الخميس، يونيو 24، 2010

المغامرة الفاشلة


مرت ثلاث سنوات منذ بدأت التدوين، انقطعت طوال الأشهر الستة الأخيرة دون سبب معين، إنما كان مجرد ملل، ملل شبيه بحالات الأرق التي تنتابنا في بعض الليالي، فنظل عالقين، لا نستطيع النوم وفي الوقت نفسه لا نستطيع القيام من الفراش لفعل شيء آخر أملا في إغفاءة قد تأتي في أية لحظة وتنقذنا من برزخ العذاب الذي نحن فيه.

كان التدوين بالنسبة لي مغامرة جميلة ومفيدة في بعض جوانبها رغم أنها مغامرة فاشلة في نهاية المطاف لأنها لم تنتج سوى تعب ينضاف إلى متاعب الحياة الأخرى؛ جميلة لأنها سمحت لي بالتعرف على أناس ما كنت لأتعرف عليهم بعيدا عن هذا الفضاء، ومفيدة لأن مداومة الكتابة تطور من قدراتنا ومهاراتنا الذهنية، وفاشلة لأن التدوين العربي يقع في نفس الأخطاء التي نشأ أصلا من أجل تجاوزها وتصحيحها إن أمكن، في الفضاء الافتراضي على الأقل، فقد تحول التدوين في الفترة الأخيرة - وبنسبة كبيرة – إلى مجرد ظواهر لفظية، صراخ، تنديد وشجب، وحرب الكل ضد الكل من اجل لا شيء.

فهل نستمر في شتم بعضنا عبر المدونات كما يحدث بين الكثير من المدونين، بلا سبب مقنع في معظم من الأحيان، أم نشتغل على ما نفكر فيه ونكتبه بهدوء، بعيدا عن أسطورة التفاعل والتأثير التي شغلتنا كثيرا في الفترة الماضية من التدوين، وننشر ما نحسه ونفكر فيه فقط، فإن كان يستحق أن يقرأ سيجد من يقرؤه وإن كان تافها كمعظم ما كتبناه خلال سنوات سيجعلنا نحن أنفسنا نسخر منه لاحقا ونتحسر على الوقت الذي ضيعناه والجهد الذي بدلناه في خربشة الكلمات السخيفة والتافهة.

الثلاثاء، يونيو 22، 2010

الأنثوي في الخطاب النقدي العربي المعاصر، الغذامي نموذجا


لم نستعمل هنا مصطلح النقد النسوي العربي، لأن هذا المصطلح يحيل على المجهودات النقدية التي بذلتها كاتبات عربيات في مقاربة وضع المرأة العربية داخل النصوص المنتجة من جهة، وداخل الواقع الاجتماعي من جهة ثانية، إنما يندرج الجهد المبذول هنا على استقراء حضور الأنثوي داخل التجربة النقدية العربية المعاصرة، وهو حضور – رغم ظهوره المتأخر – متفرد وجريء، ويخبر عن مقدمات واعدة لممارسة نقدية جادة وعميقة وهادفة للتغيير ، أي أنه نقد " مناضل " يشتغل على النص لتغيير الواقع.

وحين نختار الدكتور " عبد الله الغذامي " نموذجا لهذا النقد الواعد فليس القصد من وراء هذا الاختيار القفز على الجهود الكثيرة التي بذلتها كاتبات عربيات على مدار عقود من الزمن وتهميشها بالسكوت عنها – أي مجهودات الكاتبات العربيات في مجال النقد النسوي – إنما مشروعية الاختيار تنبع من النص المنتج ذاته سواء كان مؤلفه رجلا أو امرأة، ونصوص الغذامي التي باشر الاشتغال عليها منذ ثمانينات القرن الماضي والتي كانت المرأة / الأنثى هي نقطتها المركزية، نصوص جادة وعميقة ومتفردة بجرأتها وبمنهجها أيضا، وهذا ما لا نجده عند الكثير من الكاتبات النسويات العربيات على غرار "نوال السعداوي " – كأبرز ناقدة نسوية عربية - التي لم ينكر الغذامي نفسه فضلها عليه في توجيه اهتماماته نحو موضوع المرأة داخل النسق الثقافي العربي، نوال السعداوي التي وصفها " جورج طرابيشي " يوما بأنها أنثى ضد الأنوثة، اشتغلت في حقبة السبعينات والثمانينات على صياغة خطاب نسوي لقي رواجا – ولا زال – على حساب الكثير من الخطابات التي قاربت موضوع " النسوي " في الثقافة العربية المعاصرة والتي أنتجها ثلة من الكتاب والباحثين – رجالا ونساء – على غرار "جورج طرابيشي "، " عفيف فراج "، " فاطمة المرنيسي "، " سلوى الخماش " " يمنى العيد " فنوال السعداوي - عرابة الغذامي غير الشرعية – التي تستمد مرجعيتها الفكرية والإيديولوجية من الماركسية والتحليل النفسي – كما الغذامي – لم تكتف بمعالجة الجوانب القيمية والاجتماعية والاقتصادية في موضوع تحرر المرأة، بل قاربت – وهذا الأهم – الجانب الجنسي في علاقة المرأة بالرجل، وكيف يتحول الجنس الذي ما هو إلا علاقة حميمية وخاصة بين رجل وامرأة في لحظة عري إلى أداة استعباد وقمع ضد المرأة من خلال توظيف منحاز لمفهوم الشرف، وتوظيف هذا المفهوم كآلية قمع ضد جسد المرأة؛ فنوال السعداوي عملت على امتداد ثلاث عقود من الزمن على " إرساء خطاب نقدي عربي معاصر، عقلاني عن حقيقة الجنس، وكتبها بدءا من المرأة والجنس ، الأنثى هي الأصل، الرجل والجنس ... كانت عرضة لهجوم وقصف نقدي عنيف "([1])، فهي قد خرجت عن السرب بجرأة غير معهودة؛ ولكن " السعداوي " ليست موضوعنا هنا، رغم أهمية منجزها الفكري في مقاربة وضع المرأة من منظور النقد النسوي الحديث.

نوال السعداوي رغم راديكالية أفكارها، لم تستطع أن تتجاوز في خطاباها النقدي - المنطلق من فكرة الرفض – الكثير من العوائق المنهجية التي تسيّج موضوع شديد الحساسية في الثقافة العربية كموضوع المرأة، لهذا ظل خطابها الفكري - رغم أهميته – قاصرا وعاجزا عن التقدم بالنقد النسوي العربي خطوات إلى الأمام، هذه الخطوات المهمة تطلبت ناقدا آخرا لم ينطلق من دائرة النقد النسوي، إنما ولج موضوع مقاربة وضع المرأة العربية قادما من مجال الدراسات النقدية المتكئة على البنيوية، وهو عبد الله الغذامي الذي يلتقي كثيرا مع النقد النسوي العربي، بل انه قدم لهذا النقد بعده النظري والكثير من الأدوات المنهجية التي يمكن للنقد النسوي العربي أن يستفيد منها في تطوير رؤاه وتعميق تناوله لوضع المرأة داخل النسق الثقافي العربي.

اتكاء على منجزات " كارل ماركس " و " سيغموند فرويد " كمرجعية فكرية، وإسقاطا على واقع عربي يتسم بهيمنة ذكورية مفرطة وسلطة أبوية لا تخفى عن العيان، باشر عبد الله الغذامي مشروعه الفكري، الإشكالي والحداثي، منذ ثمانينيات القرن الماضي، محاولا تعرية وتفكيك آليات عمل " الفحولة العربية " واقعيا ورمزيا.

فالدكتور عبد الله الغذامي المنشغل بوضع المرأة العربية، الحالي والتاريخي، يقدم قراءة عميقة وعاصفة في ذات الوقت لنصوص ميزتها الرئيسة هي النزعة الذكورية المفرطة، ليكتشف فيها آليات ذهنية تقمع وتهمش المرأة وترمي بها إلى فراش المتعة ملغية كينونتها الإنسانية ومجردة إياها من الوعي بذاتها وبالعالم، الوعي الذي يعد ميزة إنسانية بامتياز.

انطلاقا من تصور عربي عام يرى في الرجل عقل وفي المرأة فرج، ويكرس هذه الفكرة على مستوى المخيال الجمعي الذي تكونه نصوص تراثية متعددة أنتجت فكرة / مقولة مؤداها "إن دين النساء وعقولهن في فروجهن"، وعملت على تهميش هؤلاء النسوة الناقصات عقل ودين.

انطلاقا من هذا التصور الذي يسميه الغذامي بثقافة الوهم ينبني مشروع عبد الله الغذامي النقدي المنشغل بالدفاع عن وجود المرأة ككيان اجتماعي، هذا المشروع الفكري الذي يتكئ على حقول معرفية متعددة ومتداخلة تأخذ من تفكيكية جاك دريدا آليات التحليل ومن مدرسة التحليل النفسي منجزاتها حول اللاشعور وتحديدا ما يتعلق بنظرة المرأة لذاتها ونظرة الرجل لها، ومن البنيوية بعضا من مفاهيمها، محاولا تطبيق هذا الكم الهائل من المفاهيم والمعارف على ثقافة عربية لم تدرس بمنهجية علمية بالشكل الكافي، مكتفيا من هذه الثقافة الواهمة بنقطة مركزية تتمثل في تصور هذه الثقافة للمرأة سواء ما انتهجته الثقافة العربية التراثية أو ما أنتجته الثقافة العربية الحديثة.

فالغذامي في كتابه " الكتابة ضد الكتابة " يقوم بدراسة " نماذج المرأة في الفعل الشعري المعاصر " من خلال ثلاث نماذج لثلاث شعراء معاصرين هم : " حسين سرحان، غازي القصيبي، محمد جبر الحربي" مستخلصا من خلال دراسته هذه أن حضور المرأة في شعر هؤلاء الشعراء المعاصرين " كان حضورا أنثويا خالصا إذ صارت بلا إرادة وبلا فعل، وصار الفعل حكرا على الرجل "([2])، وهذه النظرة الذكورية التي استخرجها الغذامي من نماذج شعرية معاصرة ما هي في النهاية إلا انعكاس لترسبات راسخة في اللاوعي الجمعي للإنسان العربي، ترى في المرأة " ناقصة عقل ودين " بالمعنى التحقيري لنقصان العقل والدين، وليس بالمعنى البيولوجي الذي قصد إليه الرسول (ص) الذي يروى عنه حديث بهذا اللفظ، فالمرأة قبل أن تكون ضحية الواقع الاجتماعي فهي ضحية اللغة المنحازة ضدها، وانوجاد المرأة داخل المنظومة اللغوية العربية المنحازة والذكورية هو ما اشتغل عليه عبد الله الغذامي في كتابه " المرأة واللغة " الصادر في جزأين، هذا الكتاب المهم والخطير، انطلق فيه الغذامي من مقولة تراثية لـ " عبد الحميد بين يحي الكاتب " مؤداها " خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا "، فـ " عبد الحميد الكاتب " من خلال هذه المقولة " يعلن عن قسمة ثقافية يأخذ فيها الرجل اخطر ما في اللغة وهو اللفظ بما انه التجسيد العملي للغة والأساس الذي ينبني عليه الوجود الكتابي والوجود الخطابي لها، فاللفظ فحل ( ذكر ) وللمرأة المعنى، لا سيما وان المعنى خاضع وموجه بواسطة اللفظ، وليس للمعنى وجود أو قيمة إلا تحت مظلة اللفظ "([3]) هذه القسمة الذكورية – كما يرى الغذامي – لم تكن سوى تمهيد لقسمة ثانية أكثر خطورة في الثقافة العربية وهي القسمة التي " اخذ فيها الرجل ( الكتابة ) واحتكرها لنفسه وترك للمرأة (الحكي )، وهذا أدى إلى إحكام السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي وعلى التاريخ من خلال كتابة هذا التاريخ بيد من يرى نفسه صانعا للتاريخ"([4]) أي الرجل الذي جعل من اللغة كمنظومة فكرية أداة قمع وتهميش ضد الأنثى، فالرجل كمحتكر لفعل الكتابة ومقرر لما هو حقيقي وما هو مجازي داخل المنظومة اللغوية، جعل من هذه الأخيرة – المنظومة اللغوية – إحدى أدواته الأثيرة في إبراز تفوقه وسيادته المطلقة التي يمارسها دوما ضد المرأة بمنطق فحولي لا يخلو من الأنانية والتعالي.

ونتيجة للقسمة السابقة التي قررها الرجل تتحول المرأة كما يرى الغذامي إلى مجرد موضوعي لغوي يشتغل عليه الرجل ويكتبه استجابة لحاجياته لا غير، ومن ثم – وبما أن المرأة ما هي إلا موضوع لغوي – فالرجل / الكاتب يشكلها ويعيد تشكيلها كما يريد لا كما هي في الواقع، أي يجردها من ذاتها وكينونتها ويشييؤها، وهذا الوضع المأساوي للمرأة داخل منظومة لغوية منحازة، هو ما سعى الغذامي للكشف عنه من خلال النصوص المنتجة ضمن ثقافة الوهم.

هذه الثقافة التي تجبر المرأة ( الموكولة بالحكي ) أن تتجرد من أنوثتها وتسترجل إذا ما أرادت أن تكتب، أي أن تنتج اللفظ الفحل، الذي بواسطته فقط تستطيع أن تنفلت من وضعها كموضوع لغوي لتتحول إلى ذات لغوية، هذه الذات اللغوية التي هي ميزة ذكورية بامتياز.

لا ينكر الغذامي أن المرأة استطاعت أن تكتب وان تنتج اللفظ الفحل وتحمل القلم المذكر لتدين الحضارة والثقافة التي همشتها طويلا، لكن السؤال الذي يطرحه الغذامي ويتوسل الإجابة عليه في كتاب " المرأة واللغة " هو " هل بإمكان المرأة أن تجعل من لغة الآخر لغة أنثوية ...؟"([5]) لا يجيب الغذامي على هذا السؤال في كتابه بصراحة ووضح، إنما يترك الإجابة للثقافة التي هي عدوة المرأة التاريخية، فالثقافة كفعل في الطبيعة وبالتالي كمنتوج ذكوري تجيب على السؤال السابق بنعم، "ولكن بالمعنى السلبي، فالرجل عقل والمرأة جسد، هذا ما تعلن عنه كتابات الفحول مثل سقراط وأفلاطون وداروين وشوبنهور ونيشته والمعري والعقاد "([6])، وهذا النفي سببه اختلاف المرأة عن الرجل، هذا الاختلاف الذي يجعلها رجلا ناقصا لافتقادها أداة الذكورة ( القضيب ) كما يرى فرويد.

اختلاف المرأة عن الرجل لا ينظر له من منظور بيولوجي محض – فليس هنا يكمن الاختلاف – إنما مكمن الاختلاف موجود في التاريخ، والتاريخ كما يرى الغذامي منتج ذكوري مثله مثل الثقافة، فإذا كان الرجل هو من كتب التاريخ وبالتالي فهو صانع هذا التاريخ سواء كان هذا الدور الذكوري المنفرد في صناعة التاريخ حقيقة أم وهما، فاختلاف المرأة عن الرجل الذي يجعلها رجلا ناقصا يكمن أساسا في القدرة على الفعل في التاريخ أي على صناعة التاريخ بدءا، وعلى كتابته لاحقا، هذا الدور الذي لم تقم به المرأة لافتقادها اللفظ ولحرمانها من فعل الكتابة بحسب وصايا الفحول كالمعري وخير الدين بن أبي الثناء في مخطوطته " الإصابة في منع النساء من الكتابة ".

يدرس الغذامي علاقة المرأة باللغة داخل نسق ثقافي يحمل الكثير من المضمرات التي لا تكشف عن نفسها بيسر، ولهذا كان مشروعه الفكري المنحاز ايجابيا للمرأة ككائن مهمش في واقع متخلف يزيد تهميش المرأة في تخلفه، مبنيا أساسا على نقد الأنساق الثقافية المنتجة لآليات القمع والتهميش متخذا " المرأة والعلاقة اللغوية بها كقرينة تعبيرية على نوع الثقافة العربية ومنطقها "([7])، وعند هذه النقطة تحديدا يلتقي منهج الغذامي النقدي " بمنهج النقد النسوي الذي يرى في الثقافة العربية ثقافة بطرياركية، أي ثقافة الفحولة في النهاية "([8])، والغذامي يلتقي أيضا مع منهج النقد النسوي من خلال اشتغاله على " المكون الشعري بعلائقه السيكولوجية والسوسيولوجية، الذي جعل الشعر العربي يتمسك بثقافة الفحل والفحولة خلال تاريخه الطويل "([9])، فهو يقتبس في كتابه " المرأة واللغة " كثيرا من المقولات لكاتبات يعرفن بنزعتهن النسوية، ونحن نقرأ له في الجزء الأول من الكتاب هذه المقولة لمي زيادة: " أسيادنا الرجل .. أقول " أسيادنا " مراعاة بل تحفظا من أن ينقل حديثنا إليهم فيظنون أن النساء يتآمرون عليهم ... أني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون"([10])، طبعا لم يكن اختيار الغذامي لهكذا مقولة اختيارا اعتباطيا بقدر ما كان يهدف من وراءها لإبراز وضع المرأة الدوني اتجاه الرجل واعترافها – ولو بمرارة – بهذه الدونية، كما أن الغذامي في الجزء الثاني من " المرأة واللغة " يقف كثيرا عند " الحكايات المأثورة التي تتعامل مع المؤنث وتجعل التأنيث مركز الحبكة "([11])، والمثال الأبرز الذي يقدمه لنا الغذامي هنا يتمثل في حكايات " ألف ليلة وليلة " كنموذج للحكي الذي هو ميزة أنثوية، فالليالي التي تحكيها شهرزاد ( الأنثى ) يقدمها الغذامي كمثال عن ثقافة الوهم الفحولية التي تحصر المرأة في سرد الحكايات الممتعة التي ترفه عن الرجل ( شهريار ) من خلال الإغراق في تصوير المشاهد والرغبات الجنسية التي تحفل بها حكايات الليالي، لهذا " جاءنا كتاب ( ألف ليلة وليلة ) غفلا من أسم مدونه أو مدونيه لأن الذي دونه كان يؤمن أنه كتاب في المتعة الساذجة فحسب "([12])، فترك للمرأة كي تحكيه بما أنه مجرد كتاب متعوي لا غير.

قدم الغذامي من خلال الكثير من كتبه التي نذكر منها " المرأة واللغة " بجزأيه، " تأنيث القصيدة والقارئ المختلف "، " النقد الثقافي "، " الكتابة ضد الكتابة " قراءة عميقة لوضع المرأة وعلاقاتها داخل ثقافة ذكورية، وما يميز مشروع الغذامي الفكري أنه تعامل " مع المرأة على أنها نسق ثقافي وعلامة ثقافية، يضاف إلى هذا احتفاء ... بالمهمش وبالآخر المختلف الذي مارست عليه السلطة الإقصاء وجعلته خارج المتن الثقافي "([13])، وهو هنا يلتقي – أيضا - مع ناقدات نسويات تميزن بتقديم خطاب مختلف حول وضع المرأة داخل النسق الثقافي العربي المتسم بالذكورية المفرطة على غرار فاطمة المرنيسي ونوال السعداوي، هذه الأخيرة التي يلتقي معها الغذامي أيضا في المرجعية الفكرية التي تتبناها في نقدها وهي المرجعية الماركسية ومدرسة التحليل النفسي الفرويدي.

ينطلق الغذامي في نقده للنسق الثقافي وانوجاد المرأة داخل هذا النسق من اللغة التي هي مؤسسة ذكورية لكشف آليات اشتغالها ضد المرأة داخل الأنساق الثقافية المضمرة، " إن الكشف التفكيكي والتشريحي –نصيا- عن نسق الثقافة الفحولية المضمرة في التراث تقود د.الغذامي إلى ثنائية حادة بين الفحولة والأنوثة، بين الكتابة (الرجل) والمشافهة (الأنثى)، الرجل عقل والأنثى فرج ، هذه الثنائيات التي تنحدر من تصور عام يحكم الوعي الاجتماعي الإنساني حتى اليوم إنما تستند إلى مقولة رجولة الثقافة وأنوثة الطبيعة، على اعتبار أن الثقافة هي فعل في الطبيعة فإن باحثنا يخلص إلى أن اللغة تاريخا وواقعا هي مؤسسة ذكورية، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة "([14]) التي يتمترس خلفها ويوظفها في إبراز – والتأكيد على - تفوق جنسي لم تنتجه الطبيعة.

وهذا الإصرار على جعل اللغة مؤسسة ذكورية، هو ما ساهم – حسب الغذامي – في تغييب المرأة والأنوثة عن النسق الثقافي العربي، وهذا التغييب تحديدا هو ما تناوله الغذامي في كتابه " النقد الثقافي" الذي حمل فيه على بعض المقولات ذات الدلالات النسقية والتي " تربط بين ( اللفظ ) من جهة والأوائل من جهة ثانية، والذكورة من جهة ثالثة "([15])، أي أنها تغيب الأنثى والأنثوي بصفة عامة، وهذا التغييب هو ما نجده في نقد الغذامي الثقافي الذي ركز فيه على استحضار الفحل وإبرازه من خلال الحفر بحثا عن أصوله في النصوص الأولى، حيث أن " مركزية النسق الفحولي قد حددت منهجية الباحث العلمية، وجعلته يتحدث عن الفحولة بوصفها نسقا ثقافيا خلق الشخصية العربية المتشعرنة التي حملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة "([16]).

وبما أن نسق الثقافة العربية العام هو نسق ذكوري – فحولي بتعبير الغذامي – فإن المرأة الراغبة في اختراق النسق وإيجاد مكانة لها تحت شمس الثقافة العربية ما عليها إلا أن تتمثل هذا النسق القيمي إذا أرادت الكتابة، أي أن تسترجل – بتعبير الغذامي دائما -، والنموذج الذي يقدمه الغذامي عن هذه الحالة التي تعتبر اعتداء آخر على المرأة، هو نموذج " نازك الملائكة " التي يقدمها كمثال عن تأنيث القصيدة، وكمثال عن الخضوع الأنثوي لنسق الثقافة الفحولية، هذا الخضوع للمنظومة الفكرية والقيمية للثقافة العربية المؤسسة على مركزية الفحل والفحولة هو الذي جعل هذه الشاعرة المجددة والثائرة على الأشكال الشعرية الكلاسيكية " تطرح ضمن الأفق التجديدي نفسه أفكارا اجتماعية بالية، وحلولا ساذجة سطحية لقضية غاية في الرهافة والتعقيد كقضية المرأة وما يتعلق بمكانتها، وإشكاليات وجودها في المجتمعات المتخلفة "([17])، وهذا النسق الثقافي الفحولي هو نفسه الذي جعل نازك الملائكة ترتد عن أفكارها وممارستها التجديدية في القصيدة العربية، بل وتنسف مشروعها التجديد بالكامل في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " الذي يعتبره كثير من النقد ردة لرائدة الشعر الحر في الوطن العربي.

يقدم الغذامي – ذو البلاغة الآسرة – من خلال مشروعه الفكري وخاصة الذي ضمنه في كتابيه "المرأة واللغة " و " النقد الثقافي " خطابا نقديا يستجيب للشرط الحداثي من خلال انفتاحه -المدروس – على منجزات الخطاب النقدي الغربي وخاصة ما تعلق بالنقد النسوي وبالدراسات الثقافية، بعد أن تجاوز أسر التفكيكية أو التشريحية - كما يقول بثقة كبيرة – والقدرة على توظيف منجزات الحقول المعرفية الغربية في إطار تركيبي متناسق يجعلنا نقول – بثقة كبيرة أيضا – بوجود مشروع فكري أصيل وعميق ومتفرد في الخطاب النقدي العربي المعاصر يعمل الغذامي على بلورته بثقة وصبر واجتهاد قلما نجدهم عند كتابنا ومفكرينا العرب.

وهذا الخطاب النقدي المتفرد الذي يشتغل عليه الغذامي، قد جلب الكثير من المريدين والمعجبين بنفس القدر الذي استدعى أيضا الكثير من الجدل، ومن الرافضين لفيض الكشوفات الغذامية داخل النسق الثقافي العربي، أو بتعبير " محمد أركون " "السياج الدوغماتي المغلق " للثقافة العربية الغيورة على ماضيها الذي تأسس ضمن هيمنة النسق الفحولي للرجل.


[1] - حسين السماهيجي وآخرون: عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 2003، ص 72.

[2] - عبد الله الغذامي: الكتابة ضد الكتابة، دار الآداب، بيروت، ط1، 1991، ص 78.

[3] - عبد الله الغذامي: المرأة واللغة ، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، ط3، 2006، ص 7.

[4] - عبد الله الغذامي: المرأة واللغة ، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، ط3، 2006، ص 7.

[5] - عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، ص 9.

[6] - المرجع نفسه، ص 10.

[7] - عبد الرحمان بن إسماعيل السماعيل وآخرون: الغذامي الناقد قراءة في مشروع الغذامي النقدي، كتاب الرياض، العدد 97 / 98، مؤسسة اليمامة الصحفية، الرياض، 2002، ص 387.

[8] - المرجع نفسه، ص 387.

[9] المرجع نفسه، ص 388.

[10] - عبد الله الغذامي: المرأة واللغة، ص 17.

[11] - عبد الله الغذامي: المرأة واللغة – 2- ثقافة الوهم مقاربات حول المرأة والجسد واللغة، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، ط1،1998، ص 5.

[12] - عبد الله الغذامي: المرأة واللغة – 2- ثقافة الوهم مقاربات حول المرأة والجسد واللغة، ص 9.

[13] - حسين السماهيجي وآخرون: عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية، ص 72.

[14] - عبد الرزاق عيد: النسق الثقافي العربي المضمر.

http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=516&var_lang=ar&lang=ar

[15] - عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية ،ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 2005، ص 136.

[16] - حسين السماهيجي وآخرون: عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية، ص 80.

[17] - حسين السماهيجي وآخرون: عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية، ص 80.

الأربعاء، يونيو 02، 2010

الرد بالقضيب: دونجوان أسود في بلاد الشقراوات

الرد بالقضيب: دونجوان أسود في بلاد الشقراوات

ououso12 " موسم الهجرة إلى الشمال " هي واحدة من الروايات الإشكالية والفارقة في تاريخ الرواية العربية، إنها العمل الأبرز للروائي السوداني الراحل " الطيب صالح "، وواحدة من أهم الروايات العربية التي صدرت في النص الثاني من القرن العشرين، فهي رواية صادمة في أسلوبها وصدامية في موضوعها، موضوعها الذي سيشغل كثيرا الأدباء والمفكرين خلال فترة الاستقلال أو ما يسمى في مجال الدراسات الأكاديمية بمرحلة ما بعد الكولونيالية والتي لها تجليات على المستوى الأدبي والفكري، تعد " موسم الهجرة إلى الشمال " واحدة من أجلى هذه التجليات لأنها تتحدث عن الصراع الحضاري بين الأنا المغلوبة والآخر الغالب أو بين الشرق المستعمَر والغرب المستعمِر.

فمن خلال شخصية بطل الرواية " مصطفى سعيد " استطاع " الطيب صالح " وببراعة فنية قلما توفرت له في أعماله الأخرى أن يصور لنا تلك العلاقة الشائكة والمتشنجة بين بطل الرواية العربي والمستعمر السابق الذي تلقى تنشئة وتعليما غربيين، وبين المجتمع الانجليزي الذي يعيش البطل بين ظهرانيه، وقيم هذا المجتمع الذي كان مستعمر الأمس.

ولكن دون الخوض في الطبيعة الفكرية للصراع الحضاري بين الشرق والغرب والذي صورته الرواية - موضوع الدراسة - ببراعة، فلنتعرف أولا على بطل الرواية، لأن " موسم الهجرة إلى الشمال " لم تكن سوى سيرة لحياة " مصطفى سعيد "

" مصطفى سعيد " بطل الرواية والأنا الأخرى للكاتب، ولد في 16 أغسطس سنة 1898 وهي السنة نفسها التي هزم فيها القائد الإنجليزي " كتشنر " قائد الثورة المهدية، هذا النصر الذي حققه القائد البريطاني مكن بريطانيا من إعادة احتلال السودان بالكامل، وفي ظل الاحتلال البريطاني للسودان، ولد " مصطفى سعيد " الذي تلقى تعليمه في المدارس التي أنشاها الانجليز، ونتيجة تفوقه انتقل إلى القاهرة ثم إلى لندن لإكمال تعليمه الجامعي كغيره من نوابغ أبناء المستعمرات الذي يتلقفهم الميثروبول، في لندن درس مصطفى سعيد، وتفوق، فعين محاضرا في الاقتصاد وهو بعد في سن الرابعة والعشرين بعد أن تخرج من جامعة أكسفورد العريقة، كان يمكن " لمصطفى سعيد " أن يرضى عن نفسه تمام الرضى ويقنع بمنصب عمله المرموق وعيشته الرغيدة في عاصمة الضباب، ولكنه وكبطل إشكالي لم يستكن لنشوة النجاح الذي حققه، بل انخرط في النشاط السياسي والفكري من خلال تأليف الكتب والتحدث في الندوات والمحاضرات عن أحقية إفريقيا في التحرر، فقد كان رئيسا لجمعية تحرير إفريقيا، وعضوا في الحركة الاشتراكية الانجليزية " المناهضة للاستعمار ".

نتيجة تفوقه الدراسي ونجاحه العملي وبلاغته الخطابية أيضا وهو يدافع عن حقوق الشعوب المستعمرة، حظي باحترام فئات واسعة من المجتمع البريطاني وربطته صداقات وثيقة بعلية القوم هناك، كما تمكن من إقامة شبكة علاقات واسعة جعلت منه شخصا ذا نفوذ.

كتب " مصطفى سعيد " عن الاقتصاد الاستعماري كاشفا عدم إنسانيته وقيامه على التمييز اللاانساني، وعلى الاستغلال، لكن هذه التعرية للهيمنة الاستعمارية لم تكن لترضي نفسه المهانة منذ لحظة الميلاد الأولى التي هي أيضا لحظة انكسار الثورة المهدية في بلده الذي تركه غارقا في التخلف والاستبداد الاستعماري؛ فنضاله السياسي وكتبه ومحاضراته المنددة بالاستعمار لم تكن كافية لتجعله يحس باستعادة الكرامة ورد الاعتبار، فقد ظلت نفسه تختزن كرها دفينا واحتقارا – ممزوجا بإعجاب دفين – للمستعمر وللمجتمع البريطاني الذي يتظاهر بالطيبة والنبل وجيوشه تسحق الشعوب الأخرى، هذا الكره والاحتقار جعل فكرة الانتقام تكبر في ذهن مصطفى سعيد، الانتقام من المستعمر والثأر لكل ما فعله الاستعمار الانجليزي في إفريقيا السوداء ، فتخيل نفسه وسط أفراد المجتمع الانجليزي غازيا، هو الذي يحمل ارث الماضي وثاراته في روحه، وكرهه لما فعله الاستعمار البريطاني في نفوس أبناء المستعمرات قبل أجسادهم يغذي حقده ويدفعه أكثر فأكثر للثأر، ولكن كيف؟

الثأر الجنسي، هذا هو الأسلوب الذي اختاره " مصطفى سعيد " للرد على الإهانة التي يحس طعمها في حلقه كلما استيقظ صباحا، فقد قرر أن يرد بالقضيب على التحدي الحضاري الذي يفرضه عليه وجوده وسط المجتمع الذي استعمر بلده، فهاهو في أوروبا الاستعمارية وفي عاصمة التاج البريطاني يغزوا أوروبا الغازية جنسيا لعله يستعيد فوق جسد بريطانية شقراء بعضا من كرامته التي هدرها الاستعمار.

لقد حولت الرغبة في الثار من المستعمر " مصطفى سعيد " إلى كائن سلبي قدمه الراوي على انه (إنسان خال من المرح، آلة صماء، عقل بارد وقاطع كالمدية ) فقد كان انجليزيا اسود حاد الذكاء شرقي الروح مفوه اللسان بليغ الحجة بليد الشعور، هذه الصفات جعلت منه دونجوانا أسودا في بلاد الشقروات، وعلى صدور الشقروات الانجليزيات غرق " مصطفى سعيد " في حياة بوهيمية معتقدا أنه بهكذا حياة يثأر لكل معاناة الشعوب المستعمرة، لقد رد " مصطفى سعيد" على العنف الاستعماري المسلط على شعبه بعنف ناعم فوق سرير أكثر نعومة، لكن عنفه الناعم انتهى بانتحار ثلاث فتيات، أعقبه بقتل زوجته الانجليزية " جين موريس " في لحظة هوس، مما أدى به إلى السجن والحكم عليه بسبع سنوات، وهو حكم مخفف نتيجة مكانته الثقافية والسياسية.

conter