الأحد، يوليو 27، 2008

فوبيا الليل

بتاريخ 2:36 م بواسطة عمار بن طوبال

سار في الشارع الطويل لا يكاد يتقدم خطوة أو خطوتين حتى يلتفت إلى الجهات الأربعة، كان يحس أن الجميع ينظر إليه وأن كلامهم فيما بينهم تهامس ماكر عليه، أرهف السمع لعله يلتقط بأذنيه اسم جاسم لكنه لم يصل إلى ما أراد، فلا أحد في هذا البلد ينطق هذا الاسم على لسانه، لأن أمه استوردته من إحدى دول الخليج حيث كانت تشغل هناك طبيبة بإحدى المستشفيات، وأغلب الظن الذي صار يراوده عن سر هذا الاسم الغريب والناشز أن أمه أحبت رجلا بهذا الاسم فأرادت أن تخلده في ولدها البكر، أنه يحس أبدا وهو طفل صغير أن والدته تكن أي حب لوالده فقد كانت لا مبالية اتجاهه بشكل شاذ جعله يستغرب لاحقا تلك المعاملة التي كان والد يصبر عليها على مضض.
كان الشارع قد التوى إلى اليمين حيث يوجد على أحد جانبيه مطعم فاخر ارتاده مرات كثيرة مع عمه حسين قبل أن تصير حالته إلى ما آلت إليه بعد أن سرح من الخدمة العسكرية، وما زال إلى اليوم يحن إلى طبق السمك المشوى على الجمر الذي كان الطبق المفضل له وللعم حسين، ودون أن يفكر وجد نفسه يحجز إحدى طاولاته، لم يتردد وطلب طبق السمك الأثير لديه الذي راح يتناوله بشراهة، لكنه وقبل أن يجهز على آخر ما تبقى في الصحن أمامه تذكر شيئا مهما، تحسس جيوبه كمحاولة أخيرة للتأكد من خلوها من أي فلس، تذكر بكثير من الغبطة سبب شجاره صباحا مع بائع الخضار واتهامه إياه بأنه يغش في الميزان، والحقيقة أنه لم يتذكر انه لا يملك فلسا في جيبه إلا بعد أن طلب كيلوغراما من الموز، فافتعل ذلك الشجار وتلك الحجة حتي يتخلص من الموقف، وهو الآن يقف في نفس الموقف للمرة الثانية في هذا اليوم.
مسح الطاولة حتى من الفتاة، فكر أن يطلب نوعا آخر من الطعام لكنه تذكر أنه بحاجة لبعض الرشاقة والخفة بعد قليل، نهض واتجه في وقار نحو صاحب المطعم الجالس خلف مكتبه الصندوقي قرب الباب الموصل إلى الخارج، نظر إليه وابتسم ابتسامة عريضة وهو يتظاهر بتحسس جيوبه ثم نظر إلى الباب وأعطى الريح لساقيه.
كان يسير في الطريق المؤدية إلى عيادة الطبيب النفساني الذي يعالج عنده منذ قرابة السنة وهو يشعر بالكثير من السعادة للانتصار الذي حققه اليوم على بائع الخضار وصاحب المطعم.
نظرات الطبيب وحدها هي التي أذهبت عنه تلك السعادة فقد كانت تلك النظرات الماكرة تشعره بالكثير من التوتر والارتباك، كان ينظر إليه كمجنون، وهو من جانبه كان يفتعل الكذب عليه من حين لآخر ليتمتع برؤيته يصوغ تشخيصه لحالته اعتمادا على معلومات خاطئة، بيد أن الطبيب كان يكتشف كذبه في معظم الأحيان، وفي كل مرة يكتشف كذبه يرسل محوه نظرات ثعلبية ماكرة من خلف نظارته تشعره أنه أتفه مخلوق على وجه هذه البسيطة، تلك النظارات التي كان يحسها دائما مائلة وغريبة الشكل وغير متلائمة مع الموضة، شعر في المرة الماضية بسعادة كبيرة حين أدرك أن الطبيب السمين لا يستطيع الرؤية بدون تلك النظارات الغريبة الشكل، فكر أن يسرق هذه النظارة ويبيعها في سوق الدلالين، لكنه لم يجد الطريقة التي يغافل بها هذا الرجل السمين فقد كان يخاف أية مغامرة لا يكون النجاح فيها مؤكدا؛ وكان الطبيب يحس بخوفه من أشياء كثيرة فيسأله:
- مالذي يخيفك ؟
- الليل..
ويهمهم دون أن يضيف أية كلمة، فكأن الليل يعبر عن كل تلك الهاجس التي تعتريه.
- ولماذا تخاف من الليل؟
- لا أحب الظلام أشعر في الليل أنني قد افقد عقلي في أية لحظة، وأحلم دوما أنني عندما استقض في الصباح سأخرج إلى الشارع وأتمشى بين الناس عاريا دون أي ملابس.
- أنت تعيش وحدك بالبيت وتنام وحيدا؟
- نعم كل أيام الأسبوع، مع عدا يوم الخميس، لأن زوج صبرينة يسافر كل خميس وعي تدعوني لكي أنام معها، ولكني لا أنام مع طلوع الفجر.
سجل الطبيب بعض الكلمات صغير أمامه وطلب منه أن يذهب ويعود بعد أسبوع، لكنه قرر بينه وبين نفسه أنه لن يعود أبدا ، فقد كانت الهلوسات الليلة تزداد من يوم لآخر وشعوره بأنه قد يصير مجنونا في أية لحظة يزداد سيطرة عليه.
حل الليل سريعا ، شعر بذلك وهو ينظر إلى نفسه في المرآة، قضى وقتا طويلا أمامها عله يلحظ أي تغيير على ملامحه، فهي حسب اعتقاده دليل جنونه، نام بكل الهموم والملابس والخوف من الجنون فلم يكلف نفسه حتى عناء نزع الحداء.
كان يشعر بخوف كبير ولم يفكر في شيء غير الأصوات التي تزوره كلما نام والتي سرعان ما ينضم إليها صراخه هو الآخر، كان يسمع صراخ أطفال، ورجل ضخم دو ملابس غريبة ولحية كثة مغبرة يضعهم تحت سكينه وينحرهم وهو يهلل بكلمات غير مفهومة؛ وأصوات نساء يبكين وبعضهن يغرقن في ضحك هستيري، وفتيات صغيرات نصف عاريات في أحضان أولئك الرجال ذوي الملابس الغريبة واللحى الطويلة، تبكين كتعبير وحيد عن رفض الاغتصاب.

لم يكن يرى رجالا غير الرجال غريبي الملابس وكان هو وسط الجميع يقف دون حراك ينظر إلى الجميع ولا احد ينظر إليه وكأنه لا مرئي وشفاف، يصرخ بكل قوة وعنف عندما يرى أن الأطفال توقفوا عن الصراخ وصاروا كلهم مبتسمين ابتسامات متشابهة، ولكن رؤوسهم كانت بعيدة عن أجسادهم؛ يصرخ ويصرخ، لكن قبل أن ينتبه احد لوجوده وسط تلك الساحة المعمدة بالدم يفيق مفزوعا من نومه، ويتكور على حول نفسه فزعا من رأى وخوفا من الظلام المسيطر على الغرفة، يخاف حتى أن ينهض ليشعل النور.
كان قد قرر أن لا يعود لعيادة الطبيب مرة أخرى، لكنه تراجع عن قراره وهو يبتسم للفكرة الرائعة التي خطرت في باله منذ مدة، فقد قرر أن يقوم بزيارة أخيرة، ليس من اجل الاستماع لخزعبلاات الطبيب السمين ولكن ليسرق نظارته الغريبة الشكل ويبيهعا في سوق الدلالين.
دخل وكان الطبيب السمين كالعادة ينظر إليه نظرات تشعره أنه أحقر مخلوق على وجه هذه الأرض، لم يطل به المقام كالعادة، فقد تظاهر أن نوبة حادة قد أصابته، وهو بارع في تمثيل هذه الحالات، وطلب من الممرضة أن تحضر له زجاجة مشروبات غازية وإلا سيكسر كل شيء، لبت الممرضة رغبته بأمر من الطبيب، وهنا هدأ وراح يبتسم ويعتذر للطبيب عن هذا الأمر الخارج عن إرادته، ولكن الرجل السمين لم يول اعتذاراته أي اهتمام وراح يدون بعض الملاحظات في كراس صغير أمامه، استغل فرصة استغراق الطبيب في الكتابة وخطف النظارة بسرعة وأعطى الريح لساقيه، رغم انه متأكد بأن الطبيب السمين لن يستطيع اللحاق به لأنه صار أعمى، إلا انه ظل يركض حتى خرج من الشارع الذي توجد به العيادة ودخل الشارع المجاور، وأكمل الركض إلى أن وصل إلى سوق الدلالين وهناك فقط توقف وهو يشعر بالكثير من السعادة بعدما تأكد من نجاح العملية، باع النظارة بثمن بخس وعاد إلى المنزل؛ نظر إلى نفسه في المرآة فلم ير أي تغير على ملامحه مع انه كان يحسها قد تغيرت كثيرا.
نام دون أن يطيل النظر إليها فقد قرر أن يكسرها غدا لأنها تخدعه، صار متأكدا أن ملامحه تغيرات كثيرا وانه غدا سيخرج إلى الشارع عاريا إذ لم تعد ملامحه إلى طبيعتها، لكن شيئا واحدا لم يتغير بداخله وهو خوفه من الليل والظلام والوحدة وكذا فزعه من تلك الأصوات والصور التي تأتيه كلما خلد للنوم، صور تلك المجزرة الجماعية التي كان الشاهد الوحيد عليها هو العسكري السابق الذي قتل جميع رفاقه في كمين، وتمكن هو من النجاة والفرار ومشاهدة تلك المجزرة الرهيبة التي وقعت في ليلة مقمرة.
نام لاقل من ساعة؛ ثم نهض مفزوعا صارخا بأعلى صوته كمن يطلب النجدة من خطر ما يكاد يداهمه، نهض مفزوعا، وقع أرضا ثم نهض، نظر حوله بتمعن فأحس انه يعيش لحظة التحول الكلي في ملامحه وان جسده يتشيء ويفقد علاقته الحميمة مع روحه، وأن كل شيء أمامه وفي ذاكرته ينشطر، نظر إلى نفسه في المرآة وإلى كل شيء في الغرفة ، شعر أن كطل شيء صار متشابها، وحينها أدرك انه حتما سيخرج بعد قليل على الشارع عاريا فقد فقد لأول مرة إحساسه بالخوف من الظلام، ابتسم وانبطح أرضا بالطريقة العسكرية، التفت إلى الجهات الأربعة فلم يرى شيئا وحينها ألصق أذنه بقطع السيراميك وراح يسترق السمع لشقة الجيران الواقعة في الطابق الثاني من العمارة أسفل شقته مباشرة ، كان يسمع أصواتا متداخلة، يسترق السمع أكثر عله يميز شيئا من تلك الأصوات، دون فائدة فقد كانت كلها متداخلة بشكل يصعب فرزه وتبين شيء منه، فقد سمع كلاما وقورا لطفلين يتحاوران معا ، بالكاد استطاع تميزه وسط كل ذلك اللغط.
رفع أذنه ثم أعادها لموضعها محولا إلصاقها جيدا بقطع السيراميك حتى يسمع جيدا، أحس أن الأصوات تزداد ارتفاعا وتداخلا. ولكن الشقة كانت فارغة.

ردود على "فوبيا الليل"

أترك تعليقا

conter