يبدو الخطاب الثقافي الجزائري خطابا مسكونا بأزمة بنيوية حادة تتجلى في نقطتين رئيسيتين هيمنت على جزء كبير من نتاجات المثقفين الجزائريين، تتمثل النقطة أو الإشكالية الأولى في علاقة المثقف بالسياسي التي تميزت بكثير من التبعية، في حين الإشكالية الثانية مرتبطة بالهوية الجزائرية التي لم تنتج حولها خطابات جامعة تمنح المجتمع هوية قارة وتحضى بالقبول النسبي من طرف جموع المواطنين
1 - علاقة المثقف بالسياسي أو خطيئة المثقفين:
" إن عضوانية المثقفين الجزائريين أدت بهم تدريجيا إلى قصر بصرهم السياسي بحيث لم يقدّروا أحسن تقدير أهمية صعود الوطنية وتغلغلها في أوساط الجماهير "([1]). هذه المقولة لعلي الكنز توضح بجلاء كيف تعامل المثقفون مع صعود الحركة الوطنية بتجاهل وانعزالية، ومن ثمة كيف تعاملت الحركة الوطنية مع المثقفين أثناء مراحلها المختلفة: مرحلة نجم شمال إفريقيا ( 1926 – 1936 )، مرحلة حزب الشعب الجزائري (1937 – 1946 )، مرحلة حركة انتصار الحريات الديمقراطية ( 1946 – 1954 )، ثم مرحلة جبهة التحرير الوطني ( 1954 – 1962 )، أثناء كل هذه المراحل لم يكن هناك حضور للمثقف يستحق الذكر "ولا يمكن أبدا اعتبارهم 'رفقاء الطريق' أذا ما قورنوا بالثوريين الوطنيين "([2])، وهذا ما جعل الثورة التحريرية تعيش إشكالية مأساوية مع المثقف نتيجة تأخره ' غير المفهوم " عن اللحاق بالعمل المسلح وقبله بالنضال السياسي، وقد تجلت هذه الإشكالية المأساوية رغم الالتحاق المتأخر للمثقف بالعمل المسلح بعد إضراب الطلبة سنة 1956 والتحاق طلبة الجامعات والثانويات بالعمل المسلح، تجلت في قضية لابلويث la bleuite حيث " قام العقيد عميروش بتصفية المئات من هؤلاء الطلبة الذين التحقوا بالجبال بعد إضراب 56 "([3])، بعد أن طالتهم تهمة الخيانة.
ومن هنا كانت علاقة الثوار بالمثقفين " علاقة متشضية "، فمما لا شك فيه أن المناضلين الثوريين كانوا يقدرون المثقفين بنوع من الحذر وعدم الاندفاع، " بل كانوا يلومونهم ويعيبونهم البرودة في التحليل والتردد في اتخاذ المواقف "([4])، وهذا اللوم استمر حتى بعد الالتحاق المتأخر للمثقفين بالعمل المسلح، واعتبرت توبتهم ناقصة لأن الخطيئة أصلية، أي مرتبطة ببداية النضال السياسي، وهي خطيئة مرتبطة في جزء منها بطبيعة المثقفين وتكوينهم.
فبالرغم من كون الثورة التحريرية مثلت نقلة نوعية في حياة المجتمع الجزائري على جميع الأصعدة إلا أن المثقف الذي يفترض فيه أن يكون الأقرب إلى نبض المجتمع الذي ينتمي إليه لم يكن في طليعة المناضلين لتفجير هذه الثورة ، ويمكن إرجاع ذلك حسب ما تذكره فاطمة الزهراء زيراوي إلى: " طبيعة المثقف في حد ذاته فليس كل حدث يمر إلا ويصدر عنه رد فعل مباشر وآني وتلقائي، في الوقت نفسه نجده عند بعض الفئات الاجتماعية، كالذي يعيش على الخبر دون تحليله وإعطاء الملابسات التي ينطوي عليها والظروف التي جعلته يكون على ذلك المنوال، ولا نأتي بجديد إذا قلنا أن من خصائص المثقف التروي في اتخاذ المواقف ..."([5])، ولكن هذا التروي والتردد اتجاه فعل غيّر واقع المجتمع الجزائري برمته وهو الثورة التحريرية جعل المثقفين وهم يلتحقون بالعمل المسلح بعد أن بادر به المناضلون الثوريون، يشعرون بكثير من التأنيب نتيجة هذا التأخر الغير مبرر في نظر الثوار.
أثناء اندلاع الثورة التحريرية كان المثقفون الجزائريون منقسمون إلى فئتين متناقضتين من حيث المرجعيات الفكرية وكذا من حيث اللغة التي تستعملها كل فئة للتعبير عن أفكارها، ومع هذا الاختلاف الشديد بينها فقد التقت كلا الفئتين في تجاهلها الكبير للحراك السياسي العميق الذي عاشه المجتمع الجزائري والذي كانت نتيجته تفجير ثورة أول نوفمبر. وهاتين الفئتين هما:
- فئة المثقفين الإصلاحيين: وهي الفئة التي ينضوي تحت لوائها غالبية كتاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين " وهم كتاب اللغة العربية من صحفيين وشعراء وكتاب مقالات اجتماعية ودينية "([6]) وأفراد هذه الفئة يتموضعون " في إطار استمرارية ثقافية هي الحضارة العربية الإسلامية في الشرق العربي كمرجع ثقافي-إيديولوجي، والبورجوازية التقليدية كقوة مادية واجتماعية ملموسة "([7])، وفي إطار هذه الفئة من المثقفين الإصلاحيين برزت عدة أسماء لأدباء وصحفيين ومؤرخين، عن طريق نشاطهم عبر المؤسسات الثقافية والإعلامية التي أنشأتها الجمعية كالجرائد والمجلات والنوادي الثقافية المختلفة بالإضافة لمدراس الجمعية.
- فئة المثقفين المفرنسين: وهي الفئة التي آمنت بقيم الثورة الفرنسية نتيجة تعلمها في المدرسة الفرنسية، كما آمنت بالحداثة كنقيض للبنيات الأصلية التقليدية للمجتمع الجزائري، وهذه الفئة قد " آمنت إيمانا قاطعا بأن الجزائر يمكنها أن تندمج في الدولة الفرنسية بفضل قيم الحرية والمساواة والأخوة التي تلقن في الكتب المدرسية"([8])، ونتيجة تعارض أطروحات هذه الفئة مع طموحات الشعب الجزائري فقد عاشت هذه الفئة تمزقات داخلية حادة وإحساسا بالغربة داخل الوطن مما جعلها تقدم أطروحاتها الفكرية بشكل لا يخلو من التناقض، نتيجة التكوين والمرجعيات المتناقضة التي أخذت بها، فقد تكون أفرادها " في إطار استمرارية ثقافية شعبية – فلكلورية وشفهية جزائرية، وثقافة أوروبية كونية ناتجة بالأساس عن تكونهم في المدارس الفرنسية وتياراتها من ليبرالية وماركسية "([9]).
إذا فقد " التحق المثقفون بالثورة بمأساوية شاعرين بالذنب الثقيل، ليس فقط بسبب التحاقهم المتأخر وإنما لسبب كتاباتهم وخطابهم المتأخر أيضا "([10])، وهذا ما ولد لديهم شعورا حادا بالنقص أمام الشريك الثوري الذي كان سباقا للنضال المسلح، ومن ثمة أصبح هو راعيهم وهم رعيته.
هذه العلاقة ستسمر بعد الاستقلال وتتخذ أشكالا أخرى في ظل الدولة المستقلة، حيث سيوظف السياسي المثقف لخدمة أغراضه، والمثقف الموظف حسب عبد القادر جغلول "هو أولا وقبل كل شيء وكيل الدولة أو عميلها أو ما يمكن تسميته بوكيل التنمية "([11])، ودور وكيل التنمية والمبشر بالتغيير هو الدور الذي لعبه المثقف بامتياز عقب الاستقلال نتيجة تبعيته للنظام السياسي الذي استطاع توظيف فئة المثقفين وتحويلهم إلى مبررين لاختياراتهم السياسية والإيديولوجية سواء في عهد الرئيس احمد بن بلة الذي نجح في جمع عدد كبير من المثقفين اليساريين حوله، أولئك الحالمون بدور طليعة المجتمع، أو بعد انقلاب العقيد هواري بومدين على بن بلة وتوليه السلطة ومباشرته إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة هدفت للانتقال بالجزائر نحو أفاق تقدم أرحب، بومدين الذي عمل على منح المثقفين دورا بارزا في " التوعية " والتبشير بالاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، وقد تجلى ذلك مع تبني الثورة الزراعية التي مثل الطلبة بو قها الدعائي في صفوف الفلاحين وسكان الأرياف.
إذن فقد ورثت الدولة الجزائرية المستقلة نماذج ثقافية و " انثلجانسيات " متنافرة لغويا وإيديولوجيا وهو ما جعلها عقب الاستقلال تقوم " بمجهود فكري وعقائدي لصياغة اطروحتها الخاصة اعتمادا على المبدأ " الوطني التوحيدي " الاجماعي الناظم لبناء الدولة، فكما أجهدت الثورة الجزائرية نفسها في " توحيد التنوعات الايديو-سياسية الموروثة عن تعددية الحركة الوطنية ( 1912 – 1954 ) في خطاب سياسي راديكالي وعنيف رمزيا، كانعكاس للعنف الوطني والثوري لحل المسألة السياسية الوطنية، فستحاول الدولة الوطنية ولو بكثير من الجهد والعناء والبراغماتية، صياغة خطاب سياسي حول الثقافة، يحوصل شتات الثقافات المجتمعية الجزائرية الموروثة في نسق إيديولوجي وطني موحد وتحديثي"([12])، وهذا العمل " التوحيدي" الذي قام به النظام السياسي الجزائري والدولة الوطنية هو نفسه الذي أنتج في النهاية خطابات ثقافية تابعة بشكل معلن للخطابات السياسية، باستثناء حالات قليلة ظلت مهمشة ومركونة في الزوايا المظلمة.
2 - الهوية المأزومة في الخطاب الثقافي الجزائري:
يتميز الخطاب الثقافي المنتج من طرف المثقفين الجزائريين وهو يتناول مسألة الهوية بالتأزم وعدم القدرة على خلق خطاب جامع ومتفق عليه نسبيا حول هوية اجتماعية واضحة للمجتمع الجزائري، حيث نلحظ أن مسألة الهوية في الجزائر تمثل " إشكالية قصوى ضمن فسيفساء المشهد الثقافي ككل" ([13]) وهذا ما يتجلى في انقسامية المثقفين الجزائريين حين يتعلق الأمر بنظرتهم لهوية المجتمع الجزائري، وقبل التطرق إلى محددات الهوية الجزائرية، يجدر بنا الإشارة إلى أهمية تكوّن هوية واضحة المعالم ودور هذه الهوية في توفير الشرعية السياسية للنظام الحاكم من جهة، ودورها في دعم السلم الاجتماعي من جهة ثانية. حيث يمكن توضيح المسألة بالشكل التالي([14]):
أ – لا وجود لشرعية سياسية حقة وبالتالي لدولة وطنية شرعية إلا بوجود شرعية ثقافية.
ب- ولا وجود للشرعية الثقافية إلا بوجود هوية اجتماعية واضحة.
وهذه الهوية الواضحة اجتماعيا والتي تحضى بالقبول النسبي من طرف جموع المواطنين أو أفراد الأمة وكذا مختلف الفاعلين السياسيين داخل المجتمع، تساهم أكثر ما تساهم في دعم السلم الاجتماعي الذي يظل مرتبطا بتوافر الشرعيتين السابقتين وهما الشرعية السياسية والشرعية الثقافية، بالإضافة إلى عوامل أخرى مادية أساسا مرتبطة بمستوى الرفاه الاقتصادي والتقدم الحضاري الذي يبلغه المجتمع في مرحلة معينة من مراحله التاريخية.
هناك عدة عوامل تاريخية، محلية وكونية، ساهمت في بلورة ثوابت معينة للهوية الجزائرية تتمثل هذه الثوابت في ثلاث محددات رئيسة هي:
- الدين الإسلامي.
- اللغة العربية.
- الأصل الأمازيغي.
والخلاف ليس حول هذه الثوابت الثلاثة التي تحضى بقبول نسبي من طرف جموع المواطنين باستثناء بعض الفئات/ التيارات غير مسموعة الصوت التي تلغي عنصر معين من هذه العناصر الثلاثة لصالح عنصر آخر، كالتيار الذي يرفض البعد الامازيغي البربري للهوية الجزائر على اعتبار أن أصل الأمازيغ يعود في نهاية التحليل التاريخي إلى العنصر العربي، كما يزعمون؛ أو التيار البربري الذي يرفض العروبة كمحدد للهوية الجزائرية معتبرا أن الجزائريين ذوي الأصول العربية القحة لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة جدا من جموع السكان، وأن غالبية الجزائريين ذوو أصول بربرية رغم أنهم قد تعربوا خلال مراحل تاريخية مختلفة.
وكلا التياران الرافضان لعنصر واحد من ضمن العناصر الثلاثة المشكلة للهوية الجزائرية لا يختلفان حول اعتبار الإسلام محددا رئيسا للهوية الجزائرية بالإضافة لعناصر أخرى أو عنصر آخر يحدده كل تيار حسب قناعاته ومرجعيته الفكرية والإيديولوجية، ولكن كلا التيارين في النهاية لا يمثلان سوى أقلية لا تأثير ملموس لها في الواقع الجزائري، ولا قدرة لها على تسويق رؤاها بشكل فعال نظرا لكون تلك الرؤى تتعارض مع القناعات العامة لجموع أفراد المجتمع، كما أنها تصطدم مع الخطاب الرسمي حول الهوية الجزائرية الذي يقر بالمرجعيات الثلاث المحددة سلفا.
إذن والحالة فإن الاختلاف حول الهوية الجزائرية والذي جعلها تشحن بكثير من التناحرية في صياغتها وفي تأثيرها الاجتماعي على الواقع الجزائري، ليس حول تعيين المحددات الثلاث للهوية الجزائرية، إنما حول التوليف والتركيب بينها، فالجزائر بهكذا هوية " لا تتميز عن بقية البلدان العربية الإسلامية الأخرى إلا بأمازيغيتها؟ إذ أن العروبة والإسلام هو قاسم مشترك مع بقية الدول العربية الإسلامية، [ وبالتالي] فهل العروبة والامازيغية المتعايشة تعني تواجد شعبين في وطن واحد أم تعني تواجد ثقافتين لدى شعب واحد؟"([15]).
وهل الإسلام وحده هو العنصر الذي تنصهر ضمنه العروبة والامازيغية؟.
وهل الإسلام كعنصر موحّد قد أنتج فهما موحدا لدى العنصرين الامازيغي والعربي المتعايشين معا في الجزائر؟.
وهل نكتفي بالمحددات الثلاثة للهوية الجزائرية دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن محددات أخرى حتى لو كانت ثانوية؟.
يبدو موضوع الهوية الجزائرية بهذا الشكل مجالا خصبا للتساؤل، أكثر مما هو مجال للبحث عن إجابات مقنعة، واستحالة الوصول إلى إجابات " مقنعة " تحضى بالقبول النسبي من طرف جموع المواطنين والفاعلين في الساحة السياسية والثقافية، ينجر عنها "محاولات" لتقديم أطروحات حول الهوية، تتسم بالانغلاق على الذات والركون لمرجعيات محددة سلفا تستمد منها العناصر الأساسية لبناء شرعية ثقافية وسياسية معينة، والنتيجة "أن كل طرح من هذه الطروح
[ هكذا ] يؤسس بطريقة مختلفة تماما للشرعية الثقافية وللشرعية السياسية عن غيره من الطروح وحولها يقع الانقسام وازدواج الشرعية الثقافية والسياسية"([16]) وهذا ما يخلق انقساما و
" كسرا دالا في تمفصل الدولة بالمجتمع، وتصدعا في إيديولوجيا المشروعية وظهور أسئلة جديدة "([17])، هذه الأسئلة التي تثار دوما حول الهوية الجزائرية، ما هي في النهاية سوى نتيجة الغلق الذي مارسته السلطة السياسية حول هذا الموضوع، ولجوءها لتحديد هوية المجتمع وفق رؤية سياسية تضمن لها بعضا من الشرعية التي تحس أنها مهددة من طرف من يطرحون بعض الأسئلة " الخبيثة "، والباحثة عن قراءة مغايرة للهوية.
الهوية في النهاية وبرؤية سوسيو-تاريخية ليست معطى ثابت، حيث أن التغير يظل لصيقا بها نتيجة لما يتعرض له أفراد المجتمع من تأثيرات خارجية تساهم في قولبة "هوياتهم" وإعادة إنتاجها بفعل التأثير والإغراء الذي تمارسه بعض تلك المؤثرات، فهناك الكثير من " المؤثرات الكونية الجديدة التي لا يزال العقل الجزائري المتأمل يقف مشدوها إزاءها لا يجد نقطة ارتكاز يمكنه الانطلاق منها لمساءلة الآخر "([18]) وبالتالي إبداء الموقف إزاءه، رغم توافر الهوية ثلاثية المحددات التي يستند إليها الفرد الجزائري وهو يلتقي بالمؤثرات الثقافية الوافدة على قوة شحن عاطفي وعلى الامتداد التاريخي والتجدر الاجتماعي، إلا انه يشعر دوما بأن هويته المأزومة لا تسعفه في تبني رد فعل ايجابي اتجاه الآخر، وهذا ما يجعله يلجأ في الغالب نحو رد فعل انفعالي ومتطرف سواء بالقبول التام لتلك المؤثرات وتبنيها، أو برفضها التام متقوقعا على ثوابته التي يشعر بالخوف الكبير عليها من كل وافد، نظرا لما تتسم به هذه الثوابت من ضعف وهشاشة تجعلها عاجزة عن مساءلة الآخر من موضع الندية.
إن هذا الوضع المأزوم للهوية الجزائرية المتسمة بكثير من الهشاشة غير الظاهرة، والخطيرة في الوقت نفسه يضع النخبة السياسية ممثلة في السلطة وفي التيارات المعارضة، في قفص الاتهام بسبب فرضها لهوية تتسم بجهوزية مسبقة من جهة، وعملها على توظيف عناصر الهوية الوطنية في صراعات سياسوية نتج عنها تحميل هذه الهوية بشحنة تناحرية هددت بشكل فعلي السلم الاجتماعي؛ مع أن النخبة الثقافية الجزائرية تتحمل نصيبا وافرا من حالة التأزم الهوياتي الذي يستشعره الإنسان الجزائري، فهي قد عجزت عن صياغة خطابات مقنعة حول الهوية الجماعية للشعب الجزائري كما أنها هي نفسها ونتيجة تميزها بانقسامية حادة على المستوى الإيديولوجي واللغوي قد وظفت عناصر الهوية الوطنية كأدوات صراع، بغية تحصيل مشروعية ورأسمال رمزي يمكنها من فرض تصوراتها على الفئات الأخرى المغايرة، ولهذا نجد " أن جيلا كاملا من الكتاب والأدباء انخرط بشكل لا إرادي – وإن كان بعضهم يعتقد عكس ذلك – في سيرورة الإقصاء والتوازي والمغالاة في أدلجة النقاش حول الهوية والتمادي في توظيف عناصرها ومكوناتها الأساسية ( الدين، اللغة، الانتماء الحضاري ) في تنوعها وتعددها بطريقة ميكيافيلية، هدفها النهائي السعي إلى إلغاء الآخر كشرط أولاني لإثبات الأنا "([19])، وهذا التناحر الثقافي حول الهوية قد انتقل للمجتمع ونتج عنه سنوات المحنة التي عاشتها الجزائر خلال فترة التسعينات بكثير من الدراماتيكية.
3 - ازدواجية المثقفين اللغوية:
منذ البداية – أي ما قبل الاستقلال – لم تكن العلاقة بين المثقفين المعربين من جهة والمفرنسين من جهة أخرى، علاقة وفاق أو تكامل كما يفترض أن تكون، بل إنها كانت علاقة تضاد وصدامية في كثير من الأحيان، رغم بعض الصداقات الشخصية التي كانت تربط بين أطراف من هذه الفئة وأطراف من الفئة الأخرى.
فالازدواجية اللغوية " هي خصوصية من خصوصيات المجتمع الجزائري كما هو معروف، فهو يعيش انكسارا لغوية وقطيعة لغوية داخل النخبة، نخبة معربة ونخبة مفرنسة "([20])، وطبيعة هذه العلاقة بين المثقفين الجزائريين قد أدت بعد تعريب الجامعة إلى الوصول لصيغة توفيقية رعتها الدولة، لم تحسم الخلاف والاختلاف وإنما حددت مجال لكل فئة، الثقافة والإعلام والتعليم للمعربين، والصناعة والفلاحة والهياكل القاعدية للمفرنسين، "باختصار مهندسون مفرنسون وعقائديون معربون "([21]).
لقد كانت اللغة العربية في وضعية المغلوب على أمره خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وكان تداولها جد منحصر ومحدد بين فئة قليلة جدا من المتعلمين الذين تلقوا تعليمهم في المدارس التابعة للزوايا أو سافروا للمشرق، أو في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بداية الربع الثاني من القرن العشرين؛ في المقابل عملت الإدارة الاستعمارية على التمكين للغة الفرنسية بين الجزائريين من خلال المدرسة الكولونيالية، ومن خلال جعل الفرنسية وسيلة للرقي الاجتماعي بين الأهالي، هذه الحالة التاريخية التي عاشتها اللغة العربية في الجزائر المستعمرة، جعلت من الدفاع عن العربية كمحدد من محددات الهوية الجزائرية، مطلبا شعبيا ومطلبا سياسيا للحركة الوطنية، فقد " ارتبطت عملية الدفاع عن العربية بالدفاع عن التراث والدين الإسلامي والهوية الوطنية في كل برامج الحركات الوطنية والثورة الوطنية فأصبحت تراثا ثقافيا وإيديولوجيا سيوجه سياسة الدولة الثقافية نحو التعريب ووضع تصور لتعميم استعمال اللغة العربية "([22])، هذا التصور الذي لم يلتق بالواقع إلا في مجالات معينة مرتبطة بالإنتاج الثقافي والإيديولوجي، خصوصا مجال الإعلام، أما المجالات الأخرى الاقتصادية تحديدا، فإن اللغة العربية ظلت بعيدة وعاجزة عن إيجاد موطأ قدم لها ضمن تلك المجالات رغم توظيفها من طرف منتجي الثقافة النخبوية كلغة حداثية قادرة على استيعاب التطورات المتسارعة في مجال الفنون والآداب ، إلا أنها كانت ومازالت ذات مردودية اقتصادية وتكنولوجية ضعيفة في مجالات التحديث والتصنيع ونقل التكنولوجيا، وهي المجالات التي راهنت عليها الدولة الجزائرية عقب الاستقلال من اجل التقدم والازدهار، وهذه المراهنة على مجالات تسير وتدار باللغة الفرنسية هي التي جعلت من عملية التعريب التي مست الجامعة وقطاعات أخرى تفقد معناها، كما غذّت النزعة الاستعلائية لفئة المتفرنسين اتجاه زملائهم المعربين مما ساهم في تأزيم العلاقة بين الطرفين، حيث على المستوى الثقافي مثلا يعرف الحقل الثقافي الجزائري شرخا حادا بين ما يكتب بالعربية وما يكتب بالفرنسية رغم عمليات الترجمة التي يقوم بها بعض المثقفين لانتاجات زملائهم الذين يكتبون بلغة أخرى، سواء من الفرنسية إلى العربية أو العكس، رغم ما يشوب عمليات الترجمة من انتقائية وزبائنية في غالب الأحيان، حيث أن اختيار النصوص المترجمة لا يستند عادة إلى القيمة الفكرية والأدبية للنص المترجم بمقدار ما يستند إلى محددات أخرى غير ثقافية غالبا. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن اللغة الفرنسية في الجزائر تتجاوز وضعها كلغة عملية لتندرج ضمن التناولات السياسية للقوى الخارجية، وتحديدا لفرنسا التي تسعى ومن خلال الفرانكوفونية إلى بسط نفوذها بشكل أكبر داخل المجتمع الجزائري، فالفرانكوفونية كسياسية لغوية وضعتها الحكومة الفرنسية بغية التمكين للثقافة والفكر الفرنسي، أي لإشعاع فرنسا في غيرها من البلدان، تتجاوز مسالة اللغة الفرنسية في حد ذاتها والتي لازلنا نعتبرها غنيمة حرب، لتتجلى كوسيلة لفرض الهيمنة تتوسل باللغة، وعن طريقها يتم تحصيل منافع اقتصادية ومصالح سياسية معينة.
الحالة السابقة الذكر التي وجدت اللغة العربية نفسها في ظلها رغم الدعم السياسي الذي حظيت به من أعلى هرم السلطة والذي تجلى في عملية التعريب التي مست الجامعة ومجالات أخرى مرتبطة بالإعلام والنشر، وقانون تعميم استعمال اللغة العربية ( المعطل التنفيذ )، هذه الحالة قد فسحت المجال واسعا أمام اللغة الفرنسية لتكون لغة الاقتصاد ولغة الإدارة، والاهم من هذا وسيلة للرقي الاجتماعي والوظيفي كما كانت عليه خلال الفترة الاستعمارية، هذا الوضع يجعل من المسألة اللغوية في الجزائر مجالا للصراع الاجتماعي، بنفس القدر الذي يشكل به الثراء اللغوي للجزائر وبعيدا عن التوظيفات السياسية مجالا لازدهار الإبداع الثقافي وللتعبير عن الذات، سواء باللغة العربية أو باللغة الفرنسية الحاملة لثقافة عربية أو امازيغية كما كان الشأن مع الجيل الأول للروائيين الجزائريين (مولود فرعون، مالك حداد، كاتب ياسين ) الذين كتبوا نصوصهم باللغة الفرنسية وبها عبروا عن ذواتهم وهويتهم.
- علي الكنز، حول الأزمة، دار بوشان، الجزائر، 1990، ص 29.[1]
- نفس المرجع، ص 31.[2]
- محمد ساري، مرجع سابق، ص 50.[3]
-علي الكنز، مرجع سابق، ص 31.[4]
[5] - فاطمة الزهراء زيراوي، المثقف والثورة التحريرية، مجلة بحوث، العدد 2، جامعة الجزائر، الجزائر 1994، ص ص 61-75.
- محمد ساري ، مرجع سابق، ص 50.[6]
- عمار بلحسن، مرجع سابق، ص 185.[7]
- محمد ساري، مرجع سابق، ص 50.[8]
- عمار بلحسن، نفس المرجع، ص 167.[9]
-علي الكنز، مرجع سابق، ص 31.[10]
- عبد القادر جعلول، عن عمار بلحسن،مرجع سابق، ص 61.[11]
[12] - عمار بلحسن، المشروعية والتوترات الثقافية .. الدولة المجتمع والثقافة في الجزائر، مجلة الثقافة، العدد2، وزارة الاتصال، الجزائر اكتوبر1993، ص ص 116 – 145.
- عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، الدار العربية للعلوم/ منشورات الاختلاف، بيروت/ الجزائر، 2007، ص 75.[13]
[14] - أنظر، عبد الرحمان بوزيدة، تحليل ثقافي للازمة، مجلة الثقافة، العدد2، وزارة الاتصال، الجزائر، أكتوبر 1993، ص ص 29-41.
- عبد الرحمان بوزيدة، مرجع سابق.[15]
- المرجع السابق.[16]
[17] - عمار بلحسن، المشروعية والتوترات الثقافية .. الدولة المجتمع والثقافة في الجزائر، مرجع سابق.
- عمر مهيبل، مرجع سابق، ص 75.[18]
- المرجع السابق، ص 76.[19]
[20]- مصطفى ماضي، المجتمع الجزائري يعيش قطيعة لغوية والاستثمار في النشر مغامرة، مجلة الحدث، العدد 36، درويش بريس، باريس، مارس/أفريل 2004، ص ص 76 – 77.
- علي الكنز، مرجع سابق، ص 21.[21]
- عمار بلحسن، المرجع السابق.[22]