الجمعة، فبراير 20، 2015
الأحد، فبراير 15، 2015
عن الثقافة الساندويتش
ليست كتب الطبخ
والروايات التجارية، وكتب الأبراج بمنتجات دخيلة على الثقافة، إنها جزء من الثقافة
بمعناه السوسيولوجي، ووجودها برفوف المكتبات ليس بدعة ولا تعبيرا عن سخافة الثقافة
التي تسمح بتسويق مثل هذه المنتجات، إنها ظاهرة صحية يزداد انتشارها في الأوساط التي
تسعى لاكتساب نوع من " الدلع البورجوازي " في المأكل والمشرب وطريقة الحديث
التي تستحضر أسماء المطاعم وماركات العطور أكثر من أي شيء آخر.
المشكلة عندنا
تكمن في تغوّل هكذا نوع من الثقافة " الخفيفة " على حساب الثقافة الرصينة
التي يمثلها الأدب والفكر وما يتفرع عنهما من دراسات متطلبة معرفيا، وبالتالي تتطلب
قارئ نوعي، ذو اهتمامات تتجاوز السطحي والبسيط
الذي تقدمه الثقافة التجارية، وهذا التغول هو ظاهرة تاريخية ساهم في خلقها وتكريسها
الحقل الثقافي بمجمله ( المكتبيون، الناشرون، الموزعون، الإعلام بمختلف أنواعه) ولقيت
صدى لدى فئة واسعة ممن يصنفون كمستهلكين للمنتجات الثقافية المكتوبة، وخاصة لدى فئة
النساء بالنسبة لكتب الطبخ، مما وسع سوقها
بشكل ضمن لها استمرارية مريحة وربحية أكبر من ربحية باقي أنواع الكتب التي تصنف في
خانة الكتب الجادة.
الأدب والكتب
الفكرية تحضى بطلب من فئة محدودة تنحصر بالكاد في فئة الطلبة والباحثين وبعض هواة المطالعة
الجادة، وبالتالي لا يجب أن تخضع لمعيار العرض والطلب الذي تكون الربحية هي أساسه،
إنما يجب أن تحضى بنوع من الدعم خاصة في مجال التوزيع الذي يجب أن تتكفل به الدولة،
فالموزعون غالبا ما يقومون بتوزيع المنتجات
التي تتسم بنسبة دوران سريعة مما يجدد الطلب عليها باستمرار، وهذه ميزة تفتقدها الكتاب
الأدبية والفكرية التي يكون تسويقها بطيئا، مما يجعل المكتبي والموزع، وهما تاجران،
ينظران إليها بارتياب، وبالتالي يتم تجحيم مساحة عرضها لصالح الكتب الأخرى التي تحضى
بطلب أكبر، مما يخلق أزمة ويوسع حجم التظلم لدى فئة المثقفين الذي يرى أغلبهم بأن كتب
الطبخ والكتب الدينية والتجارية تطغى على الكتاب الأدبي والفكري في مجتمع يهمش الجاد
وينساق نحو الخفيف والنافع.
أرسلت في 10:22 م
المثقف هو ذلك المزعج الذي يفسد على الآخرين حفلاتهم التنكرية
إذا كان بورديو
قد عرف عالم الإجتماع بأنه ذلك المزعج الذي يفسد على الآخرين حفلاتهم التنكرية، فإن
هذا التعريف أكثر ملائمة لتوصيف المثقف بالمعنى
الذي أراه وبالدور الذي أناطته به نشأته الأولى، وقد خرج من براثن
الحرب والصراع الذي يدفع عامة الناس للاصطفاف
إلى جانب الوطن والجماعة والطائفة بغض النظر عن كون الجهة المصطف إلى جانبها على حق
أم ضلال. فالمثقف الحديث كمفهوم وكممارسة تمثلها
ثلة من " المثقفين الكونيين " بتعبير جوليان بندا هو وليد قضية درايفوس،
والتي بدأت باتهام وإدانة الضابط الفرنسي دريفوس بالعمالة لألمانيا، وفي الوقت الذي
كانت جموع المواطنين الفرنسيين المكلومين من ضم ألمانيا لأقليمي الإلزاس واللورين تطالب
برأس الضابط الخائن، خرج إميل زولا على العالم بمقالته ذائعة الصيت: " إني أتهم
" والتي اتهم فيها القضاء الفرنسي بعدم التدقيق في القضية والانسياق وراء نزعة
معاداة السامية التي على أساسها تمت إدانة الضابط الفرنسي ذو الديانة اليهودية، وقد
اصطف المثقفون الفرنسيون وراء زولا ودافعوا باستماتة عن براءة دريفوس، واقفين بذلك
ضد الدولة وضد المشاعر القومية المتأججة.
إذا كانت نشأة
المثقف الحديث، والذي قام بدور جديد مفارق للأدوار التي قام بها سلفه العظيم وشديد
السطوة: رجل الدين، قد ألقت به في أتون الشأن العام وفرضت عليه إبداء الرأي والدفاع عما يراه صوابا
حتى لو كان ضد " القناعات العامة " التي تستمد سطوتها من الجموع الغفيرة
المستعدة دوما لرجم الضالين والخونة، فإن الدور
الأساسي الذي ينبغي على المثقف أن يقوم به
ويخلص له قدر استطاعته هو أن يكون ضمير أمته الذي
يندد بكل الانحرافات التي قد تحدث ويبّين مكامن الانحراف في القيم وفي السياسات وفي القناعات العامة التي
قد تخفى، نتيجة هوس الحماس الوطني أو القومي ، على عامة الناس وتقودهم، بالتالي، إلى
تبني اختيارات تاريخية فادحة الخطورة، وما حدث في ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية
والكثير من الديكثاثوريات الحديثة، هو خير دليل على النتائج الباهظة لغفوة المثقف وتراجعه
عن القيام بدور " حارس الضمير الجمعي
" وعاصمه من التيه والضلال، فالمثقف هو الناطق باسم الجوهري والأساسي في الإنسان،
وبهذا فهو مطالب، بحكم وظيفته كمثقف والتي هي أسمى من أية وظيفة أخرى رسمية قد يشغلها
بالمقابل، بأن يترفع عن الآني واليومي والسياسي في مباشرته وممكناته المتعددة، وأن
يتجرد من سطوة " القناعات العامة " التي تعيق عامة الناس ومن ينساقون وراء
هدير مطالبهم، عن إدراك جوهر الأشياء التي قد تقدم منفعة عاجلة وتخبر في عمقها عن مضرات
آجلة .
من هذا المنطلق
يقف المثقف في مواجهة السياسي ورجل الدين كممثلين لسلطة يناضل المثقف، بالضرورة، ضدها،
إنه كاشف آلاعيبها بتعبير إدوارد سعيد الذي ينيط بالمثقف دور النضال ضد السلطة، بعد
أن كانت العلاقة مثقف / سلطة وعلى مدار قرون طويلة هي علاقة تأثير من طرف المثقف واستقطاب
من طرف السلطة في حالات الانسجام وبطش وتنكيل بالمثقف من طرف السلطة في حالات الخلاف
الحاد، دون أن يكون المثقف مطالبا بحكم كونه
مثقفا بأن يتخذ من فضح ألاعيب السلطة وأدوات هيمنتها على الأفراد والمجتمع، وظيفة جوهرية
تنفي عنه صفة المثقف في حال تخليه عنها. وباستعارة مقولة بورديو السابقة وتحويرها نقول
أن المثقف هو ذلك المزعج الذي يفسد على الآخرين حفلاتهم التنكرية، والآخرون هنا ليسوا
سوى أصحاب السلط الذين يتناسلون في المجتمعات الحديثة ويستقوون بما توفره الحداثة والعولمة
من أدوات هيمنة وتوجيه غير مسبوقة، ومن قدرة على التسلط الناعم الذي صارت تتسم به الأنظمة
الحديثة حتى في أكثر المجتمعات ديموقراطية ورقيا اقتصاديا، فالمتسلطون الذين يتخذ المثقف
من فضح ألاعيبهم وكشف استراتجياتهم دورا ووظيفة لم يعودوا محصورين في الفئات التقليدية التي تتعين
برجال الدين والسياسة الذين تعرف العامة مدى نفوذهم وتفقه شيئا من أدواتهم، إنما اتسعت
دائرة الفئات المتسلطة نتيجة تغلغل الحداثة وقيمها في الكثير من المجتمعات لتشكل شبكة
ممتدة من رجال السياسة والإقتصاد والخبراء المتخصصين ورجال الدين والإعلام والشخصيات
العامة ... تلك الشبكة التي لم يعد الإنسان العادي، الذي يتحدث المثقف باسمه ويعبر
عن ضميره ويصوغ آمانيه ويوتوبياته المجتمعية، قادرا على كشف آليات هيمنتها بله رفضها ومواجهتها.
ولكي يقوم المثقف
الحديث بهذا الدور المجتمعي، شديد الخطورة، في عالم تتسارع فيه قدرة السلطة على التنميط
والقولبة عليه أن يكون إنسانيا بالدرجة الأولى أي قادرا على افتكاك نفسه، ووعيه قبل
ذلك، من الهيمنة الرمزية للجماعة التي ينتمي إليها سواء الجماعة الوطنية أو الدينية
أو الإثنية، فهو غير مطالب بحكم وظيفته بأن يتحدث باسم أي من هذه الجماعات منفردة،
ولا أن يضع قدراته في خدمة مشاريع آنية الرؤية
تتعارض مع ما يدعيه لنفسه من قدرة على تمثل وتمثيل الر ؤى القصوى لمن يتحدث باسمهم،
أولئك الذين لم يعودوا، نتيجة تأثير الحداثة والعولمة، منحصرين في "جماعات الإنتماء
" التي تتعين بالوطن والدين واللغة والعرق، إنما صارت خطابات المثقف منفتحة على كل العالم الذي قد يتلقاها أو يتلقى ارتداداتها
عبر خطابات أخرى.
أرسلت في 10:12 م
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)