الجمعة، أكتوبر 24، 2025

ماذا نعني بوجوب احترام القيم الاجتماعية من طرف المبدعين؟ ! تأملات على هامش أزمة "هوارية"

 


ماذا نعني بوجوب احترام القيم الاجتماعية، هل علينا ونحن نطالب بهذا الوجوب أن نسيّج به واقعنا وهويتنا وسلوكياتنا الفردية والجماعية، ونجعل من القيم الحميدة  (قولا وفعلا) غربالا  نصفي به كل ما يقوم به الأفراد؟

إننا إذا طالبنا بذاك الوجوب بهذا الشكل سنكون بصدد التأسيس لشمولية قمعية تماثل بين جميع الأفراد لأنها تفرض عليهم نمطا واحدا من القول والفعل، وهو النمط المرضي عنه اجتماعيا؛ أي ذلك الذي يراعي القيم الحميدة للمجتمع كما تراها الفئة التي تملك التأثير الأكبر في تبني وصياغة القيم داخل المجتمع .

إن هذا المطلب  يبدو نبيلا في ظاهره ومتساوقا مع نزعتنا المحافظة كجزائريين، ولكن في حقيقة الأمر، وعلى المدى الطويل الذي يقاس به عمر المجتمعات، فإن فرض التماثل الاجتماعي في القول والفعل عبر غربال القيم الحميدة وهو يتحول إلى واقع مسنود بسلطة الدولة والدين وغضب العوام، هو قمع لنشاطات كثيرة أساسها الفعل الفردي المتحرر، مثل الإبداع  والابتكار  وتبني القيم الجديدة واعتناق المذاهب والأفكار المختلفة، أي مختلف مقومات التغير الاجتماعي بالمجمل، وقمع التغير من خلال قمع الاختلاف يؤثر على السيرورة الطبيعية للمجتمع التي تنبني على الاختلاف بالبداهة.

بداية علينا التنويه لبديهة نتغاضى عنها بقصد أو جهل في هذا النقاش البيزنطي وهي أن  المطالبة بوجوب احترام القيم الحميدة، والسعي لفرض احترامها بقوة الدولة أو السلطات الدينية والاجتماعية الأخرى التي تعتمد على التهييج ضد المخالف لترويعه وردعه، لا يخص الأفراد كأفراد، إنما المجتمع ككل، إلا إذا دخل في نطاق " الممنوع قانونا"، والدولة لحديثة باعتبارها سلطة تحكيم بين مختلف فعاليات المجتمع، قد تصيغ قوانين ردعية تحافظ على ما يراه البعض قيما اجتماعية حميدة أو مقومات للهوية، كما قد تتجه وجهة عكسية بفرض احترام الحرية الفردية بقوة القانون، يمكن تقديم قوانين محاربة الكراهية، والمعاقبة على الكلام الفاحش في الأماكن العامة كمثال جزائري على هذا المسعى الدولتي لتأطير الأفعال المختلف عليها اجتماعيا عبر قانون العقوبات، لأن ترك تلك الخلافات لإدارة الغوغاء سيعقد الأمور أكثر، ويهدد الانسجام الاجتماعي لأن حله دائما ما يكون مؤدلجا من جهة، وموجها ضد الأفراد كحلقة أضعف من جهة ثانية. نؤكد على أن المطالية بوجوب الإمتثال الأخلاقي في المجتمعات الحديثة لا يخص الأفراد كأفراد، إنما كجماعات؛ أي الأفراد  وهم في حالة انتماء جماعاتي يتعرفون به، مثلا تلميذ في مدرسة،  صحفي في مؤسسة إعلامية توجه خطابها لجمهور واسع، طبيب في مستشفى، موظف في إدارة عمومية ... هؤلاء الأفراد بصفاتهم تلك لا يعرفون بذواتهم إنما بوظيفتهم وبوضعهم  ضمن جماعة، حيث أن أي سلوك متجاوز للمعايير من طرفهم داخل فضاءاتهم المؤسسية تلك، يعتبر إساءة لها. حيث أن الفرد تضيق حريته كلما انتسب إلى جماعة/جماعات، وتتسع تلك الحرية كلما انسحب نحو فرديته. ونحن حين نوسع دائرة المطالبة بوجوب احترام القيم الحميدة سنجد أنفسنا ضمن مجال أوسع هو  الفضاء العام بمعناه السوسيولوجي، أي المكان الذي يستطيع من خلاله أي فرد الدخول في نقاش أو مخاطبة أفراد آخرين في سياق يتسم بالانفتاح والمرئية المجتمعية، أي سياق ذو طابع جماعي وليس فردي، مثال على ذلك: نقاش في مقهى، شارع، قاعة محاضرات... وأي فضاء يتوجه فيه المخاطب إلى جمهور يتجاوز الفرد الواحد.

هل الكتابة، والكتابة الروائية تحديدا، والهوارية على وجه الخصوص بما أنها باعثة هذه التأملات، تنطبق عليها شروط وجوب الامتثال للمعايير والقيم الحميدة؟! الإجابة: لا.

لماذا؟

أولا : لأن الكتابة هي خطاب يتجه من كاتب إلى قارئ مفرد، فالقراءة غالبا هي  فعل فردي يتم انطلاقا من اختيار شخصي وإرادة حرة في قراءة هذا النص دون غيره، ونظرا للطبيعة المجمعنة للقيم. فإن أي نص جنسي أو خارج، أو حامل لأفكار ضالة لا يمس بتلك القيم طالما بقي في سياق التلقي الفردي. نفس النص حين ندرجه ضمن البرنامج التربوي ونقرره على التلاميذ يصبح خاضعا للشروط السابقة التي تطالب بوجوب احترام القيم الحميدة، وبالتالي فإن الجماعة وعبر المتحدثين باسمها من حقها رفض تدريس هذا النص للناشئة- التي تتسم قانونا بالقصور؛ أي أنها فئة محمية من الآخرين وجوبا، وهذا ما يبرر التدخل والإدانة لكل ما يكسر المعايير المرضي عنها اجتماعيا.

ثانيا: ما يتعلق بالفن والإبداع في حد ذاته، هناك فنون وإبداعات جماهيرية مثل السينما والغناء والمسرح وهي التي غالبا ما تخضع للتقييد والمطالبات المستمرة بوجوب امتثالها للقيم الاجتماعية الحميدة، وفنون وإبداعات ذات طابع فردي مثل الكتابة التي تستدعي كما أسلفنا كاتب مفرد وقارئ مفرد، وبالتالي يفترض أن تكون خارجة عن تلك المطالبات بوجوب الإمتثال.

ثالثا: إن القيم لا تكون قيما إلا حين تصير  إجتماعية؛ بمعنى أن الفكرة/الأفكار التي تشكلت منها القيمة يشترك في تبنيها فردين فأكثر بشكل معلن، وأي محاولة لإخضاع الإبداع ذو الطبيعة الفردية للقيم ذات الطبيعة الاجتماعية يعبر في جوهره عن اعتلال اجتماعي. وأي شعور بأحقية فرض نمط قيمي معين ( كما هو حاصل الآن)، هو التعبير الأبرز عن الاعتلال الاجتماعي من جهة، والبيئة الخصبة لكل تطرف يستثمر  في غضبة العوام من جهة ثانية.

                ما يمكن التأكيد عليه ونحن نتابع هذه النقاشات التي تتسم في مجملها بشعور عارم من طرف الجميع، أفرادا وجماعات، أن من حقهم فرض ما يرونه متساوقا مع قيمهم واختياراتهم، ومنع المخالف من التعبير والظهور، هو أن الممنوع في المجتمعات الحديثة هو الممنوع قانونا، وهذه مسلمة بسيطة وجوهرية يجب الانطلاق منها والرجوع إليها، وتذكير  المغالين في المطالبة بالمنع والقمع بها كل مرة.      

conter