الجمعة، أبريل 18، 2008

الطاهر وطار

بتاريخ 8:55 م بواسطة عمار بن طوبال



الطاهر وطار أو الرواية كمشروع نقدي اتجاه السلطة و المجتمع
يعتبر الطاهر وطار بحق الأب المؤسس للرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية واستحقاقه لهذه المكانة ليس مرتبطا فقط بالأسبقية التاريخية بل بطبيعة أعماله التي مثلت مثالا يتحدى لجيل كامل من الروائيين الجزائريين في فترة السبعينات
فمن ناحية الأسبيقة التاريخية فقد كانت رواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة هي أول رواية جزائرية مكتوبة بالعربية تحمل كامل المواصفات الفنية للرواية . هذه الرواية التي سبقتها محاولات كثيرة لتوطين الفن الروائي جزائريا بلسان عربي لكنها – اي تلك المحاولات – كانت تفتقد للكثير من العناصر الفنية المشكلة للرواية بمفهومها الذي ظهرت عليه في الغرب .
ولكن قبل أن نبدأ في تحليل الأعمال الروائية للطاهر وطار أو عمي الطاهر كما يسميه كل معارفه هنا بالجزائر، من حق البعض أن يتساءل : من هو الطاهر وطار؟.
الطاهر وطار من مواليد 15 أوت 1936 بضواحي مدينة سدراتة ولاية سوق اهراس بالشرق الجزائري ، بدا مشواره التعليمي بمدرسة مداروش التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ثم بمعهد بن باديس بقسنطينة لينتقل بعد ذلك لجامع الزيتونة بتونس مقصد طلاب العلم الجزائريين الذي يرغبون في إتمام دراساتهم العليا، فالجزائر في تلك الفترة لم تحتوى على أي مدرسة أو معهد خاص بالدراسات العليا .
الطاهر وطار التحق في سنة 1956 بالعمل الثوري في صفوف جبهة التحرير الوطني التي كانت تخوض بمعية كل الشعب الجزائري معركة حاسمة ضد المستعمر الفرنسي بغية افتكاك الاستقلال الوطني الذي تحقق سنة 1962، وهي نفس السنة التي أسس فيها الطاهر وطار جريدة " الأحرار" التي أوقفتها السلطات بعد سبعة أشهر من صدورها، لينتقل بعد ذلك من قسنطينة إلى العاصمة حيث أعاد تأسيس جريدته من جديد بعنوان " الجماهير" والتي ما لبثت السلطات أن أوقفتها هي الأخرى .
عمل الطاهر وطار كمراقب في حزب جبهة التحرير الوطني طوال الفترة الممتدة من 1963 إلى غاية 1983 ليحال بعد ذلك على التقاعد وهو لم يتجاوز الـ 47 سنة .
في سنة 1989 السنة التي شهدت حراك سياسي وثقافي واجتماعي كبير بالجزائر كانت لها تبعات كبيرة وخطيرة على الجزائر لاحقا أسس الطاهر وطار بمعية عدد كبير من المثقفين الجزائريين الجمعية الثقافية الجاحظية التي يتولى رئاستها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا .
كما عين وطار في سنة 1991 مديرا للإذاعة الوطنية .
هذا باختصار المسار العلمي والمهني للطاهر وطار فماذا ن مساره الإبداعي الذي تميز بالكثير من التفرد في الساحة الثقافية الجزائرية والعربية .
ألف الطاهر وطار لحد عشر روايات وهي على التوالي:
اللاز – الزلزال –الحوات والقصر – رمانة – تجربة في العشق – عرس بغل – العشق والموت في الزمن الحراشي –الشمعة والدهاليز –الولي الطاهر يعود لمقامه الزكي – الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء.
كما صدرت له ثلاث مجموعات قصصية هي :
دخان من قلبي – الطعنات – الشهداء يعودون هذا الأسبوع .
وألف كذلك مسرحيتين هما :
الهارب – على الضفة الأخرى .
هذا بالإضافة إلى كتاب عن سيرته الذاتية صدر سنة 2006 بعنوان " أراه "
قراءة في بعض أعمال الطاهر وطار
تصدر أهمية الطاهر وطار في المتن الروائي الجزائري والعربي عن أمرين : الأول أنه مع مجايليه عبد الحميد بن هدوقة وزهور ونيسي كتب أعماله الرائية بالعربية بعد أن كانت الفرنسية هي لغة التعبير الأدبي عند جيل كامل من الأدباء الجزائريين ( محمد ديب، كاتب ياسين، اسيا جبار، مولود فرعون، مالك حداد، ....) .
الثاني هو أن الطاهر وطار قدم في روايته الأولى " اللاز" أفضل تأريخ روائي للشروط التي حتمت قيام الثورة، وتابع قدرا كبيرا من أحداثها.
الكثير من النقاد يعتبرون " اللاز" أفضل عمل روائي جزائري مكتوب بالعربية لحد الآن، ليس فقط بالنسبة للطاهر وطار أنما بالنسبة للمتن الروائي الجزائري المكتوب بالعربية بأكمله.
في " اللاز" البطل ليس شخصا بعينه، إنما هو الشعب بأكمله وهو الثورة أيضا . " كانت الحياة تمضي برتابة كمرآة صقيلة وإن كانت مليئة بالخدوش " هكذا كانت حياة الجزائريين قبل الثورة، كان أفراد الشعب يكدحون طوال اليوم، ثم يسرقون لحظات للحب والأحلام والسكر وحياكة المؤامرات الصغيرة ضد بعضهم البعض، في القرية التي تدور فيها أحداث الرواية كان هناك: حمو الحمامجي المسحوق تحت وطأة حياة تستغله بلا رحمة ولا أمل له في لا مستقبل فهو يعيش عيشة أقرب لحياة البهائم عيشة في مستواها البيولوجي فحسب دون ترتقي للمعنى الإنساني للحياة ، هناك أيضا زيدان المناضل الشيوعي والذي يتميز بحضور كثيف في الرواية، وأيضا بعطوش المجند في الجيش الفرنسي والذي يقوم بأكثر الأعمال انحطاطا وأيضا هناك اللاز هذا اللقيط الشريط المتمرد والإشكال المطروح على القرية منذ ثلاثة وعشرين عاما، فهو - أي اللاز- في مواجهة ازدراء الناس له يتحول إلى طاقة عدوان رهيبة يخشى الجميع بطشه وبأسه .
بالإضافة إلى غير هؤلاء من الشخصيات الثانوية.
في هذه الظروف تفجرت أحشاء الشعب بالثورة التي راحت تفرض منطقها وتغير من رتابة الحياة العادية شيئا فشيئا، فبعد أن كان الشعب غارقا في حياته الرتيبة ولا مبالاته تتغير الأمور ولم يعد أمام هذا الشعب إلا خيار : " فات الحال إما وإما الشامي شامي والبغدادي ... الذبح من جهة والرصاص من جهة ثانية فأيهما تختار " هذا هو السؤال الذي يطرحه أفراد الشعب بعضهم على بعض. الشعب اختار الثورة بعد أن تأكد من أن هذا العمل الذي يقوم به حمو وزيدان وكل الفقراء من أبناء الشعب عمل جاد وعظيم ولابد أن يغير الأوضاع حقا.
اللاز بعد أن التقى زيدان وعرف منه حقيقته الضائعة وهويته وأنه ليس لقيطا إنما هو ابن زيدان. كون شبكة لتهريب المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي وإلحاقهم بالجبال مستغلا علاقته بالضابط الفرنسي المسؤول عن الثكنة . حمو يلتحق بالثورة أيضا . حتى بعطوش بعد سلسلة من الخيانات والأعمال الدنيئة يهرب للخمر والجنون ولكنه يجد خلاصه ذات ليلة في الثورة، فيقوم بقتل الضابط الفرنسي، ويتمكن رفقة مجموعة من المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي من تدمير الثكنة وقتل معظم الجنود الفرنسيين والالتحاق بالجبل بالثورة.
ولكن ولأن الثورات تقتل أبناءها وأنبياءها أيضا فإن زيدان – الشخصية الرئيسة في العمل والأكثر حضورا وتأثيرا – يقتل ذبحا من طرف الثوار بعد أن رفض الانفصال عن الحزب الشيوعي الجزائري، ومعروف أن الحزب الشيوعي الجزائري قد تبنى موقف الحزب الشيعي الفرنسي اتجاه الثورة ، حيث اعتبرها عملا من أعمال التخريب والإخلال بالأمن العام، وكان شرط جبهة التحرير الوطني أن ينظم الأفراد للثورة فرادى متجردين من انتماءهم السياسي، وهذا ما حدث مع زيدان ومجموعة من رفاقه في الحزب الشيوعي من فرنسيين واسبان الذين كانوا يرون في الثورة عمل نبيل يسعى لتحقيق كرامة الإنسان. لكن انضمامهم الفردي للثورة لم يصبحه انسلاخهم عن الانتماء السياسي للحزب الشيوعي، وهذا ما كانت ترفضه جبهة التحرير الوطني، ومن هذا المنطلق وقع الصدام بين زيدان ورفاقه الشيوعيين من جهة وقيادة الثورة من جهة ثانية، هذا الصدام الذي كانت نتيجتيه إعدام زيدان بمعية رفاقه وأمام عيون اللاز الذي ظل يقف مشدوها لا يصدق عينيه انفجرت الدماء من قفا أبيه صاح في رعب: "ما يبقى فالواد غير حجاره" وهو مثل شعبي جزائري يعني لا يصح إلا الصحيح.
يقول الطاهر وطار أنه ظل منشغلا بكتابة هذه الرواية سبع سنوات من 1965 إلى 1972 ولم تصدر إلا سنة 1975 ويقول أيضا أنه ظل بعد نشر هذه الرواية لمدة أسبوعين ينام بملابسه متوقعا ان يطرق بابه في اية لحظة من طرف رجال الأمن، فالرواية تطرقت لاول مرة للتصفيات الجسدية التيو وقعت اثناء الثورة للبعض ممن خدموا الثورة خدمات جليلة ولكنها كافأتهم بالإعدام، وهذا ما لم يكن يقر به التاريخ الرسمي الذي وضعته الدولة لفترة الثورة.
قبل صدور هذه الرواية صدرت للطاهر وطار مجموعتان قصصيتان هما: "الطعنات"( الجزائر 1974) ، و "الشهداء يعودون هذا الاسبوع" (بغداد 1974). وفي سنة 1973 كتب روايته الثانية " الزلزال" حول الثورة الزراعية وتأميم الأراضي وسعي الإقطاعية من خلال شخصية عبد المجيد بولرواح (بطل الرواية ) لإفشال هذا المسعى الذي تقوم به الدولة الجزائرية. ثم يعود الطاهر وطار ليتذكر اللاز فكتب رواية " العشق والموت في الزمن الحراشي" (بيروت 1980) ووضع على الغلاف بأنه الكتاب الثاني للاز ، يعود الكاتب هنا لوصل ما انقطع من تاريخ اللاز الذي عاد مع العائدين في مطلع الاستقلال يبشر بزوال وضع وحلول وضع آخر، وفي حين راح الجميع يغيرون من وضعهم ويهتمون بأنفسهم وشؤونهم غارقين شيئا فشيئا في متاع الدنيا ولذة الحياة، بقي اللاز على الهيئة التي عاد بها رافضا كل الرفض تغيير البدلة العسكرية التي يرتديها صيفا وشتاء مرددا صيحته الأخيرة: "ما يقى فالواد غير حجاره".
تدور هذه الرواية حول واقع الجزائر في فترة الاستقلال، حيث سعى الرئيس بومدين ونظامه السير في طريق الاشتراكية بادئين بالأرض من خلال اثورة الزراعية. ومن خلال الطلبة المتطوعين في اعال التوعية بأهمية هذه الثورة في صفوف الفلاحين. في هذه الراية يرسم الطاهر وطار بانوراما للواقع الجديد محددا القوى المتصارعة فيه بين القوى المؤيدة للاشتراكية والقوى المناوئة لها؛ على رأس الفئة الأولى يقف الشيوعيون وبعض المسؤولين على قلتهم وكذا الروائي، وعلى رأس الفئة الثانية يقف بعض انصار الاسلام السياسي الذي بدا يبرز بشكل ملفت في مطلع سعييات القرن الماضي وبعض المستفيدين من الوضع القائم من الإقطاعيين وكبار ملاك الأراضي بالإضافة لبعض المسؤولين أيضا.
يظل اللاز هو الحاضر الغائب في هذا الجو المشحون بالامال والصراعات بعد أن تحول إلى رمز للقرية يكاد يصل إلى درجة التقديس؛ لكنه يعود لوعيه بعد أن كان شاهدا على معركة صغيرة دارت بين الطالبة الشيوعية جميلةوالطالب ذو التوجه الغسلامي الذي حاول تشويه وجهها بالحامض، جرحت ذراع جميلة وتناثرت قطرات من الدم ذكرت اللاز بأبيه والسكين تحز قفاه فصاح صيحته الواحدة وسقط مغشيا عليه وعندما افاق عاد للحياة التي هجرها من عشر سنوات.
أراد الطاهر وطار أن تكون نهاية اللاز والرواية سعيدة لان اللاز هو الشعب والشعب هو المستقبل.
في أواسط السبعينات كتب وطار روايتين نالتا شهر كبيرة عند قرائه فطبعا أكثر من طبعة في أكثر من عاصمة عربية.
"الحوات والقصر" ثم " عرس بغل" وهما من أكثر أعمال وطار إنسانية وعذوبة ربما لابتعادهما عن التسييس والأدلجة التي ميزت أعماله السابقة .
عند هاتين الروايتين تنتهي مرحلة كاملة من أعمال الطاهر وطار حيث ابتدأ وطار أعماله كاتبا مولعا بالخيار النضالي المتاح وقتئذ، فلم يستطع التخلص من التموقع الايديلوجي كمثقف عضوي على حد تعبير أنطيونيو غرامشي . واستغرقته تفاصيل المناضل بشيء من الاحتشاد غير العفوي حتى غدت الرؤية الفنية لديه مؤطرة بشكل مكثف فلم ينتيه عند الاحتفاء بصورة المناضل بل أسهم أيضا في إخراج صورة الإقطاعي ( خصوصا في روايته الزلزال) على نحو رتب الامور لميلاد الرواية المؤدلجة التي ميزت أغلب كتابات روائيي الجيل السبعيني .
المرحلة الثانية في أعمال وطار تبدا مع رواية " تجربة في العشق" ( سنة 1989) هذه الرواية التي يقول عنها فاروق عبد القادر بان الدافع الأساسي لكتابتها هو " تصفية حسابات مع نظام ابعده عن عمله وأجبره على التقاعد وهو بعد لم يبلغ الخمسين".
في هذه الرواية صور وطار العلاقة بين المثقف الجزائري والسلطة، وهي علاقة تعاون في مرحلة سرعان ما تنقلب إلى صدام حينما يفصل البطل عن عمله كمستشار بوزارة الثقافة ( وطار أيضا كان مراقبا بالحزب الواحد واحيل على التقاعد ). تطلعنا هذه الرواية على النقد اللاذع للسلطة ومحاولة فضحها وتعريتها لتنكشف حقيقتها وألاعيبها؛ فالعلاقة بين المثقف والسلطة علاقة لا تفاهم ، وهي علاقة يحاول فيها القوي/ السلطة أن يتسلط ويفرض آراءه، ويحال الضعيف / المثقف أن يفلت من جبروتها. إذا هي حرب بين المثقف المدافع عن استقلاليته والسلطة التي تحاول استقطابه وتدجينه؛ هذه الحرب التي توصل المثقف – لأنه ضعيف حيال السلطة - إلى الاغتراب ثم الجنون في اخر المطاف والحالة هنا ليست حالة الجنون العادي الذي قد نتوهمه ، إنما هي حالة جنون لم تفقد وعيها بالكامل وهذه الحالة هي التي تسمح للبطل/المثقف/المجنون بأن يمارس انتقاده وانتقامه – دون خوف – من السلطة بفضحها وتعريتها.
في التسعينات كتب وطار عملين هما "الشمعة والدهاليز" (1994) ثم روايته ما قبل الأخيرة لحد الآن " الولي الطاهر يعود على مقامه الزكي ". والعملان يشتركان في نقطة واحدة هي أنهما مكتوبان بعد صعود الحركات الإسلامية في الجزائر، وهما يناقشان هذا الصعود بالذات.
بطل الشمعة والدهاليز شاعر وأستاذ في علم الاجتماع ( يوسف سبتي صديق ورفيق الطاهر وطار في تأسيس الجمعية الثقافية الجاحظية والتي اغتلته جماعات مسلحة في مطلع التسعينات)، يقيم وحيدا أخرجته هتافات الإسلاميين عن يساريته؛ يجد نفسه في ساحة اول ماي التي أطلق عليها الإسلاميون اسم ساحة الدعوة، أمام تلك الوجوه المكسوة باللحى يتساءل البطل: " لو كان لينين مازال حيا لتساءل: ماذا سيخسر هؤلاء الجياع لو انتصروا باسم الله".
الروائي يسير بنا الأمام ويتنبأ بانتصار الإسلاميين وقيام الدولة الإسلامية التي يعين أستاذ علم الاجتماع والشاعر وزيرا ضمن طاقمها الحكومي؛ لكنه يحكم عليه بالإعدام بعد أن توجه ل مجموعة اتهامات كلها لها علاقة بالدين والإلحاد والشيوعية.
في هذه الرواية نقد لفترة حكم حزب جبهة التحرير الوطني/الحزب الواحد وبحث عن بديل حتى ولو ان هذا البديل هو الدولة لسلامية كما مثلتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مطلع التسعينات، التي كانت ترى – بكثير من الفكر المنغلق على ذاته – أن لا مكان في الجزائر لغير الإسلاميين.
الطاهر وطار لا يغادر فترة صعود الحركات الإسلامية في الجزائر وفي كامل العالم العربي والإسلامي ويفرد لهذه القضية رواية أخرى هي " الولي الطاهر يعود لمقامه الزكي"، هذه الرواية التي استعار الطاهر وطار من خلاله قاموس الصوفية ليكتب عملا ذو نكهة تصوفية حادة، وهي – أي الرواية – منذ البداية توحد بالنبي أمام المقام الذي يعود أليه، المقام الذي أسسه عباد الله الصالحين الهاربين بدين الله بعد أن انتشرت عدوى الفسق والفجور. في هذا المقام يجمع الشباب إناثا وذكورا " نلقنهم دينهم ونزوجهم ونعمر بهم الريف وننشئ أمة محصنة" في إشارة إلى دعوة الهجرة والتفير التي ترفعها بعض حركات الإسلام السياسي.
في هذه الرواية نرى الولي الطاهر يخوض الحرب مع المجاهدين في أفغانستان ثم يخوض حروب الردة مع خالد بن الوليد، ثم نراه في القاهرة حيث يتوحد مع من طعن نجيب محفوظ، وبمن يطلق الرصاص على السواح في الأقصر وأمام المتحف، ثم يشارك في غزوة بحي الريس بالجزائر العاصمة حيث تقوم مجموعة من الإسلاميين بمهاجمة حي شعبي وتصفى المئات من السكان جسديا هجوم أو غزوة شعارها " لا حي في الحي ".
إنها رواية تعتمد على التداعي الحر- كما في رواية تجربة في العشق – إلى درجة يضيع فيها الخيط الرابط بين الأحداث، فالخيط المركزي الرابط بين أحداث الرواية هو الولي الطاهر فقط.
في هذه الروايات الثلاث التي تمثل المرحلة الثانية من أعمال الطاهر وطار يفقد الروائي الكثير مما يميز أعماله السابقة من وضوح في الرؤية على المستوى الفكري والصلابة والتمسك على المستوى الفني وكذا الدافع الأيدلوجي الذي ظل من خلال أعماله الأولى يطعم به رواياته كلها؛ وما يميز هذه الأعمال الأخيرة هي انسيابيتها الأسلوبية التي لا تخلو من التجديد مقارنة بأعماله السابقة.
رؤية العالم في روايات الطاهر وطار:
ما هي التيمة الأساسية التي ينطلق منها وطار في صياغة أعماله الروائية ؟
لم يكتب وطار روايات، بل عمل على التأسيس لمشروع روائي واحد، إذ كل رواية تحيل على رواية أخرى وإذ الروايات جميعا التي كتبها لحد الآن (10 روايات) تحيل على مشروع روائي لم يكتمل بعد، مشروع روائي قائم على الإنصات الفطن والواعي لنبض المجتمع والتعبير عن هذا النبض بأسلوب لا يفتقد الرؤية الناقذة القادرة على النفاذ لجوهر الأشياء باقتدار في معظم الأحيان وبقليل من التوفيق في أحيان أخرى.
إن وطار ينطلق في معظم أعماله من رؤية انتقادية اتجاه الأشياء، رؤية انتقادية اتجاه السلطة واتجاه المجتمع أيضا، فوطار كتب روايته الأولى " اللاز" كتأريخ معارض للتاريخ الرسمي للثورة الجزائرية، بدأها بإهداء إلى جميع الشهداء وهي أشارة الى من همشهم التاريخ الرسمي للثورة التحريرية بتناسيهم تماما وتركيز وطار على شخصية زيدان المناضل الشيوعي إيحاء كبير بالدور الذي لعبه الشيوعيون في الثورة، رغم أن التاريخ الرسمي للثورة لا يشير بتاتا لهذا الدور ويركز على جبهة التحرير وعلى الشعب دون تفصيل، في هذه الرواية رغم أن وطار كان موظفا في أجهزة الحزب الواحد/الحاكم إلى أنه حاول كمثقف نقدي إعطاء قراءة مغايرة لأطروحات الحزب/النظام.
لم يتوقف وطار عن الإنصات لنبض المجتمع وحراكه الكبير, إذا أن المجتمع الجزائري مجتمع ديناميكي يتميز بسرعة الحركة والتغير على عكس بعض المجتمعات المغاربية ( تونس والمغرب) التي تتميز ببعض الثبات الذي يتيح دراسة متأنية للمجتمع، على عكس هذه المجتمعات يتميز المجتمع الجزائري بحراك متسارع يصعب من مهمة دراسته دراسة علمية من طرف العلوم الإنسانية, ومن هنا تنبرز أهمية الـتأريخ الروائي للمجتمع الذي قام به الطاهر وطار وغيره من الروائيين الجزائريين الذين جعلوا من أعمالهم الروائية وثائق تفيد باقي العلوم في دراسة المجتمع الجزائري, وهذه ميزة من مميزات الروايات العظيمة أنها تستطيع أن تعطينا صورة واضحة رغم ما فيها من خيال عن الفترة التاريخية التي تتحدث, نحن نستطيع أن نتعرف على المجتمع الفرنسي لنهاية القرن التاسع عشر في أعمال بلزاك كما نعرف المجتمع المصري من خلال أعمال نجيب محفوظ أكثر مما نستطيع معرفته من أي كتابات أخرى تاريخية أو اجتماعية, كما قد تعطينا رواية لمن تقرع الأجراس لارنست همنجواي صورة مفصلة عن الحرب الأهلية الاسبانية, وفي نفس الوقت تعطينا روايات الطاهر وطار صورة عن جزائر الاستقلال قريبة جدا من الواقع وقادرة على إفادتنا بأشياء لا نستطيع الحصول عليها من كتب التاريخ ودراسات علماء الاجتماع, لأنها صورة تحكي عن البسيط من الأشياء عن حياة عامة الناس البسطاء في سياق شمولي يدرج التغيرات السياسية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع.
قدم الطاهر وطار في فترة التسعينات التي شهدت انفلاتا سياسيا وأمنيا رهيبا بالجزائر واحدة من أكثر أعماله جرأة وتميزا إنها رواية الشمعة والدهاليز, فوطار من خلال هذه الرواية يعتبر المثقف الوحيد تقريبا من المثقفين الجزائريين الذين وقفوا إلى جانب الإسلاميين ودافعو عن حقهم في الوصول إلى السلطة بما أن الشعب قد أنتخب لصالحهم, هذا الموقف الذي جلب على وطار نقمة الكثرين وخاصة من فئة المثقفين السلطويين الذين لا ينتجون شيئا إلا حين يوحي لهم النظام بذلك, وانطلاقا من هذا الموقف السلبي الذي اتخذه معظم المثقفين الجزائريين اتجاه الطاهر وطار انقلب هذا الأخير إلى شخص إشكالي في الحقل الثقافي الجزائري؛ فلا منتقديه استطاعوا تجاوزه او التخلص من ابويته الفكرية التي كرسها من خلال مشاوره لفكري الذي قارب النصف قرن ولا هم استطاعوا مصالحته وتناسي موقفه اتجاه الإسلاميين الذي اعتبروه نشازا وكفرا فكريا ينبغي التوبة عنه, ولا هو كان مهادنا معهم فوطار ليس مجرد روائي يكتب روايات لتركها تتحدث عنه تصنع مجده أو تجعله نسيا منسيا, إنه أيضا موقف معادية للفرانكفونية في الجزائر وهو بهذا الموقف يعادي كتلة كبيرة من صناع القرار ومن المثقفين الجزائريين.
قد يكون وطار مصيبا في رؤاه للمجتمع الجزائري ومقتنعا بشيوعيته الغريبة التي لا يكف عن الدفاع عنها, كما قد يكون مخطأ في بعض أو في كل رؤاه, لكته في النهاية يبقى واحدا من أبرز الروائيين الجزائريين الذين يكتبون بالعربية, وهو أيضا واحدا من الروائيين العرب القلائل الذين استطاعوا بأعمالهم أن يحدثوا شرخا في أوساط قرائهم بين مؤدين إلى درجة التقديس ومعارضين إلى درجة تمني الموت لهذا الشيخ الذي لا يكف عن مفاجأتنا بكل ما هو غير متوقع سواء من خلال رواياته
أو من خلال تصريحاته النارية التي يجيد اختيار توقيتها بدقة لتحدث ردات فعل لا يمكن تلافيها كما لا يمكن تلافي أبويته الفكرية في الحقل الروائي الجزائري الحديث.

ردود على "الطاهر وطار"

أترك تعليقا

conter