الجمعة، ديسمبر 27، 2013

عن الطالبات

الطالبات في عرفنا وأقصى تخيلاتنا غانيات مكسوات بالبهاء، هن العاشقات وهن المعشوقات وهن سيدات الدلال، ومالكات فتنة لا ينضب لها معين، هن اللواتي في صوتهن وعد الخضوع، وفي ضحكاتهن حين تتعالى صخب الفتوة والشباب. مغريات هن حين يمزجن الضحكة الغنّاء بمكر النظرات البارعة في توزيع وعود لا تتحقق، وهن المسكونات بيقين أنثوي لا يخيب أن مشيتهن الواثقة تزرع حولهن الارتباك، وتخلق في القلوب آلاف الحسرات، وهن يتقدمن بخطى فيها الرشاقة والخفة والرنين الذي يشحذ الانتباه من أمامهن وخلفهن، وهن اللامباليات، يتظاهرن، حين تحاصرهن العيون المعجبة، بالتأفف والتعفف وقلة الانتباه، وعيونهن تسرق النظرات وتوزع الأماني.
ملتحفات بخمورهن، أو تاركات شعرهن للريح يتطايره، يشتركن في عشقهن لسراويل الجنيز تحت الجلابيت السود او بدونها، وقمصان تضيق عند الصدر وتضيق لتخبر عن جسد عامر بالخصب والعطاء، وعن نهود تبعث من تحت القمصان والجلابيب وعبر الطوق المفتوح صهد الشبق والاشتهاء، وهن، في دلال الواثقات يبرعن في ضم الكتاب الذي بين اليدين للنهدين، أإخفاء لإمتلاء زاد عن لحد المرغوب وإشعالا للخيال الذي لم يبصر التحت بعد، وليس الكتاب المضمون للنهدين او المتروك مهملا على الركبتين في قاعات الدرس أو في الحافلات العامة سوى علامة تميز، ورغبة في الإخبار عن هوية تعلمن أنها تجلب السعد والحب، وتغري بالاقتراب، فالطالبات في عرفنا وأقصى تخيلاتنا هن المالكات لحرية الخروج، وللرغبة في عيش المغامرة، وللجرأة على التجريب العاطفي، إنهن في عرف البعض ممن انطقهن كبت السنين بالمتبذل من العبارة: عاهرات محترمات. أو، بالأقل من ذلك الابتذال: هن نساء يسعى الكل لغض الطرف عن هفواتهن. إنهن مقصورات الطرف التي يعد كل عشاق الجمال وطلاب المتعة انفسهم بهن، ولو تخيلا.

المتعلم وتقديس المرجعية



التسليم بما يصدر عن مرجعية أعلى ( الأب، الإمام، الأستاذ، الكتاب، وسائل الإعلام المكتوبة خاصة ) هي ثقافة سائدة لدينا كعرب وكمسلمين، وهي ثقافة موغلة في القدم ومتكئة على الاستدعاء الدائم للمرجعية والأصل، وتقديس كل ما تقادم من المأثورات والأقوال والأحكام، إنها ثقافة تعادي التجديد وتعادي الإبداع المركون عنوة في زاوية مظلمة تسمى البدعة، والبدعة ضلالة في عرف العارفين الضالعين في مراتب التقديس المرجعي للأصل وللسلف الذي ما ترك شيئا لعقول الخلف.
فابتداء من القرآن كنص مقدس وكأول المكتوبات وأكثرها تأثيرا في التكوين العقلي والنفسي للفرد العربي المسلم، وعلى امتداد تدوين ( كتابة ) الحديث، وتصنيف العلم الذي ما كان يعني في العرف العربي القديم سوى العلم الشرعي المسيّج بالقداسة والغموض الذي يستعصي على أفهام العوام؛ أولئك الذين لا يطلب، ولا ينتظر منهم سوى التصديق والتسليم بما يقرؤون او يقرؤ لهم من نصوص متعالية متشحة بالقدسية، فالنص المكتوب بالعربية ظل دائما في الفكر الشعبي الذي لم نتخلص منه رغم كل عمليات التحديث، لصيقا بالقداسة، فالعربية لغة مشدودة عنوة إلى الدين وقداسته وإلى المعرفة اللدنية، أي تلك الرؤية العرفانية التي بثتها نصوص الصوفية في الوعي الجمعي عن طريق الزوايا واحتفاليا الموالد و" الوعدات " التي تتلى فيها نصوص لا يفهمها اؤلك المريدون المنتشون في حضرة السيد العارف اللائذ بالغياب إمعانا في تعميق الإحساس بالقداسة وبالرهبة امام إرثه المتداول حكايات اسطرتها الرواية المتعددة لها شفاهة وكتابة.
إن أول ما يتعلمه الطفل العربي، غالبا، هو القرآن، والنص القرآني، بقداسته، يشكل بالنسبة للطفل أول لقاء بالمكتوب / القدسي، ونتيجة المناهج التعليمية المرتكزة على التلقين الحرفي وعلى المعلم / العارف الذي لا يقول إلا صدقا في نظر المتلقين / التلاميذ / الطلبة، فقد نتجت، وتعمقت تلك القدسية الرهيبة التي يتعامل بها لطلبة مع ما يجدونه مبثوثا في ثنايا الكتب، وخاصة الكتب التعليمية تقدم من خلال نصوصها منتوجا معرفيا يزعم لنفسه تقديم معرفة وعلم يقيني لمن هو بحاجة لذلك العلم ( الطلبة )، وهذا ما يجعل التعامل مع الكتاب بالنسبة لطلبة لم يتعلموا القراءة والنقد خلال مراحل تعليمهم السابقة على الجامعة، تعاملا يشوبه الكثير من الارتياب والرهبة والاستعداد المسبق للتسليم بكل ما يقرأ، نتيجة التأثير الرهيب لصدمة الإلتقاء الأول بالكتابة من خلال نص مقدس يعتبر التساؤل حلو صحته او معناه المضمر نوعا من التجديف، وهو القرآن.

أغنية محمد الزاني


هي اغنية عتيقة، نسائية الروح والكلمات، مغرقة في تحسرها على الحبيب الذي خان بعد أن نال من محبوبته ما أراد. كانت ولوقت قريب ترددها النسوة بالأعراس، هنا بمنطقة جيجل، وإن كان ترديدها يقتصر غالبا على سهرات دار العروس، وكأنها نوع من التوديع النسائي لحياة العزوبية بما فيها من أخطاء وهفوات ومن عشق مباح ومستباح، وكتحية إخلاص للحب االذي كان صادقا رغم أنه لم يكن في مستوى تطلعات فتاة ريفية، بسيطة الوعي، تربط الحب بالزواج بشكل تلقائي.
في الأغنية تحسر على غدر الحبيب، وعتاب شديد لا كره فيه لذلك العاشق الغادر، بل، ورغم مرارة ما آلت إليه حال تلك الفتاة العاشقة المفطورة القلب والمخدوعة في شرفها، فإنها تظل تؤكد على حفظ الود، وصيانة الذكرى من النسيان، وكأن تلك اللحظات التي عاشتها في حضن الحبيب، هي أثمن وأعمق ما عاشته في حياتها، لهذا فهي حين تكرر تاكيدها على حفظ الود والحب، وكأنها تؤكد على وجوب حفظ دكرى الحب لا ذكرى الحبيب، لأن الحبيب المخادع الموصوف في الاغنية " بالجنش " لا يستحق كل ذلك الحب وكل ذلك الوفاء، وكأنه، في هذه الأغنية، أي العاشق، مجرد تعلة، ومجرد وسيلة لعيش تلك الحالة من العشق والافتتان والاستسلام لشهوة الكشف وشبق الاكتشاف والإنكشاف روحا وجسدا في حضرة المحبوب، رغم خطورة ما ينجم عن هكذا علاقة مجرمة اجتماعيا.

لاشْ أَمحمدْ أَمحمَّد لاش أَمحمد الزّاني 
تْوسَّد دْرْع مرْتو والدَّاه النُّوم وخلاَّني 
عْويناتو عْويناتوُ عوينات الحنش في الليل 
كِنتفَكر أَمحمد الدَّمعة في الفراش تْسيل
عويناتوُ عويناتوُ عوينات الحنْش في الماء 
وْكِنتفَكر مْحمد الدَّمعة تَسْبق الكلمة 
أو و الله ما نْسيتك يا خْليلي غير إيلا برْدت الكَلْمة 
ضربوُني وجَرحوني وْسال الدَّم علَّخراضْ
ضربوني عذراعي وْزادولي عْللْخمَّاس 
لاش أَمحمد أمحمد لاش أمحمد الزَّاني 
توَسَّد درع مرتو والدَّاه النُّوم وخلاني 
زافْ الريح زافْ الريح والريحْ خَلخَل فْوادي 
و الله ما نسيتكْ يا خْليلي ولو نْعود بولادي 
زاف الريح زاف الريحْ، والريح خلخل الجوزة 
و الله ما نسيتك يا خليلي حتى نعود عْجُوزة
ضربوني وجَرحوني وحتى سالو عيْنياَّ
و الله ما نسيتك يا خْليلي حتى يبرْدو رجليا
لاش أَحْنيش لاشْ أحْنيشْ تزَفر عليَّا
وأنا صاحبي مْحمد وحماتي يهوديَّة
لاش أمحمد محمد لاش أمحمد الزاني 
توسد درع مرتو والداه النوُّم وخَلاني 
لاش أمحمد أمحمد لاش امحمد يا الطَّحانْ
فَموُّ يهدر مْعايا وقلبو مع المْرة في الداَّرْ
الدَّردوس والدَّردوس عدا على الغابة 
و كنتفكر خليلي والدمعة سرابا

سلطة الكلام



يميز باختين بين نوعين من الكلام: الكلام الآمر والكلام المقنع.
يمتلك الكلام الآمر سلطة داخلية، ومشروعية مسنودة غالبا، بالإستعداد الذي يبديه المتلقي لتقبله والتسليم بما جاء فيه. إن الكلام الآمر عادة ما يكون خطابا أخلاقيا وأبويا، إنه كلام الكبار والأساتذة والزعماء الملهمين وقادة الرأي العام.
على العكس من ذلك، فالكلام المقنع هو كلام عامة الناس، أو بتعبير أدق هو كلام أولئك الفاقدين للسلطة والمجردين من هيبة المشروعية التي تموضع كلامهم في رواق المقبولية، ولهذا فغالبا ما تكون الخطابات التي تصدر عن هؤلاء الفاقدين للسلطة، خطابات تفتقد للتقدير الإجتماعي، بغض النظر عن مستواها او أصالة ومصداقية ما تتضمنه.
إن هؤلاء، وحسب توصيف بورديو، يفتقدون للسلطة التي تنقل خطابهم من مجال الكلام المقنع إلى مجال الكلام الآمر نتيجة افتقادهم للرأسمال الرمزي الذي يموضعهم بشكل أفضل داخل الحقل / المجال الذي يصدرون ضمنه خطاباتهم، وسعيهم من أجل تحصيل رأس مال رمزي داخل الحقل يجعل خطاباتهم غالبا ذات نبرة نقدية واحتجاجية حادة اتجاه التسلط والأبوية، وهيمنة المرجعية. تلك المرجعية التي يتخذون، في مسيرة تحصلهم للرأسمال الرمزي، من توكيد الإنتماء إلى روحها، وتمثل بناءها النظري مقولاتها المفهومية، سندا ودليلا على أحقيتهم في ولوج الحقل الثقافي / الأكاديمي / السياسي / الديني ... الذي ينتجون خطاباتهم ضمنه. وفي نفس الوقت تكون تلك المرجعية موضوع نقد حاد وغير رحيم من طرفهم، على اعتبار انها تشكل الحصن المنيع الذي يصدر أصحاب المشروعيات المكرسة كلامهم الآمر من خلف أسواره.
لكن غالبا ما يكون ذلك النقد وتلك الهجمة على أسس وتمظهرات تلك المرجعية المكرسة للمشروعية، نقدا غير أصيل، وبالتالي فاقدا للقدرة على خلخلة تلك الأسس، وذلك بسبب كونه مجرد وسيلة تدافع على الخيرات الرمزية التي توفرها المرجعية، أي أنه من مصلحة أصحاب الكلام المقنع الذي يتسم بكونه أقل دوغمائية واكثر انفتاحا وتقبلا للرأي الآخر، أن يحافظوا على تلك المرجعية قائمة، لكن مع تركيز النقد الملحاح على استبداديتها وتهميشها للآخر، بشكل يضغط من اجل فتح الأبواب امام هؤلاء الوافدين الجدد بعد ان اكتسبوا الرأسمال الرمزي الكافي ليتحولوا من أصحاب كلام مقنع إلى اصحاب كلام آمر، أي إلى مالكين لمشروعية انتاج خطابات تمتلك قوة داخلية تمنحها هالة وهيبة لدى المتلقين.

الثلاثاء، ديسمبر 03، 2013

عن أحمد فؤاد نجم الذي لا يموت



بذيء اللسان والقلم كان، ككل الغاضبين لاغتصاب الحق وغيبة الوعي، كان أحمد فؤاد نجم كما وصفه أنور السادات: الشاعر البذيء. وهو رغم، وبواسطة تلك البذاءة كان أكثر من عبر عن أوجاع الروح المصرية بلغة تمتح من محكي الشوارع وصراخ الحارات العتيقة، ومن دندنة صبية المقاهي في حارة خوش التي جعل منها نجم ورفيق دربه الشيخ إمام محج المثقفين وكعبة الغاضبين الراغبين في التنفيس عن إحباطهم الطبقي الذي عبرت عنه أشعار ذلك الفاجومي النحيف الجسد والقوى ألإرادة ذلك الذي في شعره قوة تسقط الأسوار كما وصفه لويس أراغون.
لم تكن حياة احمد فؤاد نجم، وهو ابن عائلة نجم المعروفة ببر مصر، إلا حياة صعاب تُتَجاوز، ومكابدات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد تماما كما مكابدات بروميثيوس الأبدية في إيصال الصخرة إلى أعلى الجبل. وهذا ما جعل في شعره ثورة غضب لا تخفي وإن تمت مداراتها أحيانا بخفة العبارة وحلاوة المزاح الممزوج بطعم المرارة؛ وهو الطعم نفسه الذي عمقته موسيقى الشيخ إمام، التي اتكأت على أشعار نجم، ليشكلا ثنائيا من أشهر الثنائيات الفنية في التاريخ العربي الحديث، رغم صدامية النهاية التي ميزت علاقتهما، لكن الترجمات الموسيقية التي قدمها الشيخ الضرير لأشعار الفاجومي، ستضل أهم ما يربطهما، واكبر من كل خلافات النهاية، تلك العلاقة التي ابتدأت في حارة خوش، وفي ذات الحارة نمت وتناسلت اعمالهما المشتركة، تلك الاعمال الثورية، الهادفة لإيقاظ الوعي الشعبي المصري من غيبوبته ومن لا وعيه بوضعه الطبقي في مجتمع يستنفذ كل القدرة على الصبر والاحتمال التي يتسم بها الغلابى والمقهورين، في بلاد خابت فيها كل اماني ثوارها ووعود ساستها، فانقلبت وعود الثورة والوحدة العربية التي بشرت بها ثورة يوليو والتي آمن بها نجم، إلى دكثاثورية واستبداد، وقمع للحريات وتكميم للأفواه، وهو ما عاناه نجم وشريكه الشيخ إمام كثيرا وطويلا، ولعل الشيخ إمام هو أول موسيقى عربي يسجن بسبب تأليفاته الموسيقية، فكما يقول عنه رفيقه نجم: " أول موسيقي تم حبسه في المعتقلات من أجل موسيقاه وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبهم وتفضحهم".
والفضح، وببذاءة لا تخجل من نفسها وعباراتها، هو ما قام به أحمد فؤاد نجم خلال المرحلة التي يسميها كمال عبد الملك في كتابه عن نجم بمرحلة: بلاغة العنف الثوري " ، والتي هي قمة تطور الوعي السياسي لنجم، والذي رافقه تطور وتثوير لأساليب الكتابة الشعرية التي ظلت وفية للعامية المصرية كقالب لغوي قادر على احتواء كل ما جادت به قريحة الشاعر البذيء أو الشاعر البندقية كما أسماه الراحل علي الراعي.
إن ثورية ما كتبه احمد فؤاد نجم، قد جعلت منه واحدا من اكثر المثقفين العرب تعرضا للإعتقال. لكن 18 سنة من الاعتقالات لم تكسر فيه روح الدهشة والحلم والأمل، والإيمان بالقدرة على التغيير، فكونه مثقفا ملتزما ذو رؤية يسارية عميقة التجدر وشديدة التأثير في سلوكياته ونتاجاته الإبداعية، جعله لا يكف عن النضال السياسي، سواء من خلال حزب الوفد الذي انتمى اليه قبل ثورة 25 يناير، او من خلال تصريحاته التي ظلت تلهم الكثير من الشباب العرب، وهو قد آمن بالشباب وبالفن، حتى آخر نفس.
أحمد فؤاد نجم، المناضل الشيوعي وعاشق الخمرة والنسوان، صاحب الثمان زوجات الذي اكتشف بعد رحيل العمر والقوة على أنه كان حمارا، كما عبر بنفسه عن خيبته من كل تلك الزواجات، ومن حبه الأول لابنة عمته التي حال الوضع الطبقي بينه وبنها، بسبب كونها من عائلة غنية، وهو مجرد بروليثاري يئن تحت وطأة فقر الجيب وغنى الوعي. هو يرحل عنا، ويبقى فينا حاضرا كما يبقى كل العظماء الذي ينيرون دروب الوعي الانساني بكتاباتهم، وهو عبر سيرة حياته الملحمية، وعبر ما خلفه من إرث شعري، سيظل واحد من تلك المنارات الثورية التي ستحرضنا دوما على أن نؤمن بأن الوضع القائم ليس قدران وإن خيانة الوعود الكبيرة لا يمكن ان تبرر، أو يدافع عنها تحت أية ذريعة.

conter