الأحد، نوفمبر 13، 2016

باختين والتاريخ الثقافي

بتاريخ 10:48 م بواسطة عمار بن طوبال

كان باختين واحدا من المفكرين الأكثر تأثيرا، ولو بشكل غير مباشر، في مسار التاريخ الثقافي خاصة من خلال عمله الرائد: "إبداع فرانسوا رابليه والثقافة الهزلية الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة". هذا العمل  في أصله رسالة دكثوراه تقدم بها باختين للأكاديمية السوفياتية للعلوم سنة 1946، ولم تصدر ككتاب إلا سنة 1965 لكن سرعان ما نالت نجاح واهتمام كبيرين من طرف الباحثين خاصة في مجال النقد الأدبي، في بداية الأمر، ثم في مجالات الأنثروبولوج
يا والتاريخ الثقافي لاحقا، ولقد ترجمت هذه الرسالة إلى الانجليزية حاملة عنوانا ذو طبيعة أدبية: " رابليه وعالمه" سنة 1986، ولم تنشر بالعربية إلا سنة 2015 تحت عنوان: "أعمال فرنسوا رابيليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة"
هذا العمل الذي انبتت عليه شهرة باختين في مجال التاريخ الثقافي، شكل، بالإضافة إلى بعض مفاهيمه كالحوارية وتعدد الأصوات، ركيزة أساسية في أعمال الكثير من المؤرخين الثقافيين. عمل باختين من خلاله على رسم صورة بانورامية عن " أشكال الشعائر والطقوس والعروض الفولكلورية والاحتفالات الشعبية والكرنفالات وأدب النجاسة، والأسفل الجسدي، والمأدبة وغيرها من الصور التي سادت خلال القرون الوسطى وإبان عصر النهضة، وذلك من خلال الكشف عن أعمال رابليه التي تتجلى فيها تمظهرات الثقافة الهزلية للمرحلة، إذ تعكس بشكل صارخ الإيماءات والحركات والأقوال والأمثال والمقالب والحماقات والنبوءات الشعبية، التي استقاها مباشرة من أفواه البسطاء والمجانين من عامة الشعب في الساحات العمومية"([1]). واستفادة التاريخ الثقافي من المفاهيم والتصورات الباختينة المتعلقة بأشكال التعبير الشعبية كانت كبيرة وتأثيرها كان من الشساعة بحيث يمكن تلمسه لدى الكثير من المؤرخين الثقافيين، فقد شكلت الاشتغالات الباختينية حول مواضيع مثل " الكرنافالية (carnivalizatio ) و"خلع العروش"  (uncrowing ) و"لغة الأسواق"، و"الواقعية الغرائبية" (grotesque realisme ) التي تخلط بين الرعب والسخرية"([2]) مواضيع بحث مستقلة حينا، وحينا آخر مصادر ذات ثراء لا ينضب له معين لاستقاء المادة التاريخية المقصاة من كتب التاريخ الرسمية المرتبطة بالسلطة واستراتجياتها، كما أنها شكلت المجالات لأرحب لدراسة ثقافة المهمشين التي تعد واحدة من أهم مواضيع التاريخ الثقافي، حيث أن أشكال التعبير الأدبية ذات الصبغة الشعبية، وبالإضافة لفعاليتها في دراسة الأدب الشعبي والأنثروبولوجيا، أمدت التاريخ الثقافي المأخوذ بمناهج الأنثروبولوجيا ومفاهيمها، خاصة أنثروبولوجيا غيرتز، بمواضيع ومفاهيم ومجالات قائمة على تصور مغاير، وحديث، لمفهوم الوثيقة التاريخية ولدلالة المصدر التاريخي، والتي صار يمكن التقاطها مباشرة من أفواه الناس، ليس كشهادات فقط، إنما  كترنيمات وأحاجي ونكت وأغاني وسباب وشتم وأمثال وألعاب، وألبسة احتفالية ... وكل ما ينتجه العوام وهم ينخرطون في حياتهم ويمارسون طقوسهم واحتفالياتهم المختلفة، تلك الطقوس والاحتفاليات التي درسها باختين باقتدار مشهود، معتمدا، وناقدا في الوقت نفسه، على أعمال رابليه، وعلى الكثير من الدراسات الرابلية التي ازدهرت، في فرنسا خاصة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وقبل ذلك بقليل. لم تكن " دراسة الكرنفلات الشعبية، والمواكب الساخرة وغيرها التي تعبر عن الثقافة الشعبية وما تحمله من عقائد وطقوس سائدة"([3])؛ أي أشكال التعبير الأدبي هي مجال الاستفادة الوحيد الذي أمدّ به باختين حقل التاريخ الثقافي، فقد شكل مفهوم تعدد الأصوات، والذي يشير عند باختين إلى تعدد الإيدلوجيات التي تصدر عنها الخطابات المختلفة، والتي "عبر عنها بثلاث مصطلحات متلازمة هي: heteroglossia, polyglossian polyphony  " ([4]) والتي يقابلها ممصطلح آخر هو الحوارية Dialogisme والذي شكل لبنة أساسية في باختين النقدي الذي امتدت أثاره خارج مجال النقد الأدبي، وقد شبه بيتر بورك تعدية الأصوات " بوثائق الأنا ego_dovuments) ) التاريخية المكتوبة بضمير المتكلم، التي تحوي حوارات لأصوات متعددة"([5]) مما يسمح لمختلف الأفكار والتصورات من التعبير عن نفسها داخل الخطاب الذي يتخذ أشكالا متعددة، رغم أن باختين في سياق حديثه عن الحوارية وتعدد الأصوات كان بصدد التأكيد على خاصية أساسية للخطاب لروائي حصرا، ولم يشمل اهتمامه أشكال التعبير الأخرى التي أولاها عناية كبيرة في كتابه عن رابليه المذكور أعلاه، والذي يظل غير مستنفذ الفائدة بالنسبة للتاريخ الثقافي.






ردود على "باختين والتاريخ الثقافي"

أترك تعليقا

conter