الجمع بين التناقض الذي تبرزه بجلاء  "الشرقية" و"الغربية"، والتوليف بين مزايا هذه ومزايا تلك بغية تبنيها كبديل عن الأحادية.
الإسلامية بهذا الشكل التوكيدي تعني نفي ما دونها نفيا تاما، مع نفي لكل ما ترتب تاريخيا عن الانتساب لإحدى الصفتين السابقتين، أو للتأثيرات الناتجة عن التوليف أو التلفيق الذي حدث بين قيم إسلامية وقيم وافدة ( شرقية وغربية )، فالإسلامية بالمعنى المرفوع في الشعار الإخواني، تعني هدم كل ما كان خلال قرون التثاقف الطويلة مع الشرق والغرب، والعودة  إلى نقطة موغلة في القدم، لا يمكن الإتفاق حول تحديدها بدقة، رغم ان المتفق عليه هو السلف الصالح كمرجعية، دون حسم الإشكالية الناتجة عن ضبابية مفهوم السلف الصالح. مع ان غالبية انصار الإسلانم السياسي يؤكدون على وجوب الاخذ بالمنجزات المادية للشرق والغرب غافلين على أن تلك المنجزات المادية يستحيل فصلها عن قيمها الثقافية. 

الاثنين، يوليو 29، 2013

عنف الدولة وعنف الشارع




ان الدولة في إحدى تعريفاتها هي احتكار العنف الشرعي، والعنف الذي تسلطه الدولة اتجاه مواطنيها لفرض سيطرتها مبرر من زاوية القاون، ومشروع في نظر النظرية السياسية، وذلك، أي الاستعمال الشرعي للعنف، يحدث في كل دول العالم في الغرب كما عندنا، كلما رأى النظام الحاكم الذي يحكم بتفويض من الشعب، أو يفترض فيه ذلك،على أساس أن الشعب هو مصدر السلطة، ضرورة لذلك.
الدولة تفرض هيبتها، وتفرض النظام وسيادة القانون باستعمال حد مقبول من القوة والعنف وهو ما يسمى قانونيا بالعنف الشرعي، لكن ما يحدث في مصر الآن هو انفلات في الوضع العام، إنها حالة لا معيارية حيث ان العنف لم يبق محصورا في يد الدولة، انما تمكنت فئات واسعة من المصريين ( المتظاهرون، البلطجية، الجماعات المسلحة، ذوي المصلحة في الفوضى ) من امتلاك قدر من العنف تقوم بتسلطيه ضد معارضيها أو ضد الدولة ومؤسساتها ( فض اعتصام الاتحادية من طرف شباب الاخوان بالعنف، الهجمات المتتالية ضد قوات الجيش والشرطة، الاشتباكات المتتالية بين المتظاهرين بشكل عنيف يخلف جرحى وقتلى)، وهذا القدر من العنف الموظف بطريقة غير شرعية هو الذي تسعى الدولة لاسترداده باعتباره حقا من حقوقها الحصرية، وهذا ما يتطلب استعمال عنف أكبر من العنف الذي تمتلكه تلك الفئات. وحين يتم القضاءا على كل امكانيات ممارسة العنف من طرف فئات لا تمتلك حق ممارسته، ويعود للدولة وحدها الحق في استعمال العنف الشرعي، ساعتها يمكن المطالبة وبقوة بوضع العصا جانبا، وبوقف كل الممارسات العنيفة في الشارع وضد المعارضين الذين يختلون عن العنف ويقبلون بالحلول السلمية وبالانخراط في العملية السياسية وفق ما تنص عليه القوانين السارية المفعول.

الأحد، يوليو 21، 2013

خواطر عن الكتابة

دور الكتابة أن تعبر بعمق عن هواجسنا، إنها عمل مضني حين تبلغ المرحلة التي تصبح فيها مطلبا للروح الباحثة عن التخلص من ثقل ما يعذبها، وهي مرحلة لا يبلغها إلا قلة قليلة من المثابرين بجهد وبعمق على الفعل الإبداعي.الكتابة التي نستعملها كمروحة في لحظة قيلولة، لا يكتب لها البقاء، ولا التأثير في المتلقي  لأنها غير صادقة، وغير نابعة عن المعاناة التي تجعل الكتابة مجاهدة في كثير من الأحيان لأنها تستبطن أشياء لا تظهر ولا تعطى بيسر.
                                      *****


أؤمن بأن المكتوب بمقدار ما هو ذاتي فهو غير شخصي بمعنى أنه لا يعبر عن تجربة معاشة اجتماعيا بمقدار ما يعبر عن أمور نفسية محضة متعلقة بذات الفرد بما يحسه ويفكر به، دون يعني أن ذلك بالضرورة أن تلك الأفكار والأحاسيس تنعكس بشكل مباشر على سلوكه الاجتماعي.

الأربعاء، يوليو 17، 2013

جيجل الثقافية



يمكن الحديث عن مثقفين جواجلة بشكل يجعلنا نتيه في حصر عددهم، وعلى عكس كثرة المثقفين الجواجلة، يصعب الحديث عن ثقافة جيجلية، خاصة وذات ملامح مميزة، ولا حتى عن استلهام لجيجل كفضاء ثقافي، فجيجل ليست قسنطينة التي ألهمت الروائيين بجسورها وأزقتها وعبق تاريخ، ولا تلمسان التي تغنى بها الشعراء واليها حج طلاب العلم، هي أيضا ليست العاصمة، ولا غرداية بنمطها الاجتماعي المغاير وبعزابتها المتميزة ومدارسها العلمية، ولا واد سوف بمقاهيها الأدبية وشعرائها المجهولين، إنها أيضا ليست الجلفة بنشاطها الثقافي الدؤوب الذي ظل يسهم في تزويد الحقل الثقافي الجزائري أسماء ثقافية جديدة كل مرة، فجيجل مدينة جميلة سياحيا وفاتنة، ولكنها غير ملهمة ثقافيا، لأنها بائسة الحضور الثقافي، ربما هذا البؤس هو الذي يبرر الهجرة الثقافية المرفوقة بالتنكر للانتماء الجيجلي، حيث العدد الكبير من المثقفين ذوو الأصول الجيجلية، لا يذكرونها بالخير، وغالبا لا يذكرونها بتاتا، وكأنهم يريدون أن ينسوا أنهم من هنا، من هذه الأرض التي لم تكتشفهم ولم تنصفهم. يمكن الحديث عن الكثير من المثقفين اللامعين من أصول جيجلية: عبد الحميد بورايو، أبو العيد دودو، عمر مهيبل، السعيد بوطاجين، عيسى لحيلح، محمد الهادي الحسني، جميلة زنير، زهرة ديك....الخ.
لكن هؤلاء جميعا وباستثناء السعيد بوطاجين، لم يكتبوا نصوصا أدبية عن جيجل، وأكثر من هذا غالبا ما لا نجد أي أثر يذكر لجيجل كفضاء جغرافي وحضاري، في نصوصهم، مع العلم أن مرحلة الطفولة، أي مرحلة التكوين النفسي والعاطفي للإنسان غالبا ما يكون لها حضور بارز في الإبداعات الأدبية والفنية، حيث تعد الخزان والمعين الذي لا ينضب والذي يتم الرجوع إليه باستمرار، لكن هذا لم يحدث مع مثقفي جيجل بشكل يجعلنا نتحدث عن المنفردات الإبداعية التي تتميز بها جيجل المدينة وجيجل التاريخ، بنفس الشكل والقدر الذي نتحدث به عن جيجل كمنطقة جذب سياحي. 
فقط السعيد بوطاجين، يشكل استثناءا فريدا، وهو استثناء في الثقافة الجزائرية بعموميتها لأنه يستلهم الثقافة المحلية بمفرداتها وجزئياتها البسيطة ليحيك منها نسيجا إبداعيا متميزا فهو الذي جعل من تكسانة ملهمة لنصوصه وفضاء تدور فيه أحداث قصصه.
يمكن أن نذكر أحمد عاشوري ( من قالمة ) الذي أبهرته جيجل فكتب عنها الكثير من القصائد والمجموعات الشعرية: ( أحب جيجل، لا شيء إلا الأزرق في جيجل )، أي أنه استلهمها أدبيا بشكل لم يفعله مثقفوا وأدباء الولاية.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يمكن الحديث عن ركود ثقافي يبرر ما قلناه سابقا من هجرة ثقافية وتنكر للمدينة، حيث أن المسؤولين عن الثقافية هنا غالبا ما يركزون على المناسباتية في التنشيط الثقافي، دون أن يساهموا في خلق فضاءات ثقافية تتسم بالديمومة يستطيع من خلالها المثقف الجيجلي أن يعبر عن نفسه وينمي قدراته من خلال التلاقح الفكري، حتى الجامعة لا تقوم بأي دور ثقافي يذكر، على عكس ما نجده في بعض الجامعات أخرى، حيث التنشيط الثقافي عادة حميدة لدى بعض الأقسام خاصة قسم اللغة والأدب العربي وهو ما لا يحدث بجامعة جيجل التي بدأت واعدة في هذا المجال لكن سرعان ما دخلت في نمط تنشيط مناسباتي أكثر منه فعل ثقافي واعي وهادف.
هذه بعض الملاحظات الجزئية حول جيجل الثقافية كما أراها، على أن أحاول لاحقا الكتابة بشكل جزئي عن بعض المميزات الثقافية للولاية وكذا تقديم بورتريهات موجزة لبعض مثقفي جيجل.

أساطير جزائرية: الرجلة

ليست الرجلة ذكورة ولا شهامة خلق يتجلى في حمية دم وأنفة: هي النيف عندنا؛ وهي نصرة الأهل والعشيرة ولو على ظلم يقترفونه، إنها ليست فحولة الذكر التي تحيل على قدرات بيولوجية بالأساس ولا هي القوة ولا الشجاعة، ليس المتصف بالرجلة عندنا شبيه قبضايات حواري الشام العتيقة ولا هو فتوة الحارة  لدى المصريين، فالرجلة عندنا ليست حكرا على فئة من الرجال الأشداء الذين ينذرون قوتهم للدفاع عن المستضعفين أو للتسلط عليهم، كما أنها ليست صفة لصيقة بالرجال رغم أنها تنحت اسمها من الرجل وتستعير صفاتها الغالبة من صفات رجالية نبيلة، لكن عندنا فقط قد تتسم المرأة بالرجلة والمرأة الشجاعة الثابتة على الحق عندنا هي الفحلة وهي عند إخواننا المشارقة أخت الرجال، والفحلة مالكة لصفات الرجلة، رغم أن الفحولة مفهوم رجالي بامتياز وبيولوجي أساسا يحيل على الخصب الجنسي، لكنه ينزاح ليطلق على المرأة المتصفة بصفات معنوية مفارقة لمعاني السكينة والخضوع والسلبية التي تتسم بها النساء في مجتمع يغيب المرأة عن واجهة الفعل.
تنتشر الرجلة كإدعاء، أكثر مما توجد كحالة، إنها استدعاء لصفات غائبة وتمثل تمثيلي لها، تمثل لا يصمد كثيرا أمام متطلبات الواقع وتحدياته، لهذا غالبا ما يكون مدعي الرجلة موضوع سخرية، لأن تمثيله مفضوح، وادعاءاته هشة، رغم أن محيطه غالبا ما يشجعه على خلق مثل تلك الادعاءات والتمادي فيها، وغالبا ما يكون المحيط الذي تزدهر فيه الرجلة هو الأحياء الشعبية، الحومة والكارثي، أو بين الشلل وجماعات الرفاق التي تسمح سيرورة تكونها بخلق الفرد الرجلوي وتعزيز ميولاته الرجلوية في ظل الترحيب المتزايد بها، واعتباره سند وحاميا لباقي أفراد الجماعة.

وإذا كانت الرجلة في وقتنا الحاضر إدعاء أكثر منها حالة ماثلة للعيان، فإنها، وفي ظل افتقاد النموذج الأصلي الذي يمكن القياس عليه، تبقى حالة اجتهاد من طرف مدعيها، وحين نقول أنها حالة ادعاء فالواقع يقول أنها ليست ادعاء كاملا، لأن من يدعي الرجلة غالبا ما يتكيء على صفات أساسية كالشجاعة والقوة التي يعد توفر حد أدنى منها أساسيا لأي نزعة رجلوية لدى أفراد معينين، رغم أن تلك النزعات غالبا ما تنتكس بعد فترة قصيرة نتيجة افتقاد الصفات المدعاة للأصالة، وحالة الانتكاس التي تتمثل غالبا في في التحول من حالة الرجلة التي قد تعني تقريبا: شجاعة وقوة وشهامة موظفة في خدمة ما يرى صاحبه انه حق. إلى حالة شبيهة بالفهلوة، وشخصية الفهلوي تشبه تقريبا ما نصفه عندنا كجزائريين بالبلاعطي، أي من يوظف قدراته الكلامية في تحصيل منافع دنيوية بغض النظر عن كون ما يستخلصه بفضل براعته الكلامية حق له أم لا، وهذا التحول المهم في شخصية الفرد الرجلوي هو ما وصفه مزراق علواش بتهكم وبسخرية مريرة في فيلم عمر قاتلاتو الرجلة.  

conter