أكثر ما يحدث في المجتمعات الطالعة
لتوها من أزمات حادة - كحال المجتمع الجزائري – هو انقلاب المعايير، بحيث تصبح قيم
الأمس التي أوصلت للأزمة في تصور الأجيال الجديدة، موضوعا للإنكار والسخرية الأشد
مرارة، فتحميل الجيل السابق وقيمه، وسياساته واختياراته الاجتماعية والاقتصادية،
وطبيعة نظمه المجتمعية، سبب الأزمة، هو السبيل الأشد فتكا للإنقلاب عليها – أي قيم
الماضي- بما أنها مدانة نفسيا ومنكرة ومنذورة لمزيد من الإدانات في ظل عجز تلك
القيم وممثليها عن الدفاع عن تصوراتها، وموضعة الأزمة والفشل، وتحقق الأشياء على
غير ما كان مرجوا، ضمن سياق تاريخي واجتماعي يوزع الفشل على المجتمع ككل وعلى
التاريخ وتراكماته. في ظل هذا الفشل تمعن الاجيال الجديدة في الإنكار وفي رفض كل
ما يمت للماضي بصلة، لاحظ معي أن الثورة نفسها باعتبارها المرجعية الأعلى في تعريف
أنفسنا كجزائريين بصيغة الجمع التي تحيل على الدولة والمجتمع، قد صارت موضع سخرية
وتشكيك ومطالبات ملحاحة بوجوب إسقاط الهالة عنها عبر توالي الإدانات الفردية لبعض
صانعيها اللامعين، وهو رفض غير ممفهم؛ أي أنه رفض لا ينطلق من تصور واعي يبحث عن
البديل أو يستطيع تقديمه، إنه رفض لأجل الرفض مع العجز التام عن الدفاع عن بديل
مقنع، وهنا نكون بصدد معنى التيه واليتم الذي يصم جيلا بأكمله هو جيل الأزمة الذي
غالبا ما يدفع الضريبة مضاعفة لأجل استرداد المجتمع لعافيته تدرجيا عبر توطين قيم
وسيطة لا تضحي كلية بقيم الماضي وفي الوقت نفسه تواءمها مع مطالبات الأجيال
الحالية وذلك بجعلها أكثر ارتخاء ومرونة عبر التأكيد عليها قولا والتساهل مع
اختراقها فعلا وسلوكا، وهذا ما يحصل الآن ضمن سلوكيات معينة، خاصة ما يتعلق منها بالمرأة
ووضعها في المجتمع الذي يبدو أنه مهيء لمزيد من الانفتاح ولمزيد من جر المجتمع
بكلييته لتقبل وضع أكثر امتيازا للنساء سواء على المستوى الاقتصادي أو على مستوى
الاجتماعي، لأن الواقع يفرض هذا الوضع بقوة الأشياء، حيث أننا بصدد المعطيات
التالية:
-
تأنيث التعليم بنسبة ظاهرة ومعتبرة ما
يعني، الآن ولاحقا بشكل متزايد، تأنيث سوق العمل.
-
تحول النساء تدريجيا إلى مصدر الإعالة،
بالتشارك، أو المعيل الوحيد أحيانا، للكثير من الأسر الجزائرية، وهذا يمنح سلطة
أكبر لهن إزاء الرجل مادام مصدر السلطة في ظل اقتصاد السوق يصير اقتصاديا بشكل
حصري، أي أن من ينفق يمتلك سلطة القرار وبالتالي سلطة فرض تصوره للبناء الاجتماعي
سواء على مستوى الأسرة أو على المستوى الاجتماعي ككل.
-
فقدان الثقة في العلم لدى فئات واسعة
ومتزيادة من الشاب – جنس الذكور حصرا- ما يعني تحولهم تدريجيا في المستقبل القريب
إلى مهمشين لا يمكلون من مجالات العمل إلا الاعمال ذات التأهيل البسيط، وهذا الوضع
ينعكس بشكل حاد على طبيعة العلاقة الأسرية حين يقبلون على بناء أسرة.
-
إنتشار التصورات البراغماتية حول
الزواج لدى الشباب، حيث تراجع مفهوم بنت الفاميلية أمام سطوة الـ ccp لدى الكثير من
الشباب، الذين، ونتيجة وضعهم الاقتصادي الهش وتردي المستوى المعيشي، صاروا لا
يثقون في قدرتهم على الإيفاء بمتطلبات الأسرة، مما جعل عمل المرأة هو المعيار الأول
في اختيار الزوجة لتأتي بعده باقي المعايير. وهذا الوضع يخلق أزمة نفسية حادة لأنه
منكر على مستوى القول ومدان خطابيا، رغم أنه المحرك الفعلي لسعي الشباب نحو
الارتباط بامرأة عاملة.
في ظل هذه المعطيات، وهي معطيات مختارة
من ضمن محموعات معطيات كثيرة، بعضها أكثر سوءا، لا يمكن توقع الأفضل بالنسبة
للانسجام الاجتماعي، ولا يمكن الحديث عن الثقافة والهوية الوطنيتين وعن القيم
المجتمعية وفق تصورات ماضوية، لأن ذلك يجعلنا ننساق خلف الخطاب المفارق للواقع
الاجتماعي. إن التاريخ تصنعه التحولات الحاصلة امامنا والتي لا نتوقف عن إدانتها
والتشنيع بها لأنها صنيعة اجيال نصمها بالتيه والضياع، هذه الأجيال وإن كانت كذلك
بشكل من الأشكال، فهي ضحية الفشل الذي صنعه ويصنعه المجتمع منذ أكثر من نصف قرن.