الثلاثاء، نوفمبر 18، 2008

تكريس الإستبداد باسم الشرعية الثورية

بتاريخ 2:13 م بواسطة عمار بن طوبال

إن أكبر النكبات التي منيت بها المجتمعات العربية الحديثة العهد بالاستقلال، والتي لا تخرج من محنة إلا لتلج محنة اشد ظلامية من سابقتها، تتمثل أساسا في حكامها المتكئين على شرعيات هشة خولتهم التأبد في الحكم، والاستبداد بمقدرات الأمة وتأميم الدولة لفائدة عشيرتهم الأقربين، هو حال كل الدول العربية بلا استثناء، وقد أعطتنا موريتانيا ذلك البلد المنسي والمهمل من الخارطة العربية ومن حسابات ساستنا، أعطتنا درسا قصيرا في الديمقراطية، لم يتسنى له أن يعمر طويلا، لان المبدأ الذي يتكأ عليه كل الحكام العرب من المحيط إلى الخليج هو مبدأ الانقلاب على كل الشرعيات التي يكون مصدرها الشعب.
وهم الشرعية الثوري:
نحن دول يحكمها العسكر، والع
سكر يسير الدولة ويعامل المجتمع بعقلية عزوز الكابران
تلك الشخصية الروائية التي أبدعها مرزاق بقطاش ليعبر من خلالها عن نقده لكل المرجعيات البائدة التي تلجأ إليها الأنظمة السياسية عندنا، والتي لا تقوم بأي عمل فعال إلا حين يتعلق الأمر بتكريس هيمنتها على المجتمع وتسخير الدولة لخدمة فئة معينة على حساب باقي الفئات الأخرى.
في الجزائر، في بلد الحزن العريض والخيبات المتوالية تتم التضحية بأول دستور ديمقراطي عرفته البلاد، بأول دستور كان نتيجة عمل نخبة من المفكرين الجزائريين ولم يكن صنيع المطابخ السياسية التي تنبعث منها رائحة النشادر المقيتة، أول دستور يقول لا للاستبداد بالحكم من طرف شخص واحد مهما كانت مقدراته، أول دستور يقول لنا وللعالم اجمع أن التداول على السلطة فعل حضاري، وأن المجتمع الجزائري الذي مر بتمزقات عميقة وأزمات حادة خرج منها مثقلا بالجراح، صار قادرا ومستعدا للتعامل بطريقة حضارية وبروح ديمقراطية مع السلطة التي تحكمه، وانه صارا مؤهلا لاختيار من يحكمه بكل حرية.
لقد تمت التضحية بدستور 1996 لأجل إرضاء نزعات تسلطية غير خفية أبداها الرئيس بوتفليقة منذ توليه الحكم، وهو الذي برع في القفز على الإرادة الشعبية وعلى البرلمان وعلى قوانين الجمهورية وأولها الدستور. دستور 1996 الذي حدد في المادة 74 منه فترة الرئاسة بعهدتين غير قابلتين للتجديد هو دستور رئيس عسكري ( اليامين زروال )، ودستور 2008 الذي قنن الحكم مدى الحياة هو دستور لرئيس مدني ( وهنا المفارقة ) صرح في عز انتصاره سنة 2004 بأن عهد المشروعية الثورية قد انتهى، وان مصدر السلطة والمشروعية لن يكون غير الشعب، ولكنه بعد أربع سنوات انقلب على دعواه تلك، وكثيرة هي انقلاباته على كل ما يدلي به من تصريحات موجهة للاستهلاك المحلي، للمواطنين البسطاء الذين لم يعودوا يستمعون له أصلا، لهذا فهو لم ير ضرورة أن يمر تعديله الدستوري على استفتاء شعبي، لان الرئيس المدني تصرف بذهنية عزوز الكابران الذي لا يجيد سوى إعطاء الأوامر للكلاب المدربة لترفع أرجلها في البرلمان وتصوت بالأغلبية المطلقة على ما قرره السيد الرئيس.
الرئيس بوتفليقة قد يكون الثوري الأخير الذي يمنحه التاريخ فرصة الدفاع عن مبدأ عزيز على النظام الجزائري وهو مبدأ الشرعية الثورية الذي شكل ومنذ لحظات الاستقلال الأولى متكأ رئيسا للنظام، باسمه يمارس استبداده وباسمه يتم إقصاء كل المنافسين الفعليين والمحتملين، فباسم هذا السند المبهم في معناه، أقصي الراحل محفوظ نحناح من سباق الرئاسيان سنة 1999، لا لشيء سوى لان الدستور ( الدستور مرة أخرى ) يفرض أن يكون الرئيس مجاهدا وثوريا لا غبار عليه. وبعد 46 سنة من الاستقلال لا يزال هناك خزان لا ينضب من المجاهدين والثوار الجالسين على كرسي الانتظار تأهبا لاستدعائهم وقت الضرورة لتبوء السلطة باسم مشروعية ثورية لا تعترف بالجيل الذي ولد بعد الاستقلال وتراه غير مؤهل لحمل أمانة الشهداء ( رفاق المجاهدين ).
من المفارقات التي يجيد التاريخ حبكها ان يتم تعديل الدستور الجزائري لتمكين الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة ( 72 سنة )من الحكم مدى الحياة في نفس الأسبوع الذي يتم فيه انتخاب باراك اوباما رئيسا لأمريكا، بكل ما يعني هذا الاختيار من طرف الشعب الأمريكي من انقلاب رهيب في الذهنية، التي وفي اقل من نصف قرن استطاعت أن تتخلص من ارث قرون طويلة من العنصرية والتمييز ضد السود، باراك اوباما لم يكن يحلم يوما قبل عشر سنوات فقط ( ربما ) بأن يصير رئيسا لأمريكا، وهو المنحدر من أصول افريقية سوداء ومن أب مسلم في مجتمع تتملكه فوبيا الإسلام.
إن أمريكا التي لا نكف عن لعنها صبح مساء قادرة على إعطاءنا نحن العرب دروسا في الديمقراطية ودروسا في التغيير، والأهم من هذا دروسا في الانفلات من ارث الماضي،
الماضي الذي لا يزال يحكمنا ويسير سلوكياتنا وإليه ننسب كل مفاخرنا، ونحوه تتجه أحلامنا المقلوبة وهو الذي يصوغ نوستاليجاتنا التي لا تنتهي، وباسمه ( باسم نفس الماضي ) تحكمنا شلة من الديناصورات المنقرضة وتستبد بنا، وتهيؤ لنا كل الظروف التي تجعلنا نلعنها بنفس المقدار الذي نلعن به أمريكا. إنه عبث التاريخ.
جيل بلا أيديولوجيا
إن جيلنا، جيل 88 البائس، الذي تفتق وعيه بالذات والتاريخ والدولة على وقع انتفاضة أكتوبر 1988 هو جيل
مأزوم، جيل بلا هوية ثابتة، وبلا ايدولوجيا تقود خطاه وتؤثث أحلامه ويوتوبياته التي ينظر من خلالها نحو المستقبل، جيل لا يؤمن بالدولة لأنها حرمته ابسط حقوقه، ولا يعنيه الماضي الثوري المجيد كثرا، لأنه باسم ذلك الماضي عانى طويلا وكثيرا، جيل لا يؤمن بكل الايدلوجيات التي وصلته عبر قنوات السلطة، ويرفض بصمت كل المشروعيات التي يتبجح بها النظام الحاكم، وهو يرفض بالذات تلك الشرعية الثورية التي لم يلتقي بها في واقعه سوى كتبرير إيديولوجي للفشل، وكأيديولوجيا خائبة وغير مقنعة ومع هذا فهي تسمح لرئيس الجمهورية أن يعترف علانية ( دون خجل ) بفشله وفشل فريقه الحكومي في تحقيق الأهداف المسطرة خلال عشرية كاملة، ولكن نفس الشرعية ونفس الإيديولوجية، تتيح لنفس الرئيس الفاشل الذهاب نحو عدة أخرى وعشرية أخرى من الفشل.
لهذا فجيلنا الذي عايش إفلاس كل المرجعيات التي يتكأ عليها النظام، كنس من ذهنه كل تلك الإيديولوجيات ومعها كنس أشياء أخرى جميلة وجوهرية في الذات الجزائرية الممزقة. لان الأنظمة المستبدة تكون قادرة وبفعالية على تشويه كل الأشياء الجميلة لدى شعوبها المغلوبة على أمرها.

ردود على "تكريس الإستبداد باسم الشرعية الثورية"

أترك تعليقا

conter