الثلاثاء، ديسمبر 04، 2012

المرأة التي نتخيلها تتعرى فوق الورق



        تكتب المرأة العربية بالفياغرا حين تستدعي حرية لا تمتلكها في واقعها، ولا يقرها لها مجتمعها، والرجل العربي، مهما أدعى التحرر، يريدها أن تتعرى له فوق الورق، إنه يبحث عن "قحبة" تقول له " هيت لك "، توقظ تهويماته الجنسية، تشعلها، وتشعشعها، بين الحرف والفاصلة، يبحث الرجل عن آهة أنثى، وعن غمزة عيون كحيلة، وشفاه تتزين بالأحمر. لهذا فكل كاتبة عربية تقارب الجسد، وتستحضر الجنس في نصوصها، يراها الرجل العربي، القارئ العادي، أو المثقف والناقد، مجرد فتاة ملهى تمارس الستريبتزيم على عمود الشعر، أو تتلوى كأفعى هندية فوق البساطات المخملية، وهو لا يرغب أن يجد منها غير هذا، فهي في نظرته المسبقة ناقصة العقل والدين التي لا تأتي في الأدب بجديد ولا في توليد الأفكار بلامعة. المرأة الكاتبة في نظرنا نحن الرجال الباحثين عن متعة حسية في نصوصها، ليست، مهما أبدعت، سوى صور وخيالات تشتهى ليلا، هي شهرزاد الليالي التي لا تنتهي، بعد أن تفرغ من الحكي المباح تتعرى فوق سرير الرغبة مترجمة سحر الحكي إلى سحر آخر؛ يعرفه جسدان يجمعهما العري فوق الفراش.
        لم نستطع رغم تسارع التحديث القسري الذي فرض علينا منذ التقاءنا الحضاري بالغرب، أن نتخلص من القيم اللصيقة بروحنا البدوية، ولعل أهم تلك القيم وأكثرها تأثيرا في تحديد سلوكياتنا اليومية وتوجيه أفكارنا وما يصدر عنا من أقوال، قيمة الشرف بمعناه المادي المرتبط بالمرأة، وبجسدها تحديدا، إن الشرف الحريمي قيمة مركزية في فكرنا، وهو موضوع صراع بين العلمانيين والإسلاميين، مازالت فيه الغلبة لصالح التيار الأكثر انغلاقا على الذات والأكثر احتماء بالقيم الجوهرية في تكويننا الممتد على مدار 14 قرنا. وأعتقد أنه ورغم التفتيح القسري للذهنيات الذي تمارسه وسائل الاتصال الحديثة على الأجيال العربية الصاعدة، ستضل الغلبة لصالح التمسك بهذه القيم الاحتمائية التي لا يزال الفرد العربي ينظر إليها كمرجعية يبرزها في لحظات التوتر/ الإهتزاز القيمي الذي يستشعره في لحظات التصادم مع فكر أو قيم مغايرة، كتوكيد على الأصالة والهوية والتجدر الحضاري.
        إننا، وقد أخلفنا موعدنا مع التقدم، وتنكرنا للحداثة التي نافح عنها رواد النهضة منذ قرن مضى، لا نملك، كتوكيد على حضورنا في الأزمة الحديثة، سوى القيم المعنوية التي تجعلنا نتمايز عن الآخر، تمايزا نراه لصالحنا، وخصوصا ونحن لا نكف عن اتهام ذلك الآخر، الذي تجاوزنا بتقدمه المادي، بالخواء الروحي، مقابل امتلائنا بالدين الحق، وبالإباحية والإنحلال والتفسخ الخلقي، مقابل ما نمتلكه نحن كأمة يتربى أبناؤها في المدارس على مقولة / مسلمة: " إنما الأمم الأخلاق ". وهي قيم دفاعية/ احتمائية تلجأ إليها الذات المهزومة لتطبيب جرحها النرجيسي ولتجاوز إحساسها العميق بالتخلف والدونية والذيلية في قائمة بناة صرح الأزمنة الحديثة.
        ونظرا للدور الكبير والخطير، والحضور المنقطع النظير للأخلاق المرتبطة بالشرف، المرتبط، أيضا، وتحديدا بالمرأة، في واقعنا، وتحول، هذه القيمة كما أسلفت إلى موضوع صراع بين نموذجيين فكريين وتصوريين متابينين لمشروع المجتمع. فإن أي تعدي سافر على هذه القيمة الجوهرية يعرض من يتجرؤ عليه إلى النبذ والتهميش، وخصوصا حين يأتي هذا التعدي من طرف المرأة: حاملة القيمة. فإنه، وبسبب تصورنا للمرأة كموضوع لا كذات قادرة على الفعل المستقل، فإنه يستدعي منا مباشرة استظهار قيمنا الدفاعية البارعة في توجيه التهم الجاهزة، وإلصاق التيكيهات بكل من يجرؤ على قيمنا غير المرنة وغير القابلة للمساس بها. غالبا ما تكون آلية عمل هذه القيم الدفاعية فعالة لأنها تمس جوهر حتى من يتعدى عليها، إن استضظهارها الجمعي والعالي الصوت بشكل يشبه النفير الاستدفاعي، يحرجه، ويوقظ المجتمع الساكن فيه بشكل يجعله  يشعر بأنه معني بشكل من الأشكال بتلك القيم التي قد تكون له عليها تحفظات لكنه عاجز عن التملص منها تماما.
        إن العجز الذي يجد الفرد نفسه إزاءه في مثل هكذا موقف ما هو إلا نتيجة لفاعلية آليات الضبط الاجتماعي التي مازال يمتلكها المجتمع العربي المعزز بثقافة أبوية لم تضعفها بعد التغيرات المتسارعة من حولنا وفي واقعنا، وهذا العجز الفردي عن الدفاع عن الخروج على الجماعة وقيمها يبدو أكثر تجليا إذا ارتبط بالمرأة، وبالمرأة الكاتبة موضوع مبتدأ حديثنا. إنها وإن كانت سليطة اللسان / القلم، فهي أيضا، وفي تصورنا الجمعي، المهيضة الجناح، المنكسرة أو القابلة للإنكسار تحت ضغط مجتمع " يقحبها " لمجرد أنها كتبت عن لحظة حميمية أحستها اتجاه جسدها، يفعل المجتمع ذلك اتجاه المرأة الكاتبة عن طريق النقد الذكوري الذي غالبا ما يستل مشرط الفضيلة والشرف حين يتعامل مع النصوص الأنثوية، وعن طريق القراءة المبتسرة والمشيئة التي تفرغ كل نص أنثوي من روحه ومن عمقه، لتبحث فقط عن العشق والجسد داخله، لهذا فغالبا ما تبدأ الكاتبة العربية ثائرة، أو واعدة بثورة، لكنها تنتهي زوجة بارعة في غسل الصحون، أو كاتبة نصائح اجتماعية في شكل نصوص أدبية، لهذا فإن عملية القولبة التي تتعرض لها المرأة الكاتبة والتي يبرع فيها المجتمع، تبدأ كما كتبت سهيلة بورزق: "  تبدأ لدى الرجل بالغيرة لتنتهي بإعدام جميع نصوص النساء بذريعة الشرف، فالشرف عندنا غصّة لا تنتهي وإن انقرضنا "، إنه قيمتنا الجوهرية.

الجمعة، نوفمبر 16، 2012

جيوبنا هي التي تفعل


خلال سنوات من التواجد عبر الفايسبوك، كمراقب غالبا، وجدت أن الكثير من المثقفين الجزائريين ( نقول مثقفين مجازا) الذين احترفوا سب وشتم النظام صبح مساء، سرعان ما تخف حدة لهجتهم، كإنذار بالتحول، ثم كمرحلة ثانية يلوذون بالصمت السياسي منشغلين بالكثير من الأمور التي تفتحها أمامهم وضعيتهم كمثقفين إنتاجهم الوحيد هو الكلام،  لينقلبوا لمدافعين عن النظام أو مبررين له ولممارساته في مرحلة ثالثة من مراحل تحولهم الإنبطاحي. يحدث هذا الإنقلاب غالبا بمجرد حصول الواحد منهم على وظيفة عند الدولة، أي مصدر رزق حكومي.
لهذا أقول إن الثورة في الجزائر بعيدة جدا، بما أن الدولة الجزائرية بنموذجها الحالي الذي كان اختيارا في مؤتمر طرابلس، وكرسه نظام بومدين ليستمر بعده دون تغير جوهري، وهو نموذج دولة الرعاية الإلهية التي توفر الرزق لمواطنين لا يرون أمنهم الاقتصادي خارج إطار وظيفة تضمنها الدولة وقطاعها العام. وطالما بقيت الدولة قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية اتجاه مواطنيها، فهي في مأمن من غضب مواطنيها الفعلي وثورتهم الفعلية. والدولة الجزائرية الان وأكثر من أي وقت مضى قادرة على شراء السلم الاجتماعي، وتأجيل كل التوترات الاجتماعية بما تنفقه على موظفين لا ينتجون شيئا، وعلى شبه موظفين يحشرون في مؤسسات الدولة تحت مسمى عقود ما قبل التشغيل، وعلى مشاريع لونساج الغير اقتصادية في مجملها ....
لماذا تتحدثون عن الثورة إذن، فمن يأكل الغلة ويسب الملة منبوذ ومحتقر في عرفنا الاجتماعي، وهو غير مؤهل للقيام بثورة فعلية.


الأربعاء، أكتوبر 31، 2012

سوريا التي في خاطري


لنا كجزائريين حنين تاريخي إلى الشام، فهي الملاذ الذي آوى الأمير عبد القادر ومن معه من الجزائريين
المهزومين أمام جيش فرنسا الامبريالي، وهناك عاش أميرنا متصوفا في رحاب الشام وأهلها وجغرافيتها وروحانيتها، وهناك أسس للتسامح بين طوائف الشام، المسحيين والمسلمين حيث صار الضيف حكما بين أهل الدار. من 
بعده خلف خلف تكاثروا في البلاد وتوالدت عائلات الجزائري  المنحدرة من صلب الأمير عبد القادر ورفاقه الذين استوطنوا الشام ودفنوا في أرضها، ظلت تلك العائلات بالشام تربط وطنين باعدت بينهما الجغرافيا وانفتحت لبعضهما القلوب وامتدت بينهما روح العروبة والقومية؛ القومية التي كانت عشرية السبعينات محضنتها التاريخية وأوج انبعاثها لدينا كجزائريين وكانت سوريا البعث تنحاز لقومية عربية برؤية خاصة صاغتها إيديولوجية البعث التي تحلم بأمة عربية واحدة ذات تاريخ مجيد، رؤية لم تلتقي كثيرا مع إيديولوجية النظام الجزائري الذي وإن وقف موقفا مؤيدا للأفكار القومية غير أنه كان يسعى جاهدا لبناء الدولة القطرية التي لا ترى في الامتداد العربي الإسلامي سوى عنصر من عناصر الهوية الوطنية ذات النزعة الجزائريانية المغرقة في تأكيدها على الدولة القطرية، لكن هذا التباعد النسبي في الرؤى بين بعث سوريا وجبهة تحرير الجزائر، ومن خلفهما نظامين شديدي التفرد في قدرتهما على دولنة المجتمع وتأميمه لصالح الدولة ونظامها الحاكم الذي يشكل الحزب أداته وواجهته وصائغ أيديولوجيته، لم يباعد بين القلوب المفتوحة استقبال الأخر القريب.
  صحيح اختلفت مصائر الدولتين والنضامين بداية من نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج الأولى، لكن ظلت الروابط بين الشعبين متينة لم تغيرها رؤى الساسة ومصائر السياسة، فقد ظلت الشام وشوارعها وأسواقها العتيقة محج التجار الجزائريين الباحثين عن منتجات أنيقة  وذات سمعة نسائية طيبة، وظلت نساء الشام حبيبات متخيلات مرتجاة، ومعشوقات تهف لهن قلوب الجزائريين الذي اكتشفوا جمال الشاميات عبر المسلسلات السورية التي غزت التلفزيون الجزائري والفضائيات العربية بداية من أواسط التسعينات، لتعيد صياغة الذوق الفني وتعمق الإحساس بالدراما كفن وكرسالة وقضية، بعد أن ابتذلته كثيرا الدراما المصرية التي تعمقت أزمتها في نفس الفترة التي بزغ فيها نجم الدراما السورية.
 لقد كانت سوريا وإلى غاية الشهور الأخيرة، قبلة القلوب والعيون الجزائرية، وقبلة العقول أيضا بالنسبة للاكادميين الجزائريين الذي كانت سوريا وجهتهم المفضلة. فهل ستبقى كذلك بعد أن ينقشع غبار الحرب الطاحنة الدائرة بين بعث سوريا ووهابيي السعودية وقطر؟؟؟

الأحد، أغسطس 26، 2012

حوار فايسبوكي حول التقدم والحرية


هي:
o   هناك نسق فكري إذا فرض على مجتمع معين قد يقوده للتقدم. سأخبرك بمقارنة بسيطة بين اليابان ونحن
o        نكتشف كيف نجحت نخبتهم في فرض نسق قسري
o        أصبح معه اليابانيون جميعا بنفس السلوك والعادة

هو:

o        الأمر غير مرتبط بالنسق القسري، كما تسمينه، تماما
o        لأننا لن ننجح في جعل الكل يسلك نفس السلوك ويتبع نفس العادة
o        الأمر فيه قولبة تعادي في جوهرها الحرية والاختلاف
o        والاهم من هذا أن مفهومك هذا معادي لقيم الفردانية
o   أي أن النسق القسري الذي تتحدثين عنه هو فكرة ما قبل حداثية تستخدمه الأنظمة الكليانية في فرض التماثل الاجتماعي الذي يضمن لها الهيمنة ويفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد. فهو فكرة خطيرة حين يقود نحو التماثل في السلوك والعادة كما قدمته في نموذجه الياباني، رغم انه نموذج غير مثبت تاريخيا، فاليابان غير ذلك تماما، لأن المجتمع الياباني مجتمع بدأ ينشد فردانيته بتفرد ملفت، وتلك الفردانية رغم الثقافة الشرقية المهيمنة نسبيا، هي إحدى دعائم التقدم الياباني.

هي:
o        أين يكمن نجاحهم إذن؟

هو:
o   يكمن نجاحهم الأساسي في الإيمان بقيم حداثية مثل قيمة العمل، قيمة الحرية الفردية والأخذ بالتقدم كفكرة، التقدم كانت فكرة مركزية في فكر النهضة العربية لكن تم النكوص والارتداد عنها لاحقا، خصوصا بعد نيل الدول العربية لاستقلالها، حيث استعيض عنها بفكرة التحديث الذي يركز على الجانب المادي، مع بقاء البنية الاجتماعية متخلفة وبدائية، أي رافضة للتحديث القسري الذي أرادته بعض النخب الحاكمة ( مصر، الجزائر ).

هي:
o        ومن فرض تلك القيم أو زرعها؟

هو:
o        لم تفرض.
o   إنها نتيجة عمل النخب الثقافية على مدى سنوات طويلة، مما أدى بالمجتمع إلى تشرب تلك القيم واد ارجها ضمن نسقه القيمي العام الذي تحدد السلوكات على أساسه.

هي:
o        بعد الحرب لعالمية اتبعت اليابان سياسة الانغلاق وفرضت على شعبها العمل أو الجوع.

هو:
o   نفس الأمر حدث في ألمانيا الغربية تقريبا بعد الحرب ونفسه حدث في الكثير من الدول الطالعة من إنهاك الحرب.

هي:
o        الأمر  كان اختيارا سياسيا.

هو:
o   لكن اليابان قبل الحرب العالمية الثانية كانت قوة يحسب لها حساب أي أن تلك القيم التي ساهمت في نجاح اليابان كانت موجودة في  المجتمع قبل الحرب، فتلك القيم التي بزغت منذ العهد الميجي هي التي مكنت اليابان من التطور قبل الحرب العالمية الثانية، ومن مسارعة التطور بعد الحرب، فالتسارع حالة طبيعية نتيجة التراكم الخبراتي.

هي:
o        بالضبط. هو التراكم والانتقاء.
o   هناك نظرية بيولوجية بذلك، ويمكن تطبيقها على الذات الاجتماعية أو الكيان الاجتماعي في سلم تطوره.

هو:
o        طبعا الداروينية الاجتماعية حققت نجاحات معتبرة في بعض المجتمعات.
o   لكن منع الاختلاف أو التضييق عليه ركيزة أساسية في ما تسمينه بالنسق القسري الذي هو نتيجة عمل السلطة السياسية والنخب السابحة في فلكها أي الفئات المهيمنة وخدامها من المثقفين وصناع القولبة عن طريق توجيه الرأي العام.
o   ونحن إذا أمنا بهذا التوجيه القسري للقيم أو ما تسمينه بالنسق القسري سبيلا للتقدم يعني أننا أمنا بمعاداة الحرية، وبرفض الفردانية، فهو سلاح للقولبة والتنميط في يد الفئات المهيمنة.

هي:
o   في القيم لا يوجد اختلاف كبير هل يمكن أن يوجد اثنان يختلفان حول قيمة العمل أو قيمة الصدق أو قيمة الإخلاص أو ...
o        المبدأ القيمي هو نفسه.

هو:
o        هذه قيم إنسانية.

هي:
o        بالضبط. ذلك ما قصدته بالنسق القسري.

هو:
o   ليست كل القيم إنسانية، فهناك الكثير من القيم المجتمعية التي تصبغ بصبغة المجتمع الذي تنوجد فيه وتتشكل في رحابه. أعطيك مثال عن القيم الإنسانية. قيمة الكرم. قيمة تبدو إنسانية

هي:
o        صح.

هو:
o   لكن تختلف من مجتمع لأخر، مثلا فرد أوروبي يلتقي صديق في الحافلة، أو يقطعان معا تذكرتين للميترو  لا يدفع عنه، كل واحد يدفع ثمن تذكرته. الأمر عكسه في الجزائر مثلا.

هي:
o   كنت سأخبرك بهذا فكل مجتمع يجب أن يؤسس لقيم معينة يحترم فيها الجميع ذلك، ويعمل على تطوير سلمها، هناك قيم إنسانية وقيم اجتماعية مرتبطة بمجتمع معين، فالانضباط هنا ليس نفسه في أوروبا، وتطبيق النسق القسري في إطار مجتمع معين ينمي النزوع نحو احترام القيم التي تحضى بقبول اجتماعي. ومع تطبيق النسق وفرضه يبدأ التطور الاجتماعي ويتغير مفهوم القيمة ذاتها في شكل تطوري

هو:
o   بالعكس مع تطبيقه تبدأ القولبة، وتنميط الفرد، وفتح المجال أمام الفئات المهيمنة لفرض رؤيتها للأشياء، وهذا اخطر ما يهدد الحرية الفردية وما يلحقها من حريات سياسية ودينية، وهذه القولبة لم تحدث في أوربا عصر الأنوار وما بعده، أوروبا التي نتخذها نموذجا للتقدم.


الخميس، يوليو 12، 2012

الدولة وموظفيها وسياسة الشد والجذب


الحكومة الجزائرية بسياستها الغير حكيمة تسبب الكثير من التشنجات الاجتماعية والإحساس بالغبن لدى فئات واسعة من الذين يتقاضون رواتبهم من  خزينة الدولة، فرفع الأجور بشكل غير مدروس للفئات الأكثر احتجاجا ومطلبية جعل بقية الفئات المهنية تلجأ دوما للإحتجاج من أجل تحصيل ما تراه حقا ضائعا، مقارنة بغيرها، وهذا ما خلق حالة طمع متسارعة الوتيرة لدى كل الموظفين عند الحكومة. الأساتذة والمعلمين كانوا السبب الأول في خلق هذه الحالة غير السوية، لأنهم ، رغم جبنهم وخوفهم من الدولة، استطاعوا عن طريق سلاح الإضراب والإحتجاجات رفع رواتبهم بشكل خلق إحساسا كبيرا بالغبن لدى الموظفين الآخرين، وإحساس بالحسد لدى فئات من المواطنين، بعدهم أساتذة التعليم العالي والأطباء، ثم الأسلاك العسكرية والأمنية التي استفادت من رفع الأجور دون إحتجاج، لأنها ذراع وعصا الدولة. والنتيجة لا أحد راض، لأن زيادة الأجور امتصها ارتفاع الأسعار، والضحية الأكبر في عملية الجذب والشد بين الدولة وموظفيها هو المواطن الذي ليس له دخل قار أو دخله محدود، فهو يتحمل الزيادة في الأسعار دون أن يحصل على زيادة في راتب لا يملكه أصلا. ولأن عبقرية المسؤولين الجزائريين لا تتفتق إلا لتفتك بالسلم الإجتماعي فقد كانت الرغبة في تصفية سلك الحرس البلدي بإدماج بعضهم - صغار السن وذوي الكفاءات - في الأسلاك الأمنية الأخرى، خصوصا سلك الشرطة، وإحالة بعضهم الآخر على التقاعد المسبق بمعاش مخجل، سببا في شعور البقية بالخطر، مما دفعهم نحو التحرك الجماعي، الذي كانت نتيجته المخجلة للدولة الجزائرية ما حدث مؤخرا من مشادات عنيفة بين  أعوان مكافحة الشغب وأعوان الحرس البلدي المحتجين.
          هذا التحرك خطير في دلالته، لأنه في حالة ما إذا نجح، واستطاع أعوان الحرس البلدي تحسين رواتبهم وتحقيق مطالبهم الأخرى، سيشجع أسلاك أمنية أخرى، الشرطة خاصة، على الإحتجاج لأجل تحصيل ما يرونه حقوقهم الضائعة أيضا، فغالبية أعوان الشرطة، خصوصا  الفئات الدنيا منهم يعانون من إحساس رهيب بالغبن والضيم الذي يعانونه، فهم  يعملون كثيرا في ظروف سيئة للغاية ويحصلون على رواتب زهيدة، مقارنة برواتب الأسلاك العسكرية المختلفة، أو حتى مقارنة برواتب المعلمين مثلا.
إن هذه السياسة التي تتبعها الحكومة الجزائرية فيما يتعلق بتحسين الوضع الإجتماعي لموظفيها، هي سياسة خطيرة على السلم الإجتماعي، لأنها ليست سياسة بالمعنى المتعارف عليه للسياسات الحكومية، إنما هي مجرد رد فعل على الإحتجاجات المطلبية، وشراء للسلم الإجتماعي، ولو مؤقتا، مما رسخ في ذهن المواطن الجزائري فكرة أن ما يراه حقا له لا يؤخذ إلا بالقوة، أي بالإحتجاج والإضرابات وقطع الطرق العامة، وذلك نتيجة ضعف الدولة أمام هذه الإحتجاجات واستسلامها في النهاية، رغم ما تظهره من رفض وحزم في بداية الإحتجاجات، لكن نفس المحتجين غالبا ما يكون أطول من نفس الحكومة، وبما أن هذه المطالبات الفئوية التي تتكاثر وتتزايد بشكل مطرد لدى غالبية الفئات المهنية المرتبطة أجورها بشكل مباشر بخزينة الدولة، لم تتحول لمطالب ذات صبغة سياسية واكتفت، لحد الآن بالجانب الاجتماعي للمطالب، فالنظام الجزائري لا يرى فيها خطورة على " استقراره "، وبما أن خزينة الدولة تسمح بإسكات هذه الإحتجات بزيادات في الرواتب، فهو، أي النظام الجزائري، وعن طريق الحكومة، يلجا دوما للحل السحري: الزيادة في الأجور.
ولكن هل الزيادة في الأجور هي الحل؟، وهل تستطيع الخزينة العمومية تحمل كل هذه النفقات في حالة تراجع أسعار البترول، وهو ما يحدث الآن، بشكل متسارع. لا اعتقد ذلك لأن الزيادة في الأجور لم يرافقها تحسن في المستوى المعيشي، بقدر ما رافقها زيادة في أسعار المواد الأساسية، وفي أسعار العقار، وفي أسعار الكراء وغيرها، وهذه الزيادات الرهيبة هي التي تجعل فئات واسعة من أفراد المجتمع عاجزة تماما عن العيش بكرامة، خصوصا فئات البطالين ومعدومي الدخل وذوي الدخل المحدود الذين تتراكم على كاهلهم مطالب الحياة بشكل لم يعودوا قادرين على تحمله. وبالتالي فإن الإحتجاجات ذات المطالب الإجتماعية التي استطاعت الحكومة إسكاتها بزيادة في الأجور، أي بشرائها، ستخلف احتجاجات تتجاوز المطالب الاجتماعية إلى المطالب السياسية المتعلقة بتغيير نظام عجز ويعجز باستمرار عن تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن هذه المرة ستكون الإحتجاجات من طرف فئات لا تملك ما تفاوض عليه، أي لا يمكن شراؤها.  

conter