الجمعة، أبريل 17، 2015
أساطير جزائرية: اللي قرا قرا بكري
بتاريخ 10:59 م بواسطة عمار بن طوبال
مالذي يجعل التعليم منبودا بهذا الشكل من لدن فئات واسعة من الجزائريين، حتى "عامة المتعلمين" أنفسهم لا يثقون أنهم يمتميزون، نتيجة ما يكتسبونه من معارف، عن غيرهم من الذين لم تتح لهم فرصة تحصيل تعليم مقبول، فالجزائري يؤمن بأن اللي قرا قرا بكري، دون أن تكون فكرة تجاوز العلم كخبرة مكتبسة وذات مردودية مجتمعية واضحة في وعيه، فهو عاجز عن تحديد مرجعية زمنية لهذا " البكري"، إنه لا يفكر في الأمر أصلا ولا يتعب نفسه في طرح التساؤل الجوهري حول الفرق الأساسي بين الآن وبكري، ولماذا قراية ( تعليم) الآن مرفوض اتكاءا على قراية زمان ؟. فتعليم زمان هو المرجعية وهو الأصل وهو المبتغى أو ما يجب أن يتسم به المتعلم ويحصله من معارف، ومن ثم ما يستطيع تأديته من وظائف اتكاءا على ما حصله من تعليم، دون أن يكون للفرد المتلفظ بهذا المثل دراية عن طرائق التعليم زمان وعن طبيعة المعارف المقدمة للمتعلم، ولا عن الدور الذي يشغله لمتعلم في المجتمع، إلا ما كان من تصورات بسيطة ومسطحة عن مكانة " الطالب " في المجتمع، والتي هي مكانة تبجيل وتقدير مجتمعي نتيجة ما يمتلكه هذا " الطالب " أو المتعلم من معارف دينية "بسيطة" تساعده على تبؤ صدارة بعض التجمعات، كالصلاة بالناس أو الخطبة وتفسير بعض الأحاديث وأحكام الدين الحنيف، وهي وظيفة جد خطيرة ولكنها بسيطة بساطة المجتمع التقليدي الذي لم يكن بحاجة لما نسميه الآن " القراية " أي نظام تعليمي يلبي احتياجات المجتمع لليد العاملة المؤهلة للقيام بوظائف متشعبة ومتنوعة وتتجاوز في معظمها العمل اليدوي الذي كان هو السائد في المجتمعات التقليدية التي كان " الطالب " يعد من نخبتها وممثلا للمعرفة فيها؛ المعرفة التي يشكل العلم الديني عمدتها. فمفهوم العلم قديما، وخاصة في المجتمعات المسلمة التي لم تعرف ازدهارا حضاريا كالمجتمع الجزائري، كان يعني حصرا العلم الديني وما يتفرع عنه من معارف تكون مساعدة له حتى وإن بدت في الظاهر مستقلة عنه كالرياضيات التي كان تدريسها يتم لغاية ديمية جوهرية وهي تلبية حاجيات "الفريضة " أو تقسيم المواريث، فالمفهوم المعاصر للعلم في العربية لم يكتسب وجوده إلا منذ فترة ليست بالطويلة، مما يجعل العودة إلى المعنى الأصلي والقديم لكلمة علم، عودة للأصل، وهي عودة تنفي ضمنيا، الدور الحديث للعلم المعاصر الذي يعانق المجتمع والناس وآفاق الكون، ملقية به في أحضان الدين الذي يتحول في حالتنا الجزائرية الراهنة، التي تحاول إرجاع العلم الحديث إلى الأصل الديني القديم من خلال المثل: " اللي قرا قرا بكري "، إلى مصدر شرعية ذات طبيعة متعالية ومرجعية لا يمكن لأي علم ينفي الانتساب إليها بشكل قاطع وأخذ بركتها، أن يحضى بقبول جمعي من لدن أفراد المجتمع، لهذا يكثر عندنا كعرب القرن العشرين والواحد والعشرين مفهوم التأصيل كلما تناولنا علما من " علوم الغرب" التي استطاعت النفاذ إلى منظومتنا التعليمية والجامعية، والتأصيل عملية علمية تؤديها النخب الأكاديمية كرد فعل على الإنكار الاجتماعي الذي تجابه به "العلوم الوافدة"، وكتأكيد على الأصالة والعودة نحو أصل نعتقد أنه موجود في الماضي فإن لم نجده اختلقناه ارضاءا للنزوع الماضوي لشعب لا يزال يصر بأن اللي قرا قرا بكري.
ذلك الأصرار على ماضوية غير محددة الصفات ولا واضحة في وعي من يصر على العودة إليها، تنفي عن المتعلم أية مشروعية ومن ثمة تجعل دوره الاجتماعي منفصل بشكل تام عن الدور الذي لعبه المتعلم منذ قرن فقط، وهذا الانفصال هو منبت التشكيك في جدوى ما يتعلمه هذا الفرد وما بتكسبه من معارف، مادام الوعي الشعبي مشدود نحو النموذج والمثال القابع في الماضي مجللا بالأبهة والوقار والتبجيل الذي يجعل أنموذجيته حقيقة لا يطالها التشكيك في وعي عامة الناس الذي يحتقب معاني خاصة محمية بهالة من التبجيل ومحاطة بتصورات عن نجاعتها الاجتماعية تجعلها طابو لا يمس. تلك النجاعة التي كانت مؤكدة وحقيقية في فترات سابقة لكنها فقدت إمكانية الوجود في حاضرنا دون أن تفقد انموذجيتها في المخيال الجمعي الذي يتكيء عليها لإدانة مخرجات الحاضر المتهم كمنظومة بالمروق والهرطقة مقارنة بالماضي الأليف والحميمي والفردوسي الذي يعيد المخيال الجمعي إنتاجه بشكل مستمر مصبغا عليه كلما تباعد الزمن صفات لم تكن فيه.
في الوعي الشعبي الجزائري ارتبط العلم وما يتفرع عنه من عمليات اجتماعية: تعلم، تعليم، خطابة، فتوى، طبابة ... بغايتين: وجاهة دنيوية وحسن عاقبة في الآخرة، وهذا التصور المغرق في تقليديته يمزج العلم بالدين ويجعل من الأول خادما للثاني، فالمتعلم إلى وقت قريب كان هو " الطالب " بالمعنى الدارج للكلمة والتي تعني بشكل يكاد يكون حصريا طالب العلم الشرعي أو حافظ القرآن، وهذا المعنى الذي اتخذته الكلمة يرجع إلى طبيعة نظام التعليم في الجزائر، الذي كان، ولقرون طويلة، يضم العلم الشرعي وما يتفرع عنه على رأس المعارف التي يتم تلقيها وتداولها بين طلاب العلم. وهذا النظام التعليمي الذي استمر لقرون طويلة قبل أن تهدمه تدريجيا المدرسة الفرنسية، وتقضي عليه بشكل كامل المدرسة الجزائرية عقب الاستقلال باستثناء ما ظل يسمى بالتعليم الأصلي والذي حافظ على غايته الدينية من خلال بقائه تابعا لوزارة الشؤون الدينية بدل وزارتي التربية الوطنية والتعليم العالي من جهة، ومن جهة ثانية حافظ على مخرجاته التي لم تتعارض من التصور الشعبي عن "الطالب" الذي يتعلم الأمور الدينية من أجل تثقيف المجتمع دينيا، وهو الدور الذي يقوم به الأئمة والمرشديين الدينين من خريجي معاهد التعليم الأصلي، في الوقت لذي سارت فيه المدرسة في اتجاه " علماني " قطع بشكل حاد مع نظم التعليم القديم الذي توطد مؤسساتيا ومخياليا خلال الفترة التركية من تاريخ الجزائر واستمر كنوع من المقاومة خلال الفترة الاستعمارية، وطبيعته المقاومة والتي رسختها جمعية العلماء المسلمين، هي التي وطدت مكانته التي تمس في المخيال الجمعي، ومن ثم تحوله، أي التعليم القديم تاع بكري، إلى مرجعية ونموذج شديد التعارض مع طبيعة التعليم الحالي ذو الطبيعة العلمانية غير المعلنة، وذو الأهداف المتجاوزة بشكل كبير لأهداف التعليم القديم، وهذا ما يجعل مقولة: اللي قرا قرا بكري تكتسب مشروعيتها في الوعي الشعبي الجزائري كأسطورة تؤثث سلوك الجزائري في الحياة اليومية.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
1 تعليق على "أساطير جزائرية: اللي قرا قرا بكري"
و عبارة لي قرا قرا بكري عبارة انضوت تحت المخيال الجمعي للمجتع الجزائري و كرسته الفئة الغلبة لهذا المجتع ذلك ان الهرمية الشعبية و بتقسيمها إلى طبقتين عامية و متعلمة نجد ان المتعلم يشكك حتى في علمه و ربما هذا عائد إلى التصورات المسبقة لهذا المتعلم في انه بعد إنهاء الدراسة و حصوله على شهادة سيجد عملا بهذه الشهادة غير ان الواقع يجده مغايرا تماما مما يحز في نفسه كره التعلم و يصير سجين الواقع و هذا ما نشاهده في اليوم و ادى هذا بالعديد من الطلبة إلى هجرة المدارس و المعاهد و الجامعات زد على ذلك ان المسؤولين و الاطارات قد لا تجد فيهم الا القليل ممن هو حاصل على تعليم عالي بل تجد المسؤول و هو لا يحمل اي شهادة يتحكم في موظفين اعلى منه شهادة و هذه الردائة المكرسة هي من دفعت بالكثير من الفئة الذكورية إلى هجر العلم و البحث عن عمل
أترك تعليقا