الأحد، سبتمبر 14، 2008

أزمة المثقف العربي ( 4 )

بتاريخ 2:14 ص بواسطة عمار بن طوبال

علاقة المثقف بالسياسي
كيف يمكن مقاربة علاقة شائكة وتراجيدية كتلك التي تحكم المثقف العربي بالسياسي، وتحدد العلاقة بين المجالين السياسي والثقافي، فالتاريخ العربي على امتداده يعطينا أمثلة كثيرة لمدى اتصالية وانفصالية هذه العلاقة من جهة، وتبعة المثقف للسياسي من جهة ثانية، فلم يحدث إلا في حالات نادرة جدا، أن كان المثقف شريكا للسياسي في توجيه السياسة العامة ورسم الخطوط العريضة للاختيارات السياسية والأيدلوجية العامة للدولة.
لهذا يبدوا تناول هذه العلاقة شائكا ومعقدا، لأنها علاقة غير سوية ولا صحية، فقد كان اهتمام المثقف العربي، ومازال، منصبا على ربط علاقة وثيقة مع المجتمع بغية التأثير فيه وتطعيمه بالأفكار والقيم التي ينتجها هذا المثقف أو التي يدافع عنها، وبما أن تجدر المثقف العربي في واقعه الاجتماعي ضعيف بسبب ما يسميه عبد الله العروي " بالتكوين النظري للمثقفين العرب"، فقد كانت السياسة بابا ولجها المثقف من اجل الوصول للمجتمع، وهنا وقع الاصطدام مع السياسي الذي يرغب، بسبب وظيفته في المجتمع وتمثيله للدولة وبسبب طموحاته في الهيمنة المطلقة، يرغب في احتكار منافذ التأثير على المجتمع، وقولبة هذا الأخير بالصورة التي يراها مناسبة والتي تضمن له مزيدا من الهيمنة والاستمرارية.

وبما أن حضور المجتمع والسياسة في فكر وممارسة المثقف العربي كان مهيمنا، وبالتالي كان هاجس السياسة كمجال محايث الحضور للمجال الثقافي مسيطرا على فكر وممارسة وطموح المثقف العربي، فالعلاقة بين المثقف والسلطة هي علاقة تلازم في الحضور وتنافر في الأدوار " فالمثقف والسلطة كالهواء والنار يلازم كل منهما الآخر زمن الحريق وإطفائه. إنهما يتلازمان في الضرورة والوجود. وهو المصير الذي يحكم مواجهتهما الدائمة بوصف الأسلوب الطبيعي لوجود كل منهما. فانسياق المثقف تحت عباءة السلطة أيا كان نوعها يؤدي في نهاية المطاف إلى ابتذال كل ما يقوم به. مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من فقدان روحه الحقيقي. حينذاك يكف المثقف عن أن يكون روحا. بينما لا يمكن حد حقيقة المثقف بدونه"، كما أن المثقف في احدى تعريفاته كما يوردها إدوارد شيلز، هو: "
[1] الشخص المتعلم الذي يمتلك طموحاً سياسياً للوصول إلى مراكز صنع القرار السياسي أو من خلال دوره المحوري الحاسم في توجيه المجتمع عن طريق التأثير على القرارات السياسية الهامة التي تؤثر على المجتمع ككل"([2]) ووفق هذه النظرة كانت شريحة من المثقفين ترى ضرورة اقتحام المجال السياسية بغية الوصول للمجتمع، فوفق هذه النظرة فإن " أفضل طريق لولوج المجتمع والتأثير عليه هو الدخول له من باب السياسة التي تعتبر أكثر الوسائل قدرة على إحداث التغييرات بما تملكه من سلطة ، فالسياسة تحول الفكرة إلى سياسة تطبق على أرض الواقع من خلال وضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات السياسية ، وباعتبار أن السياسة اهتماماً بالشأن العام الذي يصب فعلها في النهاية في المجتمع "([3])، وهذا الاقتحام الثقافي للمجال السياسي كان على امتداد التجربة السياسية العربية بداية من قيام الدولة الأموية ووصولا إلى الوقت الحاضر، يأخذ شكلين بارزين:
- المشاركة المباشرة عن طريق احتلال مناصب سياسية سواء بالانتخاب، أو بالتحالف مع السياسي رغم خطورة هذا التحالف الذي كانت نتيجته في الغالب هي تدجين المثقف من طرف السياسي وتحويله لمبرر ومدافع عن اختياراته وأيدلوجيته، بدل أن ينجح المثقف في التأثير على السياسي من خلال لعب دور ما يسميه علي الكنز بـ "مستشار الأمير"، وبالتالي فقدان المثقف لمشروعيته الاجتماعية بسبب تحالفه مع السياسي من جهة، وفشله من جهة ثانية في تحويل أفكاره إلى سياسة متبعة، بسبب الريبة الفطرية التي ينظر بها رجل السياسة للمثقف واعتباره له " مشروع انقلابي" ومشروع معارض، بمجرد وقوع خلاف في الرؤى بين المثقف والسياسي.
- المشاركة غير مباشرة عن طريق المعارضة، سواء بالانضواء تحت لواء أحزاب وتيارات سياسية معارضة حاملة لمشروع سياسي تسعى لتطبيقه فور وصولها للسلطة، أو عن طريق "المعارضة الفكرية الحرة " التي تجعل من المثقف مجرد إنسان يحسن التنديد بانحرافات السياسة، دون القدرة على التجدر الاجتماعي، وطرح البديل الممكن التطبيق بسبب انعدام الإطار التنظيمي الذي يدعم ويسوق أفكار المثقف، وفي كلتا الحالتين يتجلى الفشل الدريع الذي مني به هذا الاختبار غير المباشر لولوج السياسة الذي اختاره المثقف، ففي الحالة الأولى يقع المثقف المدافع عن حريته ورؤيته النقدية ضد تسلط الدولة، يقع تحت تسلط آخر باسم الحزب، وباسم الأولويات والتكتيكات السياسية المتبعة من طرف الحزب مما يوقع المثقف في مفترق الطرق: إما أن ينصاع لاستراتجيات الحزب ويعمل وفق أولويات الواقع من جهة، ووفق الإطار الإيديولوجي للحزب من جهة ثانية، وبالتالي يقع تحت هيمنة الحزب بعد أن فر من هيمنة الدولة؛ وإما أن يظل مخلصا لأفكاره التي تكون أحيانا معارضة لاختيارات الحزب، فيقع الطلاق بين الطرفين، سواء بانقلاب الحزب على المثقف أو العكس، وتجربة المثقفين العرب اليساريين مع الأحزاب التقدمية والشيوعية طوال الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات خير مثال يمكن تقديمه على هذه العلاقة المتشنجة التي وقع فيها المثقف ضحية انتماءه السياسي المعلن، وضحية التوظيف السياسي من طرف الحزب لهذا الانتماء لخدمة الحزب وحده، دون الأخذ بعين الاعتبار الدور الاجتماعي للمثقف بعيدا عن الممارسة السياسية التي ما هي سوى محدد ضمن جملة محددات لصفة المثقف.
وهذه الحالة جعلت من علاقة المثقف بالسياسي أو بالدولة بعبارة أخرى علاقة متشنجة وغير سوية في العالم العربي؛ لقد حدد حليم بركات هذه العلاقة في أربعة نماذج، وقام بإعطاء أمثلة عن الكتاب والأدباء الذين يمكن أن يشكلوا عينة تمثلية عن طبيعة العلاقة الموجودة، وهذه النماذج كما حددها حليم بركات هي(
[4]):
- علاقة اللامبالاة : ونعثر عليها لدى أدباء اهتموا بالقصص الوجدانية والقضايا الفلسفية المجردة من أمثال ميخائيل نعيمة، ورئيف خوري .
- علاقة الاضطهاد : هذا شأن معظم الدول العربية، حيث القمع السلطوي الذي يسلط على المثقفين الرافضين والمعارضين للسلطة والناقدين لاختياراتها، فالسجن والنفي والتضييق على الحرية الشخصية هي القواسم المشتركة بين غالبية المثقفين العرب

- علاقة الوصاية : أيضاً معظم الدول العربية، حيث نجد أولئك المثقفين المدجنين والذين تحولوا لمجرد أبواق للمدح، يمكن أن نذكر هنا مثال أمير الشعراء احمد شوقي كشاعر بلاط، خاضع لوصاية وحماية القصر من جهة؟، ولا مبالي بالقضايا الجوهرية التي تعارض نظرة أوصيائه من جهة ثانية
- علاقة المشاركة: غير متوفّرة في أي بلد عربي، بما فيه لبنان بلد الحرية السياسة والفكرية ( مقارنة بباقي الدول العربية )، وحتى حين يكون هناك نوع من المشاركة، فإنها مشاركة لا متكافئة، تجعل المثقف يناضل من جهة للحفاظ على الحد الأدنى من حسه النقدي، ويقدم تنازلات لأجل الإبقاء على حبل الود موصولا مع السياسي.
هذه النماذج التي قدمها حليم بركات لطبيعة العلاقة بين السياسي والمثقف في العالم العربي، هي كلها تقريبا علاقات غير سوية، وذلك يعود لسبب طبيعة الأنظمة العربية التسلطية الراغبة والعالمة على السيطرة التامة على كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وهذه النماذج المقدمة هي نماذج غير جازمة، ولا مانعة لتقسيمات أخرى لطبيعة العلاقة بين السياسي والمثقف، هذا المثقف العربي الذي يقف حائرا بين متطلبات المجتمع، وما تنتظره منه الأمة والجماعة، وبين اكراهات السياسي وأنظمته التسلطية.
المثقف بين متطلبات المجتمع وإكراهات الدولة:
هناك ترابط بين الدولة والأمة والمرجعيات الثقافية المشكلة لوعي المجتمع الذي يتكون منه أفراد الأمة " فالدولة لرجل السياسة، والأمة لمرجعياتها الروحية والثقافية، والثقافة لمبدعيها"(
[5])، ولكن حين تسعى الدولة عن طريق أجهزتها السياسية والإيديولوجية لتأميم المجتمع ودولنته وقولبته وفق اختياراتها السياسية والإيديولوجية يقع الصدام مع المجتمع ومع مرجعياتها الثقافية التي يغذيها المثقف بإبداعه، وتعبيره عن جوهرها وتمثله لوعي أفرادها وتطلعاتهم، ويكون الصدام أكثر بروزا مع المثقف كناطق باسم المجتمع؛ ومن خلال هذا الصراع الذي تكون نتيجته في الغالب لصالح الدولة ورجل السياسة نظرا لما تمتلكه الدولة من قوة قمع ومن وسائل دعائية جبارة وقادرة على تغطية وإلغاء عمل المثقف أو تجريمه حين يتعارض تعارضا حادا معها.
نتيجة لهذا الصراع يقع المثقف أسيرا بين الإخلاص لروحه وجوهره ووظيفته الاجتماعية، أي انحيازه لإفراد أمته الذين استأمنوه ( ضمنيا ) على قيمهم الثقافية التي تغذي روح الأمة، وبين اكراهات السياسي الذي يعمل (وهذا نموذجه في العالم العربي ) على إلغاء المجتمع لصالح الدولة.
كما سبقت الإشارة فإن المثقف العربي وخصوصا في الوقت الحاضر غير متجدر اجتماعيا وبالتالي قليل التأثير في المجتمع إذا لم تتح له الأدوات اللازمة لهذا التأثير، هذه الأدوات التي يمتلكها رجل السياسة، أو بعبارة أدق الدولة من خلال وسائلها الإيديولوجية وامتلاكها لقوة القمع الشرعي، وانحسار قدرة التأثير في المحيط الاجتماعي تعود كما يشرح ذلك عبد الله العروي إلى التكوين النظري للمثقف والذي يجعله "يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق. هذا ما عبرت عنه بالانتقائية التي لا تمثل ظاهرة انفتاح وتوازن بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه وعدم تأثيره فيه"(
[6])، ومن هنا تبقى حاجة المثقف إلى دعم سياسي ضرورة قصوى إذا أراد لمشاريعه الفكرية والإصلاحية أن تتحول إلى واقع ملموس.
كان الإمام محمد عبده من أوائل رواد عصر النهضة الذين أدركوا ضرورة التحالف مع السياسي لتنفيذ مشاريع فكرية وإصلاحية، فما كان له أن يحول أفكاره في إصلاح مناهج التعليم بالأزهر لواقع ملموس لولا قدرته على التأثير في السلطة السياسية وجرها إلى تبني أطروحاته الإصلاحية، لقد كان مث
ال محمد عبده مثالا نادرا في التقاء المصالح والرغبات بين المثقف والسياسي، أما القاعدة العامة التي تحكم العلاقة بين الطرفين، فهي التنافر والريبة المتبادلة ومحاولة كل طرف احتواء الآخر، وحتى حين يتمكن المثقف من التواجد في المجال السياسي فإنه غالبا ما يتم تدجينه من طرف رجل السياسة، وتكون مشاركته للسياسي في إدارة الشأن العام سلبية ومسيئة لذاته كمثقف يفترض فيه الانحياز دوما لجوهر الأمة ومصالح أفراد أمته الآنية والمستقبلية، بعض المثقفين من ذوي النوايا الحسنة والغير واعين بتلك الاستراتجيات والألاعيب التي تستثمرها السلطة من اجل البقاء وتوسيع دائرة نفوذها، كانوا يظنون " أنهم من خلال الوظيفة السياسية سيتمكنون من تقديم أشياء نافعة لأمتهم. وربما تمكنوا من تحقيق بعض الإنجازات، ولكنهم بالتأكيد فقدا نقاءهم وصفاءهم، واضطروا للتحول إلى أفراد براجماتيين، يبررون عجز السلطة، ويدافعون عن أخطائها"([7])، وهنا يفقد المثقف مصداقيته ومشروعية تمثله لمصالح المجتمع إزاء اكراهات الدولة والسياسة.
فأن يكون المثقف مخلصا لذاته أي مثقفا نقديا ورجل دولة في نفس الوقت، فهذه هي المعادلة المستحيلة في العالم العربي التي لم تتحقق إلا في حالات نادرة، استطاع فيها المثقف من خلال نضاله أن يفرض نفسه كرجل دولة ويحتفظ في نفس الوقت بحسه النقدي اتجاه الدولة والمجتمع، هذه الحالة النادرة الحدوث التي يمكن أن نستشفها من خلال تجربة مصطفى الأشراف، هذا المثقف الجزائري الذي ساهم في صياغة " الإطار الإيديولوجي " للدولة الجزائرية كرجل دولة، وفي نفس الوقت ظل من القلائل الذين ينصتون بحساسية مفرطة لنبض المجتمع، إن تجربة الأشراف " تتلخص في أن يكون المرء موظفا ورجل دولة، وان يحاول في نفس الوقت التفكير في المجتمع وإدخال قيم جديدة كمثقف نقدي"(
[8]).
هذه العلاقة السوية بين المثقف والسلطة السياسية التي مثلتها تجربة الراحل مصطفى الأشرف، ظلت للأسف تمثل استثناء في الحياة السياسية والفكرية على امتداد العالم العربي، هي بكل تأكيد ليست الاستثناء الوحيد، لكنها لم تتحول لقاعدة يمكن أن تجسر الفجوة بين المثقفين وصناع القرار في العالم العربي، وتخلق ذلك التكامل المفقود بين القوة والعقل.
إن غياب هذه العلاقة التكاملية بين المثقف والسياسي في العالم العربي، هي نتيجة يمكن اعتبارها " طبيعية " لطبيعة النظام السياسي العربي، وطبيعة الدولة التي تمثل نموذجا فريدا للدولة التسلطية والشمولية، والتي بالرغم من مظهرها الديمقراطي الذي استعارته من الغرب فإنها في جوهرها ومن خلال آليات ممارستها للسلطة ظلت محافظة على النموذج التقليدي للسلطة كما عرفته التجربة التاريخية للعالم الإسلامي، أي السلطة المطلقة التي تجتمع في يد الرئيس / الأمير / السلطان / الملك، والتي يعتقد انه يستمدها من تفويض إلهي باعتباره خليفة الله على الأرض وأميرا للمؤمنين.
التجربة السياسية في الدول العربية حديثة العهد بالاستقلال مثلت نموذجا فريدا في تعامل الدولة مع المجتمع، حيث سعت الدولة عن طريق جهازها السياسي إلى دولنة المجتمع المدني وقولبته وفق اختياراتها الإيديولوجية، ومع هذا الإصرار الذي أبدته الدولة في استقطاب المجتمع لصالح مشروعها السياسي غلبت الممارسة السياسية على أي نوع من أنواع الممارسة الأخرى، ويمكن القول أن الدولة في صيغتها الاشتراكية ( وهي الصيغة التي هيمنت على اختيارات السياسيين عقب الاستقلال في جل الدول العربية) قد دخلت في صراع ضد المجتمع بغية احتواءه واستقطاب مؤسساته الأهلية وتحويلها لخدمة الدولة، بدل أن تكون الدولة في خدمة المجتمع، حيث أنه عقب الاستقلال الذي كان مفاجئا للكثيرين ( المغرب، تونس، سوريا، لبنان ...) وكان محضرا له في دول أخرى ( الجزائر ، مصر )
طغى العمل السياسي على غيره، وانشغل الجميع تقريبا ببناء جهاز
" دولة الاستقلال " على حساب وبواسطة مؤسسات المجتمع، ووقع الخلط والتداخل ( الذي خدم الدولة ) بين وظيفة السياسي ووظيفة المثقف، في حين أن لكل واحد وظيفة معينة يستوجب عليه القيام بها، " فرجل السلطة مقيد برؤية المصالح الآنية والنظر إلى آفاقها. بينما المرجعيات الروحية والثقافية هي الآلية التي تحكم بوعي وبدون وعي المسار العام والخاص لوعي الذات التاريخي للأمة "(
[9])، وتخلي المثقف عن دوره ووظيفته الاجتماعية تحت ضغط اكراهات ومطالب الدولة وانخراطه في الممارسة السياسية بشكلها الأكثر سطحية جعله يشتغل على الآني والمرحلي ويفقد عمقه ونظرته النقدية وقدرته على التعبير عن الوعي التاريخي للأمة بعيدا عن الوعي المرحلي المتسم بالتغير السريع.
في ظل هذه الظروف التي أوجدتها المرحلة الجديدة، مرحلة قيام الدولة الوطنية انقسم المثقفون في غالبيتهم إلى أربع فئات:
- مثقفون تكنوقراط مندمجون في تسيير دواليب الإدارة، وبالتالي تحولوا إلى فئة تستعمل الثقافة كتقنية وكسلعة قابلة للتبادل، وهي فئة مهادنة للسلطة السياسية، لأنها استفادت من ريعها وامتيازات القرب منها.
- فئة مبتعدة عن العمل العام وعن الشأن السياسي والثقافي معا، نحو المقاولات والاستثمارات الخاصة، بسبب منشأها البورجوازي وما تمتلكه من ثروة.
- فئة راديكالية مستمرة في انحيازها للمجتمع، ومعارضة بشكل حاد للسلطة السياسية.
- فئة مؤدلجة ومدجنة من طرف السلطة، تمثلت في المعلمين وبعض الصحافيين الذين مثلوا جهاز دعاية لإيديولوجية الدولة الوطنية.
ومن هنا فإن الدور الأساسي الذي لعبه المثقف العربي – وهو دوره الطبيعي في الأنظمة الحديثة – هو دور الوسيط بين الدولة والمجتمع، ليس باعتباره مجرد صانع معرفة، إنما باعتبار فئة المثقفين وفق هذا المنظور تمثل نخبة اجتماعية، فنحن عندما نتحدث عن المثقفين هنا بتعبير برهان غليون: " فنحن لا نقصد الأفراد من حيث هم مبدعون ومنتجون لمختلف القيم الفكرية والفنية والأدبية. كما إننا لا نقصد المثقفين من حيث هم فئة مهنية أو أصحاب حرفة متميزة عن مثيلاتها من الفئات الاجتماعية في أسلوب عملها ورزقها. إن المقصود بالمثقفين في السياق الذي نتحدث عنه هو جزء من النخبة الاجتماعية التي تهتم، في ما وراء حرفتها وبالاعتماد عليها معاً، بقضايا المصير العام "(
[10])، هذا الاهتمام بقضايا المصير العام، أوقع المثقف كفرد مندرج ضمن نخبة اجتماعية في حالة تقاطع من السلطة السياسية، وبالتالي في حالة صراع معها من اجل النفاذ للمجتمع والتأثير فيه، وهذا الصراع سببه نظرة الدولة الوطنية التي ترى من واجبها أن تكون صاحبة السلطة الوحيدة والمطلقة على المجتمع بكل فئاته، بما فيها فئة المثقفين، وهذه النظرة تتعارض تعارضا جوهريا مع خاصية لصيقة بجوهر المثقف وهي الحرية، الحرية التي تجعله يقف على مسافة آمنة بعيدا عن كل الاكراهات والضغوطات الإيديولوجية الممارسة من طرف السلطة سواء كانت سلطة سياسية أو اقتصادية أو سلطة رمزية ممثلة أساسا في الفقهاء الذين ظلوا يمارسون دور " حراس المعبد " والمدافعين عن القيم الدينية للمجتمع بالشكل الذي يرونه صحيحا، وهذا ما جعلهم في حالات كثيرة يمثلون سلطة قمعية ضد المثقف، خصوصا حين يقع التحالف بين السياسي والديني في الدولة، وهو واقع حال أغلبية الدول العربية التي توظف الديني من اجل خدمة إستراتيجيتها السياسية المعلنة أو المضمرة، ومن اجل ترهيب المعارضين السياسيين برميهم بتهمة المروق عن الدين والتعدي على قيم المجتمع الروحية، وهي تهم جاهزة يتفنن الفقيه في إشهارها في وجه خصوم السلطة.
وانطلاقا مما سبق، فإن دور المثقف العربي كوسيط بين المجتمع والدولة، وبالنظر للتجربة التاريخية القصيرة للدولة الوطنية في العالم العربي، هو دور لم يكتب له التحقق بشكله الطبيعي، بسبب طبيعة الدولة الوطنية من جهة، وبسبب طبيعة نشأة المثقف العربي من جهة ثانية، فالدولة الوطنية في التجربة السياسية العربية هي دولة حديثة وغير متجدرة لا سياسيا ولا اجتماعيا، فعقب فبداية من عصر النهضة ووصولا لفجر الاستقلال الذي انبلج في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية كان أمام " صناع هذه الدولة " اختياران أو " أنموذجان للدولة مرشّحان للاقتباس منهما, والاستفادة من التجربة الحضارية فيهما: أنموذج الدولة الإسلامية, كما رسمت معالمها التوجيهات الدينية، وكما تحقّقت في التجربة التاريخية، وأنموذج الدولة الغربية الحديثة, كما هي قائمة بالفعل في البلاد الأوروبية, على وجه الخصوص "(
[11])، وهي بصيغتها الحالية تمثل توليفا بين مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي التقليدي، ومفهوم الدولة في الفكر الأوروبي المستمد من فكر وفلسفة الأنوار الأوروبية؛ إنها وليدة الحداثة التي لم توطن بعد في العالم العربي ووليدة التنوير الأوروبي الذي لم يحط رحاله بعد في التجربة الحضارية العربية، فالتنوير كما يعرفه كانط هو : : "خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند الإنسان) خارج قيادة الآخرين. والإنسان (القاصر) مسؤول عن قصوره لأن العلة ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير"([12])؛ في نفس الوقت الذي تظل فيه وفية لنموذجها التاريخي في الواقع العربي الإسلامي كممثلة لإرادة الله فوق الأرض وإطار سياسي/ ديني حاضن لجموع المؤمنين، وهذا ما جعل منها دولة هجينة، لا هي دولة حديثة بالمفهوم الأوروبي الذي استعارت شكله الخارجي فقط، ولا هي دولة تعتمد على مشروعية دينية كما هو نموذجها التاريخي الممتد في التاريخ العربي الإسلامي.
أما بالنسبة لولادة المثقف العربي الحديث كمفهوم وكفاعل اجتماعي، فهو ظل أسير طبيعته الأولى في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، باعتباره سليل الفقيه، رغم انه عمل ومنذ التقاءه بالحداثة الأوروبية على القطع مع تلك الصفة بشكل حاد، فحاليا " ليس من الممكن القول إن المثقف الحديث الذي ولد في المجتمعات العربية المعاصرة هو السليل الطبيعي للكاتب أو للفقيه التقليدي، ولكنه بالعكس من ذلك تماماً النقيض المباشر له "(
[13]).
ومن هنا فإن المثقف العربي الحديث لم يعد سليل الكاتب أو الفقيه، في نفس الوقت الذي ظل فيه هذا المثقف ونتيجة لطبيعته الأولى التي انقلب عليها يسعى لاكتساب سلطة روحي
ة هي خاصية ملازمة للفقيه في الوعي الجمعي لإفراد المجتمع، هذه السلطة التي يسعى إليها المثقف كنوع من الامتياز الذي يضيف لقوته في مواجهة السياسي، هذه السلطة التي تمنحه لها صفته ككاتب في مجتمع أمي ترتبط الكتابة عنده بالمقدس( كتابة الوحي، وتدوين الحديث )، وبامتلاكه للمعرفة العلمية التي ترتبط هي الأخرى عند الفئات التقليدية والأفراد الذين لم يؤتوا العلم درجات، بالعلم الشرعي، ومن هنا فإن الاشتباك بين مفهومي الفقيه والمثقف لا يزال قائما في ذهن العامة من الناس، والمثقف العربي رغم تنديده ( في إطار نخبوي ) بهذه العلاقة الملتبسة بين المفهومين، فأنه يوظفها لصالحه، في علاقته بالمجتمع والسلطة معا، دون أن ينجح في إقناع السلطة بسلطته الرمزية على المجتمع، هذه السلطة الرمزية والروحية بالتحديد، هي خاصية لصيقة بالفقيه أي بالأب غير الشرعي للمثقف.
وانطلاقا من هذه الحالة تنتفي الحاجة لدى السلطة السياسية الممثلة للدولة، لوجود ذلك التواطىء مع النخب المجتمعية في تسير الشأن العام، والذي بواسطته تضمن السلطة استمراريتها ومشروعيتها في نفس الوقت " فالسلطة في معظم دول العالم متواطئة طبقيا ومؤسسيا مع النخب العاملة في إدارة السياستين الداخلية والخارجية، وفي الدول الشرقية عامة والعربية بشكل خاص يختفي التواطؤ بين الدولة والنخب المنتجة، حيث تملك الدولة كل مكونات الحياة السياسية ـ نستخدم هنا تعبير الحياة السياسية بمعناه المختفي والمجرد وليس بمعناه العياني ـ لذلك ليست لديها الحاجة إلى التواطؤ فالبيادق لا تملك الخيار "(
[14]).
وانطلاقا مما سبق فإن علاقة المثقف العربي بالسلطة السياسية ظلت محكومة بوضيعتين:
- وضعية التابع: وهي الوضعية الغالبة حيث نجحت السلطة السياسية في تدجين المثقف وتحويله لبوق من أبواقها الدعائية، ومنفذ لبرامجها واستراتيجياتها، من خلال توظيف جهده الفكري ومعارفه في إصباغ طابع الشرعية على هذه السلطة وتبرير اخفاقاتها، تسلطها وإيديولوجيتها، وتمجيد نجاحاتها في حالة وجودها، أو حتى خلق نجاحات وانتصارات وهمية لنظام سياسي تظل شرعيته مهزوزة في نظر عامة المواطنين؛ وهذا أسوأ دور قام ويقوم به المثقف العربي، لأنه يبعده عن وظيفته الحقيقة في المجتمع والمتمثلة في الدعوة للتغير وقيادته، والدفاع عن القيم المجتمعية.
- وضعية المعارض: حيث ظل المثقف منددا بفشل الدولة الوطنية والنظام السياسي في القيام بواجباته اتجاه المجتمع، والوفاء بالتزاماته ووعوده بالتنمية والتقدم، وهذه الوضعية جعلته، أي المثقف، في قائمة المغضوب عليهم من طرف السلطة، التي ضيقت عليه مجال الحرية، وصادرت فكره بواسطة أجهزتها القمعية، بالإضافة إلى التنكيل به عن طريق النفي والسجن والتصفية الجسدية في بعض الأحيان.
هذه الوضعية الثانية رمت بالمثقف العربي إلى أحضان الغرب، الغرب الذي تصوره المثقف العربي كحام للحرية والعدالة، وكقلعة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذه الحالة الانقسامية التي يعيشها المثقف العربي بين انتماءه الوطني من جهة، وحاجته الدائمة للغرب كمرجعية فكرية، وكسند سياسي قادر على حمايته – إذا أراد ذلك - من تعسف النظام السياسي من جهة ثانية، تمثل مظهرا آخر من مظاهر أزمة المثقف العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- [1] ميثم الجنابي، المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع
http://www.assuaal.com/essies/essies.125.htm
طلال يوسف، التفاعل الايجابي بين المثقف العربي وقضايا الامة. أيمن - [2]
http://www.nadimalbitar.net/modules.php?name=News&file=article&sid=13
- بن يمينة السعيد، المثقف العربي والسياسي في الوطن العربي تأثير أم احتواء. [3]
http://www.ulum.nl/d11.html

4 - انظر، حليم بركات، من هو المثقف. http://www.dctcrs.org/s3625.htm

- ميثم الجنابي، مرجع سابق.[5]
6 - عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، الرباط، 1992، ص 176
[7] - يوسف مكي، في العلاقة بين السياسي والمثقف. http://www.assuaal.com/essies/essies.124.htm

8 - عبد القادر جغلول، عن عمار بلحسن، انثلجانسيا أم مثقفون في الجزائر، دار الحداثة، بيروت، 1986، ص 63.
- ميثم الجنابي، مرجع سابق.[9]
10 - برهان غليون، المثقفون ودورهم في النظام السياسي الحديث
http://www.balagh.com/thaqafa/9u0wd9k3.htm
- عبد المجيد النجار، هل عطلت الدولة العربية الحديثة نهضة الأمة . [11]
http://www.alarabnews.com/alshaab/gif/26-07-2002/a6.htm
- عن، بن يمينة السعيد، المثقف العربي والسياسي في الوطن العربي تأثير أم احتواء. [12]
http://www.ulum.nl/d11.html
- برهان غليون، مرجع سابق.[13]
[14] - سامي داوود، مأسسة النخب http://www.assuaal.com/studies/studies.126.htm




ردود على "أزمة المثقف العربي ( 4 )"

أترك تعليقا

conter