الثلاثاء، مارس 24، 2009

التدوين وشرط الحرية

بتاريخ 11:18 م بواسطة عمار بن طوبال


لأول مرة منذ قرون يتاح للمهمشين أن يصنعوا مركزهم وان يقولوا قولتهم ورأيهم بعيدا عن كل وصاية.
آليات التفكير والكتابة القديمة والكلاسيكية، وهي قديمة وكلاسيكية منذ فترة قصيرة فقط إذا اعتبرنا أن الناث والمدونات تشكل مرحلة قطيعة مع العهد والعهود السابقة، تصدر عن شروط مغايرة بشكل جدري للشرط التدويني الذي يحيل على الحرية المطلقة.
تلك الفترات السابقة كانت تتسم بتمركز شديد للرأي في يد فئة تصف نفسها ويصفها المجتمع بالنخبة، سواء كانت نخبة فكرية أم نخبة سياسية، إلا أن ميزتها الرئيسة هي احتكار الرأي والقول، من خلال احتكار وسائل التوصيل الإعلامي سواء كان إعلام حكومي أو خاص.
من خلال هذا الكسر الحاد للتمركز القولي ( نسبة للقول ) على الذات، تتموضع المدونات وتقدم نفسها كمجال للمباح والمستباح و كفضاء لحرية القول وإبداء الرأي بعيدا عن الوصاية، وأيضا بعيدا عن إغراءات المنفعة التي تميز مجالات إبداء الرأي الأخرى المكرسة.
هل يعني هذا أن المدونات قد صارت قادرة على خلق رأي عام أي أنها قادرة على تسويق أفكارها وصناعة نجوم رأي عام يمثلون مرجعية تدوينية أو اجتماعية للبقية.
الأمر لم يصل إلى هذه الدرجة بعد لأن التدوين هو فعل فردي بالأساس رغم أن قيمة العملية التدوينية لا يصنعها المدون المفرد بمقدار ما تصنع بالإحالة على الجمع، وهذا ما يجعلنا نقول أن المدونين يشكلون طبقة، أو دعنا نبتعد عن المفاهيم الماركسية ونقول أنهم يشكلون فئة اجتماعية لها أراء ولها طموحات أيضا وتتبع استراتيجيات لا تخلو من السعي لتحصيل منفعة معينة من خلال العمل التدويني
سواء كانت المنفعة ذاتية مرتبطة بإشباع رغبة معينة تنبع من الداخل (رغم طوباوية هذا الطرح ) أو كانت منفعة اجتماعية مرتبطة بالمصالح الشخصية والمادية التي قد يحصلها المدون في حالة استطاع النفاذ من ثقب الإبرة والعبور نحو ضفة المحتكرين، أي نحو منطقة التبادل السلعي للمنتجات الثقافية حيث الكلمة لها مقابلها النقدي.
ولكن التجربة تقول أن الذين نفذوا من ثقب الإبرة وقفزوا للصدارة من خلال تداولهم إعلاميا وفتح مجال النشر في الصحف ودور النشر أمامهم هم قلة قليلة جدا من المدونين، في حين ظلت الأغلبية الساحقة تكتب لأجل الكتابة وتمارس هوايتها مكتفية بتعليقات ال
تشجيع أو الشتم التي تصلها، وببعض الصداقات التي فتحها المجال أمامها.
وهذه الفئة الباقية خصوصا من الذين يرون في كتاباتهم القدرة على المنافسة وبالتالي القدرة للانتقال إلى مجال يتسم بالتمركز والتركيز والاحتكارية ( صحف، مجلات، دور نشر، فضائيات ) هذه الفئة المتطلعة، لا تزال تكتب ولكنها تعيش إحساسا لا يقاوم بالإحباط والشعور باللاجدوى، وما استمرارها إلا لأنها تنتظر الفرصة التي لن تفوتها للقفز نحو الضفة الأخرى والانقلاب على شرط وجودها الأصلي المرتبط بالحرية والفردية والمسؤولية الذاتية واللامنفعية.
والحالة هذه سنرتقب اختفاء الكثير من المدونات العربية الجادة بنفس الدرجة التي تختفي بها مدونات الفرفشة والدردشة.
وتزايد عدد المدونات ليس دليل نجاح ولا دليل قدرة على احتلال ارض جديدة يثبتها المدونون، بمقدار ما هو ترجمة طبيعية لتزايد مستعملي الانثرنث وتزايد المجربين للتقنيات الجديدة والباحثين عن فضاء يجعل أسماءهم متداولة في محركات البحث، أي انه في النهاية ليس سوى إرضاء لنزوات ونرجسيات سرعان ما يدرك أصحابها لا جدواها، فيركنون للصمت أو يستمرون بحثا عن فرص أوسع للظهور.
وهنا لا يبقى سوى المقتنعون بأهمية التدوي
ن كفعل انقلابي ضد الثقافة المكرسة رغم أن الكثيرين غيرهم يشاركونهم الفضاء التدويني دون أن تعني المشاركة هنا النظر للفعل التدويني نظرة مشتركة.
ورغم بقاء هؤلاء المقتنعين على دين التدوين، فإنهم بكل تأكيد لن يفوتوا فرصا تأتيهم ليكونوا مشاركين في فوضاءات أخرى غير تدوينية ومرتبطة بالمنطقة المحتكرة من طرف اؤلئك المكرسين إعلاميا وفكريا وهنا سنكون أمام احتمالين نظرا لاختلاف شروط وجود كل فئة، ( فئة المدونين من جهة وفئة الكتاب الآخرين من جهة ثانية ) الذي ينتج عنه اختلاف الرؤية والطرح واختلاف الإحساس بالحرية كشرط إبداعي يزعم كلا الطرفين أنهما يمتلكانه دون أن يشعرا بالقيود الذاتية والموضوعية، المرئية والشفافة التي تقلص من هامش الحرية المتاح.
الاحتمال الأول: والتجارب السابقة لانتقال مدونين نحو منطقة الاحتكار الإعلامي قد أثبته هو إفراغ روح التدوين المتسم بكثير من الحرية والمسؤولية الفردية المتعلقة بالضمير فقط، من محتواه، وتحول المدونين وهم يكتبون في الصحف ويتحدثون عبر القنوات الفضائية إلى مجرد مبررين وبراغماتيين وأناس أخلاقويين ينقلبون على قناعاتهم السابقة بشكل يدعو للحيرة.
الاحتمال الثاني: يجعلنا نأمل بان يستطيع أولئك الذين تمرسوا على الكتابة عبر المدونات من أن يطعموا الخطاب الثقافي والإعلامي العربي بأفكار جديدة وطروحات تتسم بحرية اكبر، وهذا يظل مجرد حلم لم يلتقي بالواقع بعد.

ردود على "التدوين وشرط الحرية"

أترك تعليقا

conter