بداية النهضة العربية:
من تحديث الجيش إلى النهضة الثقافية
لقد لعبت الدولة العثمانية لفترة طويلة دورا بارزا على الساحة العالمية كقوة عظمى تحتل مساحة تمتد على ثلاث قارات ذات ثروات بشرية ومادية هائلة، كما أن وضعها كمركز للخلافة الإسلامية منحها سلطة معنوية واسعة حتى على المناطق الإسلامية التي لم خاضعة لسلطتها السياسية.
ولكن بوادر الضعف والهرم بدأت تظهر على هذه الدولة نتيجة لعدة ظروف داخلية وخارجية، ليس هنا المجال للتطرق إليها، مما دفع بالسلطان سليم الثالث ( 1789 -1808 ) إلى العمل على تحديث الجيش العثماني، عن طريق إدخال أساليب تدريب جديدة ومعدات حربية أكثر تقدما، وذلك اقتداء بما هو موجود في أوروبا، وقد واصل خليفته السلطان محمود الثاني عملية التحديث والصول بها إلى مراحل متقدمة، حيث قام بتدمير الجيش الانكشاري تدميرا كاملا وهو – أي الجيش الانكشاري – الذي كان يشكل القوة الضاربة الأكثر فعالية في الجيش العثماني، ولكن نظرا لكثرة تمرد الانكشاريين وكذا لتمتعهم بسلطات واسعة قادرة على تهديد الخلفاء أنفسهم فقد بادر السلطان سليم القانوني وخلفه إلى القضاء النهائي على الجيش الانكشاري وتأسيس جيش محترف ومدرب بشكل جيد وحديث بالمقاييس الأوروبية.
لم تقتصر عملية التحديث على الدولة العثمانية، بل سرعان ما امتدت شرارتها لتحط بمصر، حيث سار محمد علي باشا حاكم مصر الطموح ومؤسس العرش الخديوي فيها على خطى غرمائه العثمانيين، فعمد إلى إنشاء معاهد عسكرية بغية تلقين ضباط الجيش المصري المعارف والمهارات العسكرية الحديثة، وذلك عن طريق استقدام خبراء غربيين للإشراف على التعليم في هذه المعاهد المتخصصة، ولم يتوقف الأمر بمحمد على باشا وهو الطموح لإنشاء إمبراطورية مصرية قادرة على خلافة الدولة العثمانية في مكانتها التي تحتلها في عالم ذلك الوقت وتكون هي اكبر قوة إسلامية في العالم، ومن اجل تحقيق هذا الحلم قام بإنشاء قاعدة للصناعات الحربية بمصر قصد تزويد الجيش بالمعدات الحربية التي تلزمه، كما أيضا بإيفاد رعايا مصريين إلى بعض الدول الغربية وخاصة فرنسا وايطاليا لاكتساب المعارف والفنون الغربية التي مكنت أوروبا من أن تصير بكل تلك القوة التي صارت تهدد العالم الإسلامي قاطبة.
لقد شكلت هذه المبادرة التي قام بها السلاطين العثمانيين وكذا الحكام الخديويين في مصر منعطفا هاما في عملية تحديث بالعالم العربي، وكانت النافذة التي هبت عبرها رياح التغيير الثقافي والاجتماعي، حيث كان لؤلئك الذين أوفدتهم الحكومة المصرية لتلقي العلوم في الغرب دورا كبيرا في هذا التغيير، حيث أنهم لم يكتفوا بنقل العلوم التجريبية التي أوفدوا من اجل اكتسابها، إنما نقلوا معهم الكثير من أفكار عصر الأنوار الأوروبي وحاولا توطينها في بيئتهم وأوطانهم.
رغم أن التحديث الذي باشر به الحكام في الدولتين العثمانية والمصرية كان مرتكزا على تطوير المؤسسة العسكرية بغية إبقاء جيوشها في نفس قوة ومهارة الجيوش الأوروبية، لكن علامات التحديث وبوادره الأولى سرعان ما انتقلت إلى مؤسسات التعليم التقليدية ، حيث أدركت القيادة السياسية أنه من العسير تحديث الجيش دون وجود مؤسسة تعليمية حديثة تكون قادرة على تزويده بما يحتاجه من خبرات ومهارات ومعارف في مجالات معرفية كانت غائبة تماما عن مناهج التعليم التقليدية، كالمعارف والعلوم الطبيعية والهندسة والميكانيك؛ ومن هنا العمل على إنشاء معاهد ومدارس حديثة.
عمليات التحديث التي باشر بها سلاطين بني عثمان وحكام مصر كانت مدفوعة برغبة في تقوية النفوذ العسكري للدولة وكذا في توسيع قاعدتها السلطوية، " ذلك أن هذه القيادات حصرت اهتمامها كما بينا سابقا في تطوير الآلة العسكرية، ولم تبد أية رغبة في إصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد "([1])، بل على العكس من ذلك فقد عمدت القيادة السياسية كل ما بوسعها من أجل إبقاء الوضع الاجتماعي والسياسي على ما هو عليه والحرص على البيئة الاجتماعية والثقافية من خلال اتخاذ بعض الإجراءات التي تهدف إلى تحصين المجتمع العثماني والمصري من تأثيرات الثقافة الغربية.
ولكن لأن التقنية تحمل معها ثقافتها، ونظرا للجهود التي قام بها الرعيل الأول من المصلحين، سواء أولئك العائدين من أوروبا والحاملين لقيمها الفكرية والثقافية، أم أؤلئك الذين ساءتهم حالة التخلف العام التي تعيشها المجتمعات المسلمة، فقد بدأت بعض بوادر القيم والأفكار الغربية تتمظهر بخجل بداية الأمر في المجالين السياسي والثقافي من خلال انتشار بعض المفاهيم والقيم الجديدة التي لم يكن للعالم الإسلامي وهو الذي خيمت عليه قرون طويلة من الانحطاط، لم يكن له دراية بها، كمفاهيم الدستور والتمثيل النيابي والفصل بين السلطات والعقد الاجتماعي، في المجال السياسي، وفي المجال الثقافي والفكري بدأت بعض بوادر التفكير المتأثر بالعقلانية الديكارتية ومحاولات خجولة للخروج من التمركز الفكري حول النص الديني الذي ميز القرون السابقة والتي سميت بعصر الانحطاط، وهنا بدأ يبرز الدور الكبير الذي لعبه المثقف العربي في التبشير بالنهضة والعمل على تحقيقها من خلال عمله على تجاوز حالة القصور الفكري والروتين والاجترار التي كانت عليها نتاجاته في السابق، حيث انطلقت وفي وقت متزامن تقريبا عمليات الاصلاح الديني والفكري و والاجتماعي بالاظافة لعملية التحديث التي باشر بها النظام السياسي والتي تركزت كما سبق الذكر على مجال الصناعات العسكرية بغية تقوية الجيش، وقد كانت تلك الاصلاحات السلطوية محال انتقاد من طرف المثقفين الذين رأوا فيها عقبة في طريق الإصلاح الشامل، حيث ان الإصلاح كل متكامل لابد أن يشمل جميع المجالات حتى يؤتي نتائجه المرجوة، أما التركيز على مجال دون مجالات أخرى فإنه إصلاح أعرج مصيره الفشل، لأنه من غير المنطقي الفصل بين الحياة المادية والحياة الفكرية للمجتمع.
كان جمال الدين الأفغاني واحدا من أوائل المثقفين / المصلحين الذين نددوا وبشجاعة بالإصلاحات التي باشر بها السلاطين العثمانيين والحكام الخديويين في مصر، رغم أنه كان يتفق مع طموحات الحكام في ضرورة دفع عجلة التنمية العلمية والتقنية في مجالات الصناعة والاقتصاد، إلا أنه كان ينظر إلى التنمية من منطلق يربط التقدم التقني من جهة، وضرورة تبني خطاب حضاري يحفز أفراد المجتمع على النهوض بأمتهم من جهة أخرى
" ومن هنا فإن النهضة الحقيقية يجب أن تقوم نتيجة لبروز روح التجديد وظهور فلسفة التنمية "([2])، هذه الفلسفة والرؤية الشمولية كانت غائبة أو مغيبة عن الحكام الذين ركزوا على التحديث في المجال التقني وحسب مما جعل مجهوداتهم تراوح مكانها في غالب الأحيان.
يقول جمال الدين الأفغاني في هذا الصدد: " لذلك نرى الحكومة العثمانية والحكومة الخديوية مستمرتين في تعليم هذه المعارف ( التخصصية) منذ ستين سنة دون أن تجنيا ثمرة من تعليم هذه المعارف"([3]).
لقد امن الأفغاني وهو المثقف النهضوي المعجب بالغرب من جهة والواثق بقدرة المجتمعات المسلمة حين تعود لقيم الإسلام الأصيلة، امن هو ومريديه من المدرسة السلفية الإصلاحية، بأن التنمية الاقتصادية والإدارية لا يمكنها أن تبلغ النجاح المنشود، إذا لم ترافقها عملية إصلاح ثقافي واجتماعي تخلص المجتمعات العربية والإسلامية من تلك القيم والاعتقادات البالية التي تقف حجر عثرة في وجه التقدم، ومن هنا كانت النهضة الفكرية والإصلاح الديني في نظر الأفغاني وأتباعه تقوم أساسا على محاربة العقلية الجبرية التي كانت سائدة في المجتمعات المسلمة آنذاك إلى درجة صار عامة المسلمين يعتقدون بأن التخلف قدر لا مفر منه، وهو قدر إلهي لا يمكن تغييره بواسطة جهد بشري، ومن هنا تركز جهد الإصلاحيين سواء أولئك الذين تتلمذوا على يد الأفغاني، أو اللاحقين عليهم، تركز جهدهم وقد كانوا من صفوة النخبة الثقافية التي أنجبتها الأمة في ذلك الوقت على محاربة الذهنية الجبرية السائدة ورفض ذلك التفسير المظلم للتاريخ الذي كان يسوقه بعض الفقهاء الذين اكتفوا بما توصل إليه الأوائل واستراحوا له، ولم يكن جهدهم سوا شرح وتفسير المتن الفقهي القديم، ذلك التفسير المظلم للتاريخ الذي يدعوا عامة المسلمين للاستسلام للوضع الراهن لأنه قدر الهي كانت تتبناه أيضا بعض الطبقات المتنفذة من إقطاعيين وملاك أراضي وذوي النفوذ السياسي، أي أولئك الذين كان أي تغيير في الأوضاع القائمة يهدد مصالحهم بصفة مباشرة.
لقد لعبت الدولة العثمانية لفترة طويلة دورا بارزا على الساحة العالمية كقوة عظمى تحتل مساحة تمتد على ثلاث قارات ذات ثروات بشرية ومادية هائلة، كما أن وضعها كمركز للخلافة الإسلامية منحها سلطة معنوية واسعة حتى على المناطق الإسلامية التي لم خاضعة لسلطتها السياسية.
ولكن بوادر الضعف والهرم بدأت تظهر على هذه الدولة نتيجة لعدة ظروف داخلية وخارجية، ليس هنا المجال للتطرق إليها، مما دفع بالسلطان سليم الثالث ( 1789 -1808 ) إلى العمل على تحديث الجيش العثماني، عن طريق إدخال أساليب تدريب جديدة ومعدات حربية أكثر تقدما، وذلك اقتداء بما هو موجود في أوروبا، وقد واصل خليفته السلطان محمود الثاني عملية التحديث والصول بها إلى مراحل متقدمة، حيث قام بتدمير الجيش الانكشاري تدميرا كاملا وهو – أي الجيش الانكشاري – الذي كان يشكل القوة الضاربة الأكثر فعالية في الجيش العثماني، ولكن نظرا لكثرة تمرد الانكشاريين وكذا لتمتعهم بسلطات واسعة قادرة على تهديد الخلفاء أنفسهم فقد بادر السلطان سليم القانوني وخلفه إلى القضاء النهائي على الجيش الانكشاري وتأسيس جيش محترف ومدرب بشكل جيد وحديث بالمقاييس الأوروبية.
لم تقتصر عملية التحديث على الدولة العثمانية، بل سرعان ما امتدت شرارتها لتحط بمصر، حيث سار محمد علي باشا حاكم مصر الطموح ومؤسس العرش الخديوي فيها على خطى غرمائه العثمانيين، فعمد إلى إنشاء معاهد عسكرية بغية تلقين ضباط الجيش المصري المعارف والمهارات العسكرية الحديثة، وذلك عن طريق استقدام خبراء غربيين للإشراف على التعليم في هذه المعاهد المتخصصة، ولم يتوقف الأمر بمحمد على باشا وهو الطموح لإنشاء إمبراطورية مصرية قادرة على خلافة الدولة العثمانية في مكانتها التي تحتلها في عالم ذلك الوقت وتكون هي اكبر قوة إسلامية في العالم، ومن اجل تحقيق هذا الحلم قام بإنشاء قاعدة للصناعات الحربية بمصر قصد تزويد الجيش بالمعدات الحربية التي تلزمه، كما أيضا بإيفاد رعايا مصريين إلى بعض الدول الغربية وخاصة فرنسا وايطاليا لاكتساب المعارف والفنون الغربية التي مكنت أوروبا من أن تصير بكل تلك القوة التي صارت تهدد العالم الإسلامي قاطبة.
لقد شكلت هذه المبادرة التي قام بها السلاطين العثمانيين وكذا الحكام الخديويين في مصر منعطفا هاما في عملية تحديث بالعالم العربي، وكانت النافذة التي هبت عبرها رياح التغيير الثقافي والاجتماعي، حيث كان لؤلئك الذين أوفدتهم الحكومة المصرية لتلقي العلوم في الغرب دورا كبيرا في هذا التغيير، حيث أنهم لم يكتفوا بنقل العلوم التجريبية التي أوفدوا من اجل اكتسابها، إنما نقلوا معهم الكثير من أفكار عصر الأنوار الأوروبي وحاولا توطينها في بيئتهم وأوطانهم.
رغم أن التحديث الذي باشر به الحكام في الدولتين العثمانية والمصرية كان مرتكزا على تطوير المؤسسة العسكرية بغية إبقاء جيوشها في نفس قوة ومهارة الجيوش الأوروبية، لكن علامات التحديث وبوادره الأولى سرعان ما انتقلت إلى مؤسسات التعليم التقليدية ، حيث أدركت القيادة السياسية أنه من العسير تحديث الجيش دون وجود مؤسسة تعليمية حديثة تكون قادرة على تزويده بما يحتاجه من خبرات ومهارات ومعارف في مجالات معرفية كانت غائبة تماما عن مناهج التعليم التقليدية، كالمعارف والعلوم الطبيعية والهندسة والميكانيك؛ ومن هنا العمل على إنشاء معاهد ومدارس حديثة.
عمليات التحديث التي باشر بها سلاطين بني عثمان وحكام مصر كانت مدفوعة برغبة في تقوية النفوذ العسكري للدولة وكذا في توسيع قاعدتها السلطوية، " ذلك أن هذه القيادات حصرت اهتمامها كما بينا سابقا في تطوير الآلة العسكرية، ولم تبد أية رغبة في إصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد "([1])، بل على العكس من ذلك فقد عمدت القيادة السياسية كل ما بوسعها من أجل إبقاء الوضع الاجتماعي والسياسي على ما هو عليه والحرص على البيئة الاجتماعية والثقافية من خلال اتخاذ بعض الإجراءات التي تهدف إلى تحصين المجتمع العثماني والمصري من تأثيرات الثقافة الغربية.
ولكن لأن التقنية تحمل معها ثقافتها، ونظرا للجهود التي قام بها الرعيل الأول من المصلحين، سواء أولئك العائدين من أوروبا والحاملين لقيمها الفكرية والثقافية، أم أؤلئك الذين ساءتهم حالة التخلف العام التي تعيشها المجتمعات المسلمة، فقد بدأت بعض بوادر القيم والأفكار الغربية تتمظهر بخجل بداية الأمر في المجالين السياسي والثقافي من خلال انتشار بعض المفاهيم والقيم الجديدة التي لم يكن للعالم الإسلامي وهو الذي خيمت عليه قرون طويلة من الانحطاط، لم يكن له دراية بها، كمفاهيم الدستور والتمثيل النيابي والفصل بين السلطات والعقد الاجتماعي، في المجال السياسي، وفي المجال الثقافي والفكري بدأت بعض بوادر التفكير المتأثر بالعقلانية الديكارتية ومحاولات خجولة للخروج من التمركز الفكري حول النص الديني الذي ميز القرون السابقة والتي سميت بعصر الانحطاط، وهنا بدأ يبرز الدور الكبير الذي لعبه المثقف العربي في التبشير بالنهضة والعمل على تحقيقها من خلال عمله على تجاوز حالة القصور الفكري والروتين والاجترار التي كانت عليها نتاجاته في السابق، حيث انطلقت وفي وقت متزامن تقريبا عمليات الاصلاح الديني والفكري و والاجتماعي بالاظافة لعملية التحديث التي باشر بها النظام السياسي والتي تركزت كما سبق الذكر على مجال الصناعات العسكرية بغية تقوية الجيش، وقد كانت تلك الاصلاحات السلطوية محال انتقاد من طرف المثقفين الذين رأوا فيها عقبة في طريق الإصلاح الشامل، حيث ان الإصلاح كل متكامل لابد أن يشمل جميع المجالات حتى يؤتي نتائجه المرجوة، أما التركيز على مجال دون مجالات أخرى فإنه إصلاح أعرج مصيره الفشل، لأنه من غير المنطقي الفصل بين الحياة المادية والحياة الفكرية للمجتمع.
كان جمال الدين الأفغاني واحدا من أوائل المثقفين / المصلحين الذين نددوا وبشجاعة بالإصلاحات التي باشر بها السلاطين العثمانيين والحكام الخديويين في مصر، رغم أنه كان يتفق مع طموحات الحكام في ضرورة دفع عجلة التنمية العلمية والتقنية في مجالات الصناعة والاقتصاد، إلا أنه كان ينظر إلى التنمية من منطلق يربط التقدم التقني من جهة، وضرورة تبني خطاب حضاري يحفز أفراد المجتمع على النهوض بأمتهم من جهة أخرى
" ومن هنا فإن النهضة الحقيقية يجب أن تقوم نتيجة لبروز روح التجديد وظهور فلسفة التنمية "([2])، هذه الفلسفة والرؤية الشمولية كانت غائبة أو مغيبة عن الحكام الذين ركزوا على التحديث في المجال التقني وحسب مما جعل مجهوداتهم تراوح مكانها في غالب الأحيان.
يقول جمال الدين الأفغاني في هذا الصدد: " لذلك نرى الحكومة العثمانية والحكومة الخديوية مستمرتين في تعليم هذه المعارف ( التخصصية) منذ ستين سنة دون أن تجنيا ثمرة من تعليم هذه المعارف"([3]).
لقد امن الأفغاني وهو المثقف النهضوي المعجب بالغرب من جهة والواثق بقدرة المجتمعات المسلمة حين تعود لقيم الإسلام الأصيلة، امن هو ومريديه من المدرسة السلفية الإصلاحية، بأن التنمية الاقتصادية والإدارية لا يمكنها أن تبلغ النجاح المنشود، إذا لم ترافقها عملية إصلاح ثقافي واجتماعي تخلص المجتمعات العربية والإسلامية من تلك القيم والاعتقادات البالية التي تقف حجر عثرة في وجه التقدم، ومن هنا كانت النهضة الفكرية والإصلاح الديني في نظر الأفغاني وأتباعه تقوم أساسا على محاربة العقلية الجبرية التي كانت سائدة في المجتمعات المسلمة آنذاك إلى درجة صار عامة المسلمين يعتقدون بأن التخلف قدر لا مفر منه، وهو قدر إلهي لا يمكن تغييره بواسطة جهد بشري، ومن هنا تركز جهد الإصلاحيين سواء أولئك الذين تتلمذوا على يد الأفغاني، أو اللاحقين عليهم، تركز جهدهم وقد كانوا من صفوة النخبة الثقافية التي أنجبتها الأمة في ذلك الوقت على محاربة الذهنية الجبرية السائدة ورفض ذلك التفسير المظلم للتاريخ الذي كان يسوقه بعض الفقهاء الذين اكتفوا بما توصل إليه الأوائل واستراحوا له، ولم يكن جهدهم سوا شرح وتفسير المتن الفقهي القديم، ذلك التفسير المظلم للتاريخ الذي يدعوا عامة المسلمين للاستسلام للوضع الراهن لأنه قدر الهي كانت تتبناه أيضا بعض الطبقات المتنفذة من إقطاعيين وملاك أراضي وذوي النفوذ السياسي، أي أولئك الذين كان أي تغيير في الأوضاع القائمة يهدد مصالحهم بصفة مباشرة.